لطلب خدمة التعبير الهاتفي فضلا ابعث رسال لرقم الجوال:0568849911,أخي الزائر / أختي الزائرة مرحبا بكم في موقع بشارة خير ولتفسير أحلامكم نرجو اطلاعكم على المواضيع التالية:,منتدى التعبير المجاني بموقع د/ فهد بن سعود العصيمي,تفعيل خدمة الدعم الهاتفي (رسائل واتس أب) وإشتراك الدعم (الماسي), |
الدكتور فهد بن سعود العصيمي |
اللهم ارحمهما واغفر لهما واجعل مثواهما الجنة |
صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبدالرحمن بن عبدالعزيز حفظه الله ورعاه |
مساحة إعلانيه |
لطلب خدمة التعبير الهاتفي فضلا ابعث رسال لرقم الجوال:0568849911,أخي الزائر / أختي الزائرة مرحبا بكم في موقع بشارة خير ولتفسير أحلامكم نرجو اطلاعكم على المواضيع التالية:,منتدى التعبير المجاني بموقع د/ فهد بن سعود العصيمي,تفعيل خدمة الدعم الهاتفي (رسائل واتس أب) وإشتراك الدعم (الماسي), |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
الطفل العاقل أحببت جداً تلك العبارة التي قالها أستاذي المفكر د. عبدالوهاب المسيري -رحمه الله- (الطفل إنسان عاقل)! إنه منذ الصغر يفهم ما حوله، ويشعر به، ولربما يبكي من لوعة الفراق ما يفتت الحجر، ولكنه غير مكلَّف، لأنه يتصرف بعفوية مطلقة! كان خروجي طفلاً لباحة الدنيا في (9/1/1393هـ - 12/2/1973م). وفي الليلة التي ولدت فيها، تزوجت فيها. وكان على بطاقة زواجي (يوم عاشوراء)!! أتذكر من الطفولة أشياء جميلة، وأشياء حزينة. فأمَّا الحي، فهو (الهنداوية) وسط مدينة جدة، وعاصمتها الأم! كان أبي يعمل في وزارة الخارجية، ويرسخ في ذهني عنه أنه كان يأخذني إلى طبيب مصري يحب الجلوس معه، ويقول له: هذا (علولي)! وصديق آخر يمني اسمه (علي) وبه سُمِّيت كما رُوي لي، أهداني لعبة (مسدس، وأدوات حربية)!! وأذكر أنه كان يأخذنا أسبوعياً إلى بيت عمِّي الشيخ داود العلواني العمري، وهو شقيق أبي الأصغر، كل جمعة، فنجلس في بيته الذي كان سكناً في مسجد الأمير منصور بجدة سبعة عشر عاماً. وكنا في الذهاب والإياب نشعر بالتعب لكثرة عدد الأولاد وصغر السيارة (الفولكسواجن)، وكنا نسميها (سيارة خنفسانة)!! وأتذكر تماماً أنه كان يأخذني إلى الروضة، وأستطيع أن أصف المدخل الجميل والشجر الكبير الممتد على جنبات هذه المدرسة القريبة من مقر عمله (وزارة الخارجية)، وأذكر في مرة قبل الذهاب للروضة أنني اشتريت ببضعة قروش إسكريم مثلج (توت) كان يباع في كيس نايلون، فتحمله وكأنك تحمل قلباً! نعم، الطفل إنسان عاقل! هل يا ترى تَذَكُّر كل هذه التفصيلات الدقيقة في السنوات الثلاث الأولى لا تعني شيئاً؟ هل الغنج والدلال بـ (علولي) لا تمد في نفسي مساحات من الحب المطهر، وتعسكر فيه أجندة الولاء لأبي؟ نعم لا أتذكر المراجيح وألعاب عطاالله وسواها، لأن أبي كان إنساناً محافظاً على الوقت، حريص ألا يختلط أبناؤه بمن لا يثق بهم، بل لا يريد أن يجرب أبناؤه الصداقة إلا مع الأقرباء الثقات فقط. تلك كانت سياسته! وهي سياسة صحيحة من جهة، ولكنها محرجة من طرف آخر! فقد كان أبي كثيراً ما يمنع جلوسنا ونحن أطفال في الجلسات العائلية، أو حتى بعض زيارات الجيران والأصحاب، لما يخشى أن يداولوا الحديث فيما لا فائدة فيه، أو يعلقوا على أمرٍ لا ينفع، أو يتباسطوا في شيء لا يعود بذكرى طيبة! نعم، كان يحافظ على طفولتنا بنهجه الفطري، بل وتدينه العالي. ورغم ذلك كنت غير موافق على هذه الطريقة وأنا طفل. لأني كنت ألحظ بعض الأقران من الصغار يجلسون بجوار أهليهم، وأجد أنهم ممتَّعون بالجلسة أكثر من متعتهم بفحواها! وهذه الحوادث الطفولية تجعلني أتأمل مسألة تربوية إلى اليوم:إن الطفل يمر بمرحلة مراهقة سيكلوجية ونفسية تحتاج إلى عناية وتقدير حسن، كما يحتاجها الشاب تماماً بعد سنِّ البلوغ. والمرحلة التي تمر بطريقة سليمة تسلِّم نفسها للمرحلة التي تليها بسلام! إن المسألة التربوية في مرحلة الطفولة معقَّدة. فالعبقرية المنشودة عند بعض الآباء والأمهات لأطفالهم ليست بالضرورة ناشئة من عناية فائقة بهم على مستوى ما، بقدر ما هي الحفاظ على توازن كل مرحلة بمتطلباتها. الشيخ على العمري
|
|
من القوة ضعف ومن الضعف قوة ليس ثمَّة شيء يمكن أن يفكر فيه الإنسان في أسلوب خالي (عبادي) وهو (عبدالله) في مدافعته المستميتة للحارة وشبابها، وسجنه الطويل بل والطويل جداً عند الدخول في (المضاربات)، وإيقاف المعتدي عند حده إلا أسباب ثلاثة، هذه الأسباب آمنت أنها السبب الرئيسي لنجاح الشباب أو إخفاقهم. وقبل أن أذكر ما وصلت إليه من تجارب وآمنت به كحقائق حول هذه الأسباب أذكِّر أن (عبادي) لم يكن المبادئ بالخصومة، وليس مفتعلاً للمشكلات، وليس حجراً لا يقتنع ويفهم، بل هو إنسان له وعليه! روى لي الشيخ المقرئ (محمد حوّى) أخو المنشد المشهور (يحيى حوّى) أن عمه العالم الداعية المعروف (سعيد حوّى) كان في بداية حياته العلمية والدعوية متشدداً جداً، وكان إذا نصح تعامل بلغة الضرب مع أهل بيته!! فإذا رأى إحداهن أظهرت طرف يدها من وراء (العباءة) التي تستر كامل جسدها بالخطأ يضربها من غير تفاهم!! وبعد مدة تعرف على أحد العلماء العارفين والزهاد الربانيين، وعلمه بسلوكه قبل كلامه كيف يكون التعليم وكيف تكون الدعوة، فما كان من الشيخ (سعيد حوّى) إلا الاستجابة للطريقة النبوية في المعالجة، وتصحيح الخطأ بأسلوبه الراشد، وألَّف أول كتاب بعد هذه المرحلة (تربيتنا الروحية)!! إن سماع هذه الأخبار في المجالس يربي الذات كثيراً، والتأمل في هذه القصص الحصرية يساعد بشكل كبير على تفهم المرحلة. لذا أنصح كل الشباب أن يسعوا لالتقاط القصص والحوادث الحصرية عند أصحابها والتي تسهم بشكل كبير في تشكيل عقولهم وبنائهم! نعود للأسباب الثلاثة التي تؤثر على الشباب سلباً وايجاباً، وهي ما أؤمن به الآن، وأدعو لتبنيه: أولاً (حسن التربية)، وثانياً (جودة البيئة)، وثالثاً (عمق التجربة). وسأتحدث عن هذه النقاط الثلاثة فيما بعد، لأهميتها، لإيماني الكبير أن من أراد أن يبني غيره، أو يبني نفسه فلا بد أن يلتفت إليها. خالي (عبادي) كان والده من أصلح الناس، وأتقاهم - ولا نزكيه على الله-، لكن والدته غادرت دنياه منذ صباه، وفقدان هذا الجو العاطفي كان له أثر كبير على (تربيته) وطريقة تفكيره ومسار حياته وطبيعة سلوكه! (وبيئة) الهنداوية كانت هادئة نوعاً ما، وتغلب عليها الفضائل، وتزدان بالشيم، لكن المحاضن التربوية لم تكن موجودة، وشيوخ الدعوة والتربية لم يكونوا ظاهرين، كل ما في الأمر كانت مواعظ الجمعة التي يلقيها الشيوخ الكبار. وأما عن (التجربة) فكانت المجادلات والمضاربات هي التي تظهر قوة الحي وقوة شبابه، وهي الأسلوب الوحيد الذي يجعل إعلانات الجدران تتزين بأسمائهم ورسوماتهم، هكذا كانت الحياة تسير! وظلَّ خالي (عبادي) على هذا المنوال من مدافعة عن شباب الحارة إلى مدافعة أخرى، وغاب عن ناظري عشرات السنين، آراه فيها لماماً. ويشاء الله في مشارف عمره في أواخر الثلاثين، وبعد خروجه من السجن أن يجلس مع إخوانه (أخوالي) فينصحوه ويوجهوه، فوجدوا أنه مهيء لذلك بقدر رباني، ليس لهم فيه كبير نصيب! وكانت (الهنداوية) تلك الفترة بدأت فيها بوادر الصحوة المباركة، وصار خالي يرى شباباً غاب عنهم يذهبون للمسجد، فملابسهم ووجوههم وكلماتهم واهتماماتهم غير التي كان يعهدها عنهم! وتركت تلك البصمات في كل (زقاق) و(برحة) في الهنداوية أثرها على خالي. ولأن دماء الرجولة والإباء في دمه، كان يأبى أن يحدثه أحد عن الصلاة، بل كان يذهب إليها باختياره، حتى أنه إذا تأخر لأي ظرف وناده أحد لا يذهب إليها!! إنها بقايا موروثات الماضي!! فكان يدور ما بين المسجد وما بين البيت، والفزعة لطلبات البيت، خدمة وتوصيلاً إلى حيث ما يردون. (يا الله) .. ما الذي يجري؟ إنها أقدار الله وألطافه! وفي يوم من الأيام ذهب (عبادي) إلى الطائف وأوصل أخته لبيتها، وعاد إلى مرتعه الأحب (الهنداوية)، وقال لخالته بعد أن وصل ضحى: (صحوني للظهر)، ولأن خالته الحنون رأت علائم التعب تركته للعصر، فلما أرادت أن توقظه للصلاة كان قد أدى المهمة، وأنهى الرحلة، ومات البطل النشمي على فراشه -رحمه الله-، من غير مرض أو سابق إنذار، وفي قمة شبابه وعنفوانه، ولكن في اللحظة التي رقّ فيها قلبه، وأنست فيها نفسه، وكان ينتظر فيها الزوجة التي ستكمل معه مشوار الحياة!
|
|
الطفولة.. مطلب ومهرب! بلا مبالغة، قرأت عشرات المجلدات عن هذا العالَم البريء والمستتر ( عالم الطفولة )! قرأت رسائل ماجستير ودكتوراه، وكتب طبية وثقافية وسلوكية، وتابعت مجلات متخصصة، ونظرت في برامج متعددة، وحفظت قصائد متنوعة، كل ذلك عن الطفولة. ومع كل ما قرأت وتابعت ونظرت وسمعت تبقى الطفولة عالماً آخر! أجلس أحياناً جلسات رقيقة مع بعض الأصدقاء وأسألهم عن مرحلة الطفولة فأجد أجوبة متباينة!، خلاصتها: أن منهم من يتمنى العودة لأيام الصبا، ومراتع اللهو، ولحظات البراءة، حيث المتعة والدلال، والنظافة، والعفوية، والاهتمام من الوالدين! ومنهم من لا يتمنى العودة حيث الضرب، والذكريات الأليمة، والحرمان، والإهمال! لقد عشت الطفولة بكل تفاصيلها، وأنعم الله عليَّ بمواقف أحفظ أدق تفاصيلها وأنا بين السنة (3-5)، وأنسى أخرى تروى لي اليوم من إخواني وأمي وقد مسحت من ذاكرتي تماماً! عندما أتذكر تلك اللحظات بكل تفاصيلها أقول في نفسي: إن للطفل قدرة عالية بل وعالية جداً على اختزان المعلومات وتذكرها ولو بعد عدة عقود! وعندما أحسُّ إلى هذه اللحظة ببعض الحرمان من مطالب كنت أود أن أحصل عليها ومنعت منها لأسباب البيئة والتربية آنذاك، أدرك خطورة الجانب الإنساني، وعمق دوره ولو كبر الإنسان وشاب رأسه! نسمع اليوم ونشاهد نماذج كثيرة وكثيرة جداً ليست بالضرورة أن تكون ذكية جداً وعبقرية إلى أعلى مستوى، بقدر ما كانت البيئة ممتازة في العناية بالطفل من الناحية العقلية. ومن صور ذلك ما حدثني به شيخنا العلامة محمد الحسن الددو الشنقيطي -حفظه الله- أن أمه كانت تطلب منه إعراب بيت من الشعر وعمره خمس سنوات! وقرأت في إحدى المجلات أن طفلاً عمره (5 سنوات) قفز من الطائرة من على بعد (8000م) في الهواء عبر المظلية، وقد جربت هذا الأمر الخطير والمغامرة الصعبة وأنا على مشارف الأربعين، فكيف بابن الخمس سنين؟! ما تفسير ذلك: هل هو القدرات الخاصة، أوالعبقرية المميزة، أو ما يسميه علماء النفس (الفروقات الفردية)؟! إن هذا الأمر صحيح بنسبة ما، ولكنه بالعموم ليس صحيحاً بحكم التجربة، والمعرفة الدقيقة، والاحتكاك المباشر بالأشخاص الذين كانت طفولتهم مميزة وصاروا حفظةً وعباقرةً بعدئذ. القضية في تمرين الطفل، واحتضانه نفسياً وتربوياً وجسدياً وعقلياً! والاهتمام في هذه المرحلة بنسبة كبيرة له تأثيره العظيم، ويصدق عليه قول الحكيم: الحفظ في الصغر كالنقش على الحجر. أتذكرُ الآن ما حفظته ما بين سن (3-5) سنوات، الطريق الذي كان يأخذني فيه أبي من البيت للروضة، أشكال وأماكن بيوت حارتنا وحارة الجيران، أشكال الحلويات واللعب، وصوربعض الزوار والزائرات للبيت، أحفظ هذا وأتذكره الآن بلا كبير عناء، وأتساءل عن غيري ماذا يمكن أن يحفظ ويتذكر اليوم؟ دائماً ما أضع المقارنة بيني وبين ابني حمزة والذي هو الآن في السنة الثالثة -حفظه الله-. أقارن ما عشته وقرأته وما كنت أتمنى أن أكون عليه آنذاك في ولدي. إنها أحلى وأجمل وأفضل فرصة للتجديد والتعبير عما أريده في الطفولة. أريده أن يتمتع ويلهو ببراءة الطفولة، وأريده أن يتعلم بما يتناسب مع قدراته وما أهيئهُ له من أجواء لتتراكم في ذاكرته -بإذن الله-. بل وفي الوقت نفسه ألتقط له الصور وأحفظها له، ليتذكر الجميل والمفيد في مرحلته. إنني كل ما شاهدت منظراً لأطفال مميزين (كمجلس شورى الأطفال) بالشارقة، وبرمجة إلكترونيات يسيرة في أمريكا، إلا وتجدني متحفزاً لتربية ابني على المعالي والنجاح. ولكن أهم من هذا كله أتذكر ما يجب أن أحمله من (نية خالصة) و(قدوة حسنة)، و(نفسية متعافية) و(عمل صالح)، و(روح طيبة)، و(تفاؤل جميل)، ليؤثر هذا كله على ولدي -بإذن الله- ( وكان أبوهما صالحاً )[الكهف: 82]. وكلما كبر ابني يوماً أتساءل ماذا يجب عليَّ من أمانة لأعينه على حياة طيبة وذاكرة تستوعب كل جميل، وإذا لا قدر الله كان مرَّ عليه أمر سيئ فلتلتقط ذاكرته الرضا عن الله والصبر الجميل.. وفي كل الحالات لا بد أن يكون معنى (الجمال) مصاحباً له! وطفولتي تسجل معاني جميلة ورائعة ومشهودة امتدت وتجذرت، بل وتفاعلت في نفسي كالمركبات الكيميائية، وأجمل وأرقى ما أحفظه وأسجله لنفسي لأول مرة، وللتاريخ إلى يوم القيامة، قصة والديَّ معي منذ الطفولة إلى يومي هذا في الحلقة القادمة إن شاء الله. وإن كنت سأذكر عناوين عامة لما سأقوله، فيمكنني القول -والله يشهد- إنني لم أر وأسمع في حياتي عن طيبةٍ ونبلٍ وتدينٍ واحترامٍ وإنسانيةٍ ما عرفته عن والديَّ، فلا تلومني إن قلت هذا ولم تقرأوا بعد خبرهما وعجائب قصصهما، وإن رقصتم طرباً لقصصهما، ودمعت أعينكم لخبرهما، فما هو ذنبي؟! فالملك يَشهد، وقد سجَّل ما جرى!
|
|
أحبك أبي لعل من أجمل وأمتع وأقرب الكتب التي ألفتها ومادتها بين يدي أضيف عليها كل يوم ما أجملها وأرجوا أن يعينني المولى على إخراجها قريباً، كتابي (الأنيس)، والذي هو صور عن مشاعر الحياة! وأول موضوع كتبته وأحببته بعنوان: (مشاعر أب). فقد جمعت من الأخبار والقصص والأشعار والأحاديث ما كنت أفرح به، وآنس لتوفيق الله لي، كلما وجدت ما يمكن أن يسجل عن الأب، مما هو جميل ومؤثر. والله إنني كلما قرأت ما كتبت وجمعت يتوقف شعر رأسي، وأصاب بالذهول! فلا تظنونني أكتب عن ترويج، فما الحديث عن الأب بحاجة لهذا! أكتب عن أبي الآن وهو بعيد عني، بل أكتب عنه للمرة الأولى في حياتي، وما أذكره هو محطات فقط، فقلمي لا يمكن بحال أن يستعير مشاعري لذكر مواقفه النبيلة الصادقة معي، بل لا يمكن أن يسجل مهما بلغ من براعة في الوصف أحاسيس رجل مؤمن صالح، بلغ القمة في السماحة واللطف والإنسانية. دوري أن أحكي مجرد حكاية صادقة، وأقوم بدور مخرج الفلم أو السينما ليحرك الشريط فقط، والشخوص غائبة! نعم قد يبكي الحاضرون، ويخرجون عن طورهم أحياناً، ولا يُلاموا على ذلك، فكيف لو عاشوا؟!! أبي وما أدراكم ما أبي؟ لو أخذت صورته وذهبت بها إلى حي الفنانين في باريس، وطلبت منهم أن يتعرفوا على شخصيته، ويعيدوا رسمها، وينبئوني بما لديهم من تأمل و نظر متوقع لما ظننتهم يبعدون عن معاني إنسانية بحتة يهديهم الله إليها، لأن ( سيماهم في وجوههم) [الفتح: 29]. ولا عجب فقد جربت هذا بنفسي في حي الفنانين (بباريس) وتمتم لي الرسام ملامح في شخصيتي صدق فيها! وخبري هذا في برنامجي (مذكرات سائح3) مشهود، وهو في ساحة الإنترنت موجود. أبي رجل متدين بالفطرة كان يحكي لي أن أباه (جدي) دائماً ما كان يأخذه وأحد إخوانه راكبين (البغال) ويصعدون الجبال لإلقاء الدروس وهم دون العشر سنين. ومما كان يقوله جدي في الدرس على الناس في القبائل والقرى: هذا ولدي (حمزة) سأسأله ويسمعكم. فيقول: ماذا أوجب الله على العبيد يا حمزة فيقول أبي: أن يعبدوه ويوحدوه ولا يشركوا به شيئاً. ثم يسأله: ما هي أركان الإيمان؟ فيقولها. ثم يسأله عن أركان الإسلام. فيقولها. ثم يسأله عن فضل الصلاة. فيذكر أحاديثها. ثم يتم جدي الموعظة ويختمها بقوله: لا يراكم الله حيث نهاكم، ولا يفقدكم حيث أمركم. والسلام. من هذا الجو الإيماني، ومن هذه الرحلات المتواصلة، وفي تلك الأماكن الوعرة نشأ أبي. فقد ولد أبي في مدينة المخواة، وهي إحدى مدن إمارة الباحة جنوب المملكة. وأجداده من بني (عُمَر). ولهذه القبيلة ومكانها أثر في التربية! فالمنطقة التي نشأ فيها أبي (المخواة) منطقة تهامية. وتهامة أسفل الجبال وهي ممتدة على الساحل الحجازي، وفيهم يصدق قول الرسول صلى الله عليه وسلم كما في أول صحيح مسلم: (والإيمان في أهل الحجاز). وأهل تهامة أهل شهامة ومروءة، وسماحة وطيبة، وكرم ومساندة للمظلوم. ومواقفهم في القتال ضد المعتدين مشهورة ومشكورة. وقدم لي بعض المؤرخين مخطوطات فيها أن نسبة (بني عُمر) تعود إلى خليفة المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وذكر لي العالم والمفكر والبحاثة النسابة والشيخ د. عوض القرني أن منطقة المخواة أكرم قبائل الأزد، وهم الأشهر في الوفادة وإغاثة الملهوف. من هذه الأجواء الدينية والاجتماعية والبطولية نشأ والدي. فهو متدين بالفطرة، وقَّاف عند حدود الله، يحب أهل العلم والخير. كلامه قليل جداً، مشغول بالتسبيح والتحميد والتهليل طوال يومه. يحب الصلاة حباً عظيماً، ويقدمها على كل شيء في الحياة، بل ويبرمج أعماله مهما كانت على الصلاة. لا يقابل أحداً، ولا يواعد شخصاً إلا بعد الصلاة إن كان في الحي. أما إذا كان خارج الحي وحان وقت الصلاة وسمع المؤذن، يقول لنا: الله أكبر .. الله أكبر، يعني: قفوا بالسيارة عند أقرب مسجد لندرك الصلاة، وليبارك الله لنا في عملنا، وبعد الصلاة كل شيء يهون! أحياناً نكون في الخط السريع قرب الجامعة، ويؤذن العشاء، ويكون عندي ارتباط مع طلاب التحفيظ بعد الصلاة، فيقول: الصلاة، والشباب ملحوق عليهم! علماً إنه يمكن إدراك الصلاة في الحي بعد مرور سبع أو عشر دقائق بالكثير بعد آذان العشاء، ولكن كان عنده فلسفة ربانية لمعنى الله أكبر،.. حي على الفلاح! وكان يحافظ على ورده القرآني بعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر مهما كانت الظروف، بل حتى الظروف الصعبة! وأتذكر أن أحد أقاربه توفي -رحمه الله- وتواعد مع إخوانه (أعمامي) أن يتقابلوا بعد صلاة العصر لعزاء قريبهم في منطقة الجنوب، وهو في جدة. وبعد صلاة العصر -وعلى غير العادة- رجع إلى البيت مبكراً، ولحقته فوجدته يمسك بالمصحف ويكمل ورده، فقلت له بعد فترة: أعمامي تحت ينتظروك، فقال: الله المستعان، دقائق إن شاء الله، لأني لا أستطيع قراءة الورد مع سفرنا في المساء! وكان يحب الإعذار للناس، ولا يقبل أن يتكلم أحد في المجلس على أحد، ولا يقبل حتى من (المطاوعة) أن ينتقص أو يقلل أحد دور الآخر! جاءه إمام مسجد يثق فيه والدي كثيراً، وقال له: إن ابنك علي -وكنت وقتها في الصف الثاني متوسط-، في فترة الصيف لا يذهب إلى بعض الدروس العلمية، وبعض أساتذته مهتمون بالدروس الثقافية العامة وليست العلمية! وابنك (علي) لديه حب واهتمام بالدروس الشرعية وحب العلماء، فأنصح أن يذهب إلى الشيخ فلان وفلان، وأنا مستعد لذلك! ووالدي كان رجلاً عاقلاً وحكيماً ومتسامحاً وبسيطاً في الوقت نفسه، وهو على نهج (جدي) من حب المنهج السلفي وحب رجاله، ولكنه لم يكن متعصباً ولا متذهباً، بل رجل فطرة! فنادى أحد أساتذتي وقال له ما سمعه من إمام المسجد، فقال له الأستاذ: إننا ندرس مادة التفسير وصحيح البخاري، والشيوخ هم فلان وفلان. فقال والدي وهو ابن الخمسين: لم أنادك يا أخي لتبرهن لي ما تقومون به، إنما ناديتك لتتنبهوا ممن يتكلم عنكم. أما ولدي فأنا أرى سلوكه من خلال ما تعلمونه إياه!! ألم أقل لكم كان رجلاً عجيباً؟
|
|
لن أنساك يا أبي دعوني هذه المرة أبدأ من النهاية! في يوم العزاء بوفاة والدي -رحمه الله-، زارنا عامل مصري للتعزية، فدخل باكياً، وخرج باكياً وهو يقول: هو في زيك يا شيخ حمزة، الله يرحمك. وصدق والله! لقد كان من عجائب أبي -رحمه الله- عندما كان قنصلاً سعودياً في مدينة السويس بمصر، يزور المحلات، ويفرح إذا وجد عاملاً يُسمع الناس القرآن وخاصة الشيخ سعد الغامدي والشيخ أحمد العجمي، حيث كانت أشرطتهما متوفرة إلى أن جاء بعدهما كثير من القراء والحمد لله. ثم يحرص أن يتعامل معه بالبيع والشراء، فإذا وجده أميناً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى، وتفرس به غير مرة، يدعوه لزيارته في المكتب، ويعرض له تأشيرة العمل في السعودية!! وكان هذا العامل المصري الضعيف بركة هذه الطريقة الحمزاوية العجيبة. وأتذكر أنني زرت سوريا قبل ثلاث سنين، فتحدثت مع شاب صالح من منطقة الشمال، وأخبرته أن والدي كان فترة من الفترات قنصلاً في سوريا، فدار الحديث بيننا، ثم قال: كان هناك رجل سعودي صالح، خدمنا خدمة عظيمة ندعو له بسببها إلى يومنا هذا. حيث مكننا من تأشيرة السفر للسعودية بعد محنة مريرة، وبلاء عظيم، ولم يخدمنا رغم كل علاقاتنا أحد إلا هو بعد فضل الله، ثم قال: وكان هذا الشيخ والقنصل الوقور في عام 1980م، والتي هي فترة أبي، فلما ذكرت وصفه عجب من ذلك إذ كيف ينساه؟! لقد كان أبي عالم وحده! اسألوا عنه الجيران والأصحاب والأقارب وكل من سمع عنه، هل أحد منهم ذكر موقفاً عنه لا يرضي أو مظلمة لا قدر الله؟! ثم اسألوا بم كانوا يصفونه ويدلوا الناس عليه؟ إنه الشيخ حمزة، الصامت، الهادئ، المتواضع، الجامع للخير، الرزين، العف اللسان، النظيف اليد، المتدين، صاحب الصف الأول، المحب لأقربائه، المؤدب في كلماته، الرباني في سمعته. كان ذواقاً نظيفاً أنيقاً في مقابل التواضع الجم! نعم إنها معادلة صعبة! يحب أن يلبس الجميل والأبيض النظيف، لا يحب الأوراق ولا المحافظ العريضة في جيبه، لا يحب أن يرى منديلاً أو قصاصة مرمية في غرفة أو سيارة. يحب الزرع والزهور، يحب المواعيد والتقيد بها، يحب الترتيب والنظام، يحب السماع والإنصات، يحب الصالحين جداً ويقربهم، يحب التفاؤل وإحسان الظن، يحب الخبر الجميل والرفقة الطيبة، يحب القراءة والقرآن. كنت قريباً من أبي فترات العمر الأولى وفتراته الأخيرة، ولكنه غاب فترات مختلفة بحكم عمله فترة المراهقة وبعد الجامعة، كنت أفتخر به كثيراً، ولكن غيابه من أجلنا وإسعاده لأسرته ترك فراغاً كبيراً واضحاً! نعم كلماته ومواعظه كانت قصيرة، ولكن مواقف حياته كانت بليغة. في الطفولة كان يحكي لي كل يوم قصة قبل النوم، أتذكر والله وأنا بعد في بداية المرحلة الابتدائية طريقة إلقائه لها، وتفاصيل حديثها. يا الله.. كل يوم قبل النوم قصة! نعم، لقد أشبعنا عاطفياً وحبب إلينا القيم عملياً. وكانت الصلاة شغله الشاغل، يأخذنا إليها ونحن في سوريا فترة الشتاء القارص على أقدامنا نخوض الثلج، أو بالسيارة إن لم نستطع المشي. ولم تكن مساجد سوريا تحي صلاة التهجد في رمضان، فكان يصفني وأخي الأصغر عبداللطيف بجواره في البيت ويصلي بنا ومن خلفنا بقية الأهل بقراءة طويلة خاشعة. لم تكن أحاديث السياسة والمناصب ومجالس الكبراء تمنعه أو تعيقه عن إبداء موقفه من ضرورة المحافظة على الصلاة جماعة، وإحياء الليل بالقرآن، وتقريب العلماء الثقات وتكريمهم. فتح الباب على مصراعيه لأولي العلم الثقات، حتى أحبوه وأحبهم، وازدانت مكتبته بمؤلفاتهم القيمة وتحقيقاتهم النفيسة، بل حتى مخطوطاتهم النادرة. كان أباً بمعنى الكلمة. لا يفكر في نفسه، بل في مستقبل أولاده. لا أتذكر أنه اشترى سيارة لمثل منصبه أحسبها جيدة، بل كانت كلها متواضعة. يجمع الريال على الريال ليبني لأولاده مسكناً جامعاً يؤويهم، ويساندهم، في مشوار حياتهم الزوجية، فقد تفضل على الجميع، ولم يكن على طريقة الآباء الذين يقولون: ربينا والباقي عليكم! عرض له أثناء تواجده في مصر منصب عال، وكان من مميزات المنصب قصر كبير، وخدم، وسيارة مرسيدس خاصة، وثلاث سيارات للعائلة، وحرس، وطاهي للطعام، وآخرون للنظافة وجمال الحديقة، إضافة إلى علو الراتب وعلو المكانة. فزهد بهذا كله، ورمى به عرض الحائط، وسكن لوحده أربع سنين يطبخ بنفسه، وينظف ملابسه بنفسه، ويكنس بيته بنفسه، وعاش لوحده! فسألته عن سر ذلك، وزهده بالمنصب الذي جاء إليه وهو أهل له، فقال: ما وراء هذه المناصب والزخارف إلا وسخ الدنيا!! وكأنه يشير إلى أن من كان في هذا المنصب لا بد أن يستقبل بعض الوفود رجالاً ونساءً! فأدركت ما كان يقصد، وتمتمت له مازحاً: إن هذه اللقاءات نادرة وعابرة. فقال: ولكن أثرها غير عابر! وأنا هنا أتحكم في وقت نومي وأكلي وحركتي وهي بكنوز الدنيا! وحدث ذات يوم أنني أخبرته في المسجد عن قبولي في الجامعة في الكلية التي سعيت لها من أجل اهتمامي بالإعجاز العلمي وهي كلية العلوم، ففرح وبارك لي الخبر ودعا لي في المسجد بعد صلاة العصر، فقلت له مازحاً: ومكافآة الكلية 800 ريال، فنظر إلي وقال: لا نتحدث يا ابني في بيت الله عن الدنيا!! وعندما أراد أن يشتري لي سيارة جديدة عند دخولي في الجامعة مازحني هو هذه المرة فقال: أتدري عندما سمعنا في القرية عن شيء اسمه سيارة ماذا عملنا لنراها؟ قلت: ماذا؟، قال: حملنا الأعلاف على ظهورنا لنستقبلها ونقدم لها واجب الضيافة!! هكذا كانت طيبته وهكذا طابت أيامنا معه. مرض أبي -رحمه الله- بالسرطان، وبقي في المستشفى أكثر من أسبوعين، وفي يوم الجمعة الأخير طلب أمراً عجيباً رفضه الأطباء، واختلف عليه إخواني لفرط محبتهم وخوفهم عليه، ألا وهي رغبته الذهاب للبيت! أوصلناه للمنزل براً به وهو لا يكاد يتحرك، طلبنا في غربته وجمعنا حوله، وقدَّم وصيته، فقال بعض إخوتي: أطال الله عمرك، لا تفكر بهذا. فقلت حينها: دعوه يقول ما يريد ولن يكتب إلا ما أراده الله. فرح بتسليم الوصية، وتوزيع الأوراق وهو في غاية الألم والتعب، ثم طلب أمراً يفطِّر القلب، ألا وهو زيارة غرف البيت التي كنا ننام فيها، فمر عليها غرفة غرفة ونظر إلى زواياها، ونحن نتأمل في هذا المشهد المحزن. ثم ذهب إلى غرفته التي كان يقرأ فيها القرآن وارتاح قليلاً، إلى أن عدنا به إلى المستشفى. وكانت هذه زيارته الأخيرة لدار الدنيا! اشتد ألمه وهو بالمستشفى التخصصي بالرياض، ومكثنا قرابة الأسبوعين هناك، وسبحان من جمع القلوب على المحبة، لقد غاب وعيه تماماً في آخر يومين، ولم يعد يحس أو يدري بمن حوله، وكانت نفس أمي مطمئنة محتسبة طيلة بقائنا في المستشفى مع دعائها له وهي في جدة. لكن أمراً غريباً وشعوراً فياضاً احتواها فطلبت زيارته، ووصلت إلينا عصراً، فدخلت عليه وسلمت، ووضعت يدها على يده فنظر إليها متبسماً، وهذا والله من عجائب رحمة الله وعظيم قدرته. وغادرت يومها راضية داعية. وكأنها لحظات الوداع، ونظرات الفراق، أتت إليه بدافع فطري غريب قبل وفاته بأقل من ليلة! وقبيل عصر اليوم التالي وأنا أقرأ عليه سورة يس، جاء الطبيب وكشف عليه، وأعطاه جرعة من دواء، وبعد دقيقة قال أخي محمد: كأنه عندما جاء الطبيب كانت عينه ترمش، فقلت: ناده إن شئت، وناداه، فلما نظر الطبيب، قال: سبحان الله توفي قبل دقيقة! وهكذا غاب عنا من غير أن نشعر، متذكرين دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا كانت موتته والله. وكأنه لم يرد كما كان طبعه أن يزعجنا أو يفجؤنا برحيله. أخبرنا الأقارب والأهل، وأبلغناهم أننا سندفنه بمكة كما كان يقول في آخر أيامه وهو لا يشعر: أريد الذهاب لمكة للصلاة وشرب زمزم! وكان عمي الشيخ داود العلواني القاضي والعالم المعروف أخبرنا وهو في الطائرة إلينا وسماعه الخبر عند بابها، إذن فلنصلِّ عليه في الرياض. ولما وصل إلينا، قال: من حضر من الأقارب فالحمد لله، ومن لم يحضر فمعذور، وليكتفوا بالدعاء. وكان حرصه -جزاه الله خيراً- على سنة إسراع الجنازة ودفنها. فأخبرته بما كان يقول -رحمه الله- وسهولة نقله مع وسائل العصر إلى مكة، لكنني كنت مضطراً لإبلاغ شيخنا العلامة محمد الحسن الددو الذي كان يقرأ عليه يومياً -جزاه الله خيرا- فوصل إلينا وذكر النصوص الشرعية عن مواقف الصحابة في نقل الجنائز للأماكن الأفضل، فاقتنع عمي، وطابت نفوسنا، وصلينا عليه بمكة، وأدى الصلاة عليه الشيخ الفاضل: سعود الشريم. ودفن بجوار قبر الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ بن عثيمين -رحمهم الله- جميعاً. وطويت صفحة من حياة أهل الخير والفضل والإحسان، واقتضت حكمة الله أن أسير في حياتي بعدئذ من غير أب، راضياً بما قدر الله، مستعيناً في إتمام المسيرة والمشوار الطويل! على العمري
التعديل الأخير تم بواسطة يمامة الوادي ; 2010-03-13 الساعة 5:15 PM.
|
|
دورة منبر الملابس أتذكَّر هذا الموقف جيداً، بل أتذكر هيئة أدائه. إنه موقف البداية مع عالم الخطابة، عند (علاقة) الملابس. (إن الحديد والحديد) تلك كانت المقدمة النارية! بهذه الكلمات الغريبة (إن الحديد والحديد) يداعبني شقيقي الأكبر (أسامة)، كلما هيجته الذكريات عني. يُجمع كل من في البيت أنني كنت آخذ (علاقة الملابس) وأقف على كرسي، وأجعل فمي تجاه الجزء المتفرع من (علاقة الملابس العامودية) وكأنه ميكرفون وأتخيل نفسي خطيباً، وأذكر تلك الكلماتِ الرنانةِ التي لا أعرف إلى اليومِ ما التي أدخلها وحشاها في دماغي و(لعلع) بها لساني! أتذكر المكان والحركات والعلاقة، بل أتذكر تماماً أنني كنت أخطب بالفلينة والسروال الطويل من غير ثوب، وطبعاً من غير أي دور علوي على رأسي!! يالله، لقد بدأت الخطابة وعمري خمس سنوات!! لعل السبب -والله أعلم- في التعلق بالخطابة ولعلي بجدي -عم أمي- الشيخ بركات العُمري -رحمه الله-. فقد كان يخطب بنا أحياناً في مسجد (الحفني) بحي الهنداوية. وكان شيخاً صالحاً وقوراً، عف اللسان، سميراً للكتاب، كريم الوفادة، متأله في العبادة. لاحظت عادة الكرماء منه وأنا دون الخامسة، حيث كان يحب أن يترك الضيوف لوحدهم في الغرفة ولا يشاركهم حتى يأكلوا ما طاب دون تحرج من اختيار قطعة دون أخرى! ولم أتعرف على عبادة الاعتكاف إلا من طريقه، حيث كنا نأخذ طعام الإفطار والسحور ونقربه له في آخر المسجد في أيام رمضان الأخيرة، ولم يكن يوجد في الحي معتكف غيره! هذا هو جدي -عم أمي- الذي أجبته وتأثرت به، وقادني لعالم الخطابة في السطوح! نعم، فقد كنا نسكن في الهنداوية في السطوح، وبيتنا عن غرفتين بناء، وحمام واحد، وغرفتين خشب لا مكيف فيها، وعددنا سبعة! والسعة والحمد لله كانت في باقي السطوح المفتوح، الذي كنت أضع فيه (علاقة الملابس) وأصيح (إن الحديد والحديد). والحقيقة أن هذه القصة أعطتني ثقة كبيرة في نفسي، وشجعتني على البدء في الخطابة وحملتها في ذاكرتي حتى جاء الموعد المقدَّر. كان هذا الموعد في غرة شهر رجب عام (1413هـ) بمسجد الرحمة بجدة. وأتذكر قبل هذا الموعد أنه حانت فرصة للخطابة في مسجد سابق وتحمست لذلك، وتكلمت مع أحد أساتذتي فأشار عليَّ إن لم تتيسر الأمور أن أتأخر. وكان الحق معه، والخير لي! لأنني لم أكن أملك حينها مفاتيح الخطابة بالشكل المرضي، وهذا كان أول درس عميق في وفقه المرحليات! وقبل إتمام بناء مسجد الرحمة، استشرت العالم المربي الفقيه الذي كان جاراً لي وللمسجد الجديد الشيخ (حسن أيوب) -رحمه الله-، ففرح بذلك، وقال: حتصير إمامنا يا شيخ علي! كان هذا اللقاء عام (1411هـ) وعمري آنذاك سبعة عشر عاماً. وفي التاسعة عشر حان موعد الخطابة. وقد يتساءل البعض ما عنوان الخطبة، وما عناصرها، وما كلام الناس عنها، وهل كانت مكتوبة أم مرتجلة، وما شعورك فيها؟ ولكني في الحقيقة كنت أمام مشكلة أكبر من هذا بكثير، وهي مشكلة عدم قدرتي على الصعود إلى المنبر في أول خطبة لي والناس ينتظرون!! ولهذا الموقف بقية.
|
|
انكسر الحاجز وهبت العواطف والعواصف في الأسبوع الأخير قبل افتتاح مسجد الرحمة والبدء بالخطابة فيه، استشرت جاري الأخ والأستاذ المربي المخضرم محمد بنون عن موضوع أول خطبة، فترك لي حرية الاختيار، لمعرفته بقدراتي الثقافية. وأخذت بعد جلستي معه أضرب أخماساً في أسداس، ماذا يا ترى سأفعل، وبأي موضوع سأبدأ؟ وعادت بي الذاكرة لدرس أسبوعي كل خميس بعد صلاة الظهر في منزل أستاذي المربي وجاري الحبيب: ياسر ابن الشيخ علي موريا مؤذن مسجد الفتح. ولهذه الأسرة الصالحة حديث خاص، ولابنها البار المميز ياسر أرق ما كتبته الأقلام وجادت به الأفهام وغنت به الحياة. كان الأستاذ ياسر يقرأ ويعلق بعد صلاة ظهر كل خميس في بيته من كتاب (رجال حول الرسول) للأستاذ: خالد محمد خالد -رحمه الله-، ومن ثمّ ( كتاب رياض الصالحين ) للإمام النووي -رحمه الله-. فتذكرت القصص التي نشأت عليها وأحببتها وتعلَّقت بذاكرتي وقلت: وجدت الموضوع. إنها قصة البطولة والقوة التي تناسب البداية الجادة لي، فليكن إذن حديثي في أول خطبة جمعة عن سعد بن أبي وقاص، وليكن المرجع الأساسي الذي ألفته وأحببته كتاب (رجال حول الرسول). وأقبل يوم الجمعة! ولكن شعوراً غريباً أصابني، ووسوس لي بأن أعتذر عن أول خطبة وأقول لجاري وأستاذنا القدوة محمد بنون: كنت قد وعدتني إن لم أكن مطمئناً بإخبارك. وهذا ما حصل حقاً فطمأنني صبيحتها، ومرَّ على بيتي قرابة الساعة التاسعة صباحاً وقال: لدي ظرف في المطار، واستعن بالله وابدأ عالم الخطابة!! أغلقت باب البيت واستلقيت على ظهري، وبعد نصف ساعة ركبت سيارتي وكنت قد صورت الخطبة من كتاب (رجال حول الرسول) عن سيرة (سعد بن أبي وقاص). واتجهت إلى الهنداوية لأفطر من فول (عم عبده) وأتناسى الموقف! فلعل بدايتي مع الخطابة عن علاقة الملابس في الهنداوية، تهيجني وتشد من أزري!! في طريق العودة أخذت أخطب في السيارة، وأراجع المكتوب، وأثبتِّت الروايات والقصص. إلا أن صراعاً كبيراً كان في نفسي لم أستطع الانفكاك منه حينها ولا حتى بعد أشهر طويلة من خطابتي. هذا الأمر هو أسلوب الخطابة! نعم قصة (سعد بن أبي وقاص) من كتاب (رجال حول الرسول) تعتبر مادة ثرية، وبأسلوب أدبي وتشويقي عالٍ، لكنني وقتها كنت عاشقاً لأسلوبين متضادين!! أسلوب الشيخ علي الطنطاوي في التشويق والبلاغة وسحر الكلمات وإبداع الوصف والخيال. حيث كنت وقت ذاك متشرب لمؤلفاته، مواظب على حضور مجلسه الأسبوعي. وبين مدرسة شيخي الأول في الخطابة والعلم العلامة المحدث عبدالقادر الأرناؤوط، ثم الشيخ عبدالرحيم الطحان في أسلوب التأصيل والتقعيد والتحرير!! فيا ترى كيف سيكون موقع موضوع (سعد بن أبي وقاص) بين هاتين المدرستين؟! استعنت بالله، وقررت أن أبدأ الخطابة مرتجلاً، وأن أحفظ القصص، وأن أذكر الموضوع بأسلوب الطنطاوي، وأن تكون الخطبة الثانية منهجية على أسلوب الأرناؤوط والطحان، وأن تعرض فيها الدروس والعبر مع ذكر تأصيلات وأحاديث مخرجة وموثقة! وبدأت الخطبة وانتهت في عشر دقائق، وأثنى عليها الناس، ولا أدري هل كان ثناؤهم لتنوع أسلوبها، ووحدة موضوعها، وطبيعة تشويقها، أم لقصرها، ومراعاة لسن قائلها؟! ووجدت نفسي تلك الفترة ألعب بالناس يميناً ويساراً! فمرة أميل أكثر لأسلوب الطنطاوي في كتابته، ومرة لأسلوب الأرناؤوط في تأصيله، إلى أن مزجت بين الروحين، وصنعت منهما مذاقاً جديداً ولوناً بهيجاً ووصفة خاصة! والحمد لله طَبعتُ (لوني الخطابي) بعدما عُرفت بخطيب (المنبر الحر)، وها هي ذي خطبي موجودة في مجلد كبير تحمل عنوان (المنبر الحر) في قرابة خمسمائة صفحة، تشكل قرابة ثلاثين خطبة منوعة، يمكن لمن قرأها أن يستشف منهجي وأسلوبي فيها، الذي زاوج بين العواطف والعواصف! وحول (المنبر الحر) قصص تروى ولا تطوى، فمنه تعرفت على الآلاف من الناس، ووصلت خطبي إلى الملايين -بفضل الله-، وما نبأ خطبتي (أمير الأنام) التي طبع منها تسجيلاً في دول العالم حسب ما سمعت من أرقام تفوق المليون. ومن (المنبر الحر) إلى السجن غير الحر! وللحديث بقية.
|
|
زنزانة (37) أيها البلبل إنا أخوان ××× بيدَ أنّا يا أخي مختلفان أنت تحيا لتغني وأنا ××× أجرع الصبر وأجترُّ الهوان صوتك الوردي لحنٌ ساحرٌ××× وفؤادي فيه نارٌ ودخان! صبراً أخي لا تبتئس ××× فالسجن ليس له اعتبارُ والقيدُ من أجل الإله ××× في شرعنا لهو الفخار ونفوسنا مهما عدى ××× أعداؤنا تبقى كبار هذه أبيات لأناشيد تغني الحرية والحياة التي تسأم القيد والذل. عندما سألني الشيخ علي الغامدي والد زوجتي في أول حوار بيننا وأنا أتقدم لخِطبة ابنته: ما هي مبادؤك في الحياة؟! قلت: الحرية! إنني مؤمن تمام الإيمان بالحرية، الحرية الجميلة المتفتحة الواعية العاقلة البانية الممتعة السهلة الممتدة! والحرية غير التحرر! ولم أكن أفكر في حياتي أن أستعدي أحداً، أو أعتدي على أحد، أو لا قدر الله أسلب حرية أحد ولو لرأي رآه، وأرى أنني معارض له! على هذا نشأت، وعلى هذا دعوت، وعلى هذا المبدأ غنيت في نفسي، وأنِست بنشيد الأحرار. والعجيب أنني كنت أقرأ في كتب السجناء من أصحاب التوجه الإسلامي الأحرار، أو حتى من غير الإسلاميين التحرريين، قرأت: حكومة الظل ، و من وراء الشمس ، و أيام من حياتي ، و قصة أيامي ، و نساء في السجن ، و مغامرات طبيب صدام ، وعشرات الكتب، حتى أنه في الليلة التي استوجبت فيها، وأدخلت فيها السجن، كان بجواري كتاب (قصة أيامي) للشيخ المرحوم -بإذن الله- عبدالحميد كشك عند وسادة نومي، أقرأه للمرة العاشرة! ولهذا الكتاب خصوصية عندي، لأنني أحببت الشيخ في الله حباً عظيماً، وعندما قرأت سيرته في كتابه هذا وأنا في الصف الثالث متوسط أذهلني الواقع الذي عاشه!! وهزتني بعده كتب في هذا المسار كثيرة أهمها: كتاب (أيام من حياتي) لزينب الغزالي، وقد زرتها في بيتها، وتحدثت عنها بحب وإعجاب في كتابي (كلمات في شموخ إنسان)، ورواية الشاعر الذي يقطر إنسانية سليم عبدالقادر في روايته (مالا تتوقعونه)، وكتاب (نساء في السجن) للأديبة المشاغبة نوال السعداوي -هداها الله-، وغيرهم ممن لو سردت نقاط تأثيرهم في حياتي لما توقفت!! في المرة الأولى لاستجوابي وسجني كنت مسافراً إلى بيروت لتسليم النسخة الختامية لرسالة الدكتوراة، وترتيب أمور المناقشة. دخلت المطار ولما وصلت المنفذ (قطع كرت صعود الطائرة) عند الباصات، قال لي الموظف: انتظر قليلاً!! تعجبت من الموقف، إذ لم يحصل لي هذا الطلب في حياتي على كثرة أسفاري للقارات كلها! بعد عشر دقائق جاءني رجل بثوب رسمي وطلب الذهاب معه لأحد المكاتب، ذهبت معه وقلت له: ما الأمر؟، قال: هناك ستعرف! وسلمت الأمر لله! عند قربي من مدخل الجوازات قدم أمامي ثلاثة شباب يرتدون لبساً رياضياً ومن خلفهم ثلاثة لمحتهم، وفي لحظة واحدة اجتمعوا عليَّ ووضعوا القيود في يدي ورجلي وغطوا بشماغي على عيني ورأسي!! في غرفة المطار طلبت من الشباب الذين يبدوا أن فيهم الخير أن يسمحوا لي بالوضوء للصلاة، فسمحوا مشكورين فك قيد اليد فقط! صليت ما شاء الله أن أصلي، ثم توجهوا بي إلى المنزل، وفتشوا كل البيت وأخذوا كتباً أتذكر منها للشيخ القرضاوي وأخرى للشيخ عائض القرني وكتباً تراثية وفكرية عامة كانت على طاولة مكتبي، وتركوا الذي على سريري (قصة أيامي) للشيخ كشك!! أصاب الذهول والدتي -رعاها الله-، وسلمت عليها وودعتها، بعد أن قرأت في عيني كل ألوان البراءة، وأن هذا أول طريق البلاء!! ذهبت لسجن الرويس، واستجوبت استجوابات عن حياتي وهل أعرف فلاناً أو فلاناً، وأخذوا بصماتي، إلى أن قابلني مدير السجن ومدير المباحث بعد يومين تقريباً، فقدم اعتذاراً عما جرى، وطلب أن يُنهى الملف سريعاً، واهتم بي بإعطائي بطانية ومخدة جديدة، وبت ليلتي هذه في غرفة خاصة فيها سجينان شابان، أحدهما مطلوب منه ألا ينام ويسمى بلغة السجون (تسهير) حتى يعترف، والآخر عليه علائم الضرب وقد اعترف بقضيته، ولم أضطر أن أسألهما عن قضيتهما، فأنا هنا في شأن آخر، إذ إني لأول مرة في حياتي أدخل سجناً، وكنت أكره هذا المكان تماماً، ولكني ألفته بغير أمري. في اليوم الخامس تم إخراجي بريئاً من السجن، وليس هناك أي إدانة، أو حتى أي سبب أو مبرر لما حصل!، وقدم لي في ليلتها المحقق شوكلاته (كتكات) وقهوة، وقال لي: يا ولدي، وجهك وجه خير، وسامحنا!! خرجت من هذا المكان (البلشة)، وكتبت خطاباً لمساعد وزير الداخلية الأمير محمد بن نايف، عما حصل بالتفصيل، وأن هذا الموقف يعتبر مخزياً في حق إنسان شاب مسالم، وتمنيت في الخطاب أن تكون الحلول في حالات تصيد الأخطاء من الحاقدين أو الحاسدين بغير هذه الطريقة. وحقاً بعد أسبوع تقريباً من خطابي اتصل بي الأمير بنفسه معتذراً عما جرى، متأسفاً جداً مما حصل، وأخبرته بأنني أمثل نفسي وكل الشباب الطيب العاقل، وأن المطلوب هو التناصح بين الجميع لمصلحة الدين والوطن، فشكرته وشكرني، وطويت هذه الصفحة التي اعتبرتها تجربة جديدة، لا ناقة لي فيها ولا جمل، سوى حسد الحاسد، وحقد الحاقد، ثم مرّت سنة كاملة، وفي نفس التوقيت دخلت السجن بحسد حاسد، وحقد حاقد، وطال البلاء في زنزانة رقم (37) ثم في العنبر العام مدة (99 يوماً) تقريباً، وخرجت بفضل الله وحده، ثم بدعوات الصالحين الشرفاء الأحرار، ثم بوجاهة أحد القدوات الكبار الذي أبلغ مساعد وزير الداخلية بشأني، وقال له الأمير: والله لا أعلم عن الأخ علي شيئاً، وبادر بإخراجي مباشرة. ولكني هذه المرة لم أكتب للأمير حرفاً إلا بعد خمس سنين في رسالة طويلة!! وللحديث بقية،، على العمري
|
|
من عالم السجن إلى عالم الحرية المؤمن دائماً يطلب الستر والعافية، لكنه يتأدب عند الأقدار، وينتظر اللطف! بعد خروجي المرة الثانية من سجني (99) يوماً، وعظني بعض الأحبة أن أهجر الخطابة، أو أنتقل عن الناس الذين أخطب فيهم، أو أغير في خطتي الدعوية، أو نوعية المخاطبين! وكنت أقول لكل واحد منهم: إنني عندما أصعد المنبر أذكِّر الناس بتقوى الله، والصبر على أقداره، وأعرض قصص موسى ويوسف ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وأطلب من الناس أن يتمثلوا هديهم، ويقتدوا بهم، وأن الطريق الذي سلكوه لا بد فيه من الابتلاء، فلا بد من الصبر، والرضا، والتماسك، وطلب العافية، أفبعد الابتلاء على نهجهم، من غير تقدير أو طلب بلاء، نكون قد خضنا في غير طريق الله؟! أوَ يصح أن ننصح الناس على الصبر على البلاء، حتى إذا جاءنا رجونا بلاءً آخر، وكأننا نرتب الأقدار؟! والحقيقة أن السجن وإن كان لا دخل لي في ترتيبه، وليس في سجلي أي خطوات تدعو لدخوله، إلا أنه كان فرصة لأمور عدة: 1- التعرف على طبائع المبتلين، المتعمد منهم فعل المخطئ، أو المظلوم. 2- التفرغ شبه التام لمراجعة القرآن، فقد منَّ الله عليَّ بمراجعة (10 أجزاء) غيباً كل يوم. 3- التدرّع بالصبر الجميل، إذ لا حيلة في زنزانة حديدية، لا تتجاوز (مترين طولاً × متر ونصف عرضاً) لا يوجد فيها ضوء، ولا يدخلها الهواء الصحي، ومسار التكييف فيها موحد، بمعنى مقياس برودة واحدة لكل المساجين، ومرور بروائح التدخين (لمن منهم مدخناً) على الجميع، إضافة إلى وجود حمام واحد فقط لـ (37) سجيناً، يتصبرون المرَّ خاصة فترة اليقظة، وانتظار الدور للصلاة، وفوق ذلك سماع أنَّات المرضى، وصراخ من لم يصبر لطول انتظاره، خاصة إذا عُلم أن السجين لربما يقضي شهراً أو أكثر لوحده في غرفة ضيقة لا يناديه أحد للحديث معه!! 4- الفأل الحسن، والتعبد لله بانتظار الفرج، والتبسم للحياة رغم المصاعب والمصاب، وهذا ما كنت أفعله مع السجناء جميعاً، فقد أقمت (دورياً رياضياً)، واشتريت من حسابي (ترتة كيك من حلويات العماد) -عن طريق العسكري-، وكرتون (سنتوب) للفريق الفائز! وكان عددنا في العنبر (مرحلة انتقالية ويسمى السجن العام بعد فترة الزنازين)، قرابة (100). 5- تطبيق فن التفاوض! فكنت معروفاً عند مسؤولي السجن، مقدَّراً عندهم، فكلما حلت بلية، أو أصيب بعض السجناء بالملل والضجر، أو المطالبة بالمحاكمة التي طالت، وتسببوا في اعتصامات وأفعال مبتكرة وجنونية، كان دوري التفاوضي بين السجناء وإدارة السجن، وحللنا مشكلة انتحار شاب، وإضراب مزعج شبه جماعي!! 6- لأن صنعتي إشاعة الوعي، وبث الجو الصحي الآمن للحوار، كنت يومياً أجلس قرابة (6 ساعات) مع أحد الأفراد الذين يفكرون بالجهاد بطريق خاطئ، أو أنه مقتنع بسبيل العنف لشبهات مختلفة، وقد أثر الحوار مع عشرة منهم، وفتحوا لي غرفهم عند انتقالي (للعنابر) المفتوحة، بعد أن كانت ممنوعة الدخول! 7- كنت أقدم كل يوم (5 دروس)! بعد الفجر في التفسير، وبعد الظهر في العقيدة، وبعد العصر في الفقه، وبعد المغرب في السلوك مع مراجعة للقرآن وتحفيظ شبه جماعي، وبعد العشاء في الدعوة، وفي الساعة (10 ليلاً) دورات مفتوحة في شؤون الحياة! كما كنت أخطب الجمعة واقفاً، وأجلس فترة انتظار الأذان وبين الخطبتين على (قدر طعام) فوقه بطانية أو شرشف! وخلاصة ما رأيت من السجناء، شباب ظالم لنفسه، قليل التفكير، بسيط الثقافة، ضحل المعرفة، غائب عن التاريخ، غير ممارس للدعوة، فقير في فهم الواقع، وهم القلة. وطائفة متحمسة تفتقد الموجه الرباني، والداعية الواعي، والأسلوب الأمثل للنصح، وهم الأكثر. وطائفة مظلومة (100%) جاءت بهم الأقدار، وعصفت بهم البلايا، تمحيصاً لحالهم، ورفعة لدرجاتهم، وتكفيراً لسيئاتهم، وتجربة في حياتهم، وعددهم غير قليل!! وبعد، فإن كل من قرأت له وعاصرته قد دخل عالم السجن، فصبر، وتمسك بمنهجه المعتدل، ونفسيته المتعافية، وقوة إيمانه بالله، خرج أصلب عوداً، وأقوى يقيناً، وأقدر على انتظار ألوان البلاء، وجعل الله أعداءه أصدقاء، ومن تربص به هم الذين أحاط به القلق! لما حصل للمفرج عنهم من ثبات، ثم ما جعله الله من سنة كونية ( إن مع العسر يسرى ) [الشرح: 6] من تيسير أمور عجيبة في حياتهم، وتجديد في أعمالهم، وفتوح في برامجهم، وتوسع في نشاطاتهم، ووثوق الجماهير - التي تضاعفت- بهم. ورغم كل ذلك، فإن البلاء فتنة، والعافية مطلوبة، والحذر واجب، ولكن الأقدار تسبق الخطى والأفكار!
|
|
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
ذكريات شاب | يمامة الوادي | منتدى القصة | 4 | 2009-12-27 3:17 PM |
ذكريات ومواقف | يمامة الوادي | منتدى الصوتيات والمرئيات | 7 | 2009-03-05 1:57 PM |
ذكريات لا تنسى :( | زايرة | المنتدى الترفيهي والمسابقات | 9 | 2007-03-30 1:02 AM |
ذكريات مفارق | يمامة الوادي | منتدى النثر والخواطر | 2 | 2006-12-20 5:11 PM |
ذكريات علي سليم | علي سليم | المنتدى العام | 22 | 2006-04-25 8:49 PM |