[يمامة الوادي]

خدمة الصالحين، والسعي لتلبية رغباتهم وحاجاتهم أمر عظيم، وفيه من الأجور ما الله به عليم.

وهو كذلك تربية على التواضع، وملء القلب بالحب الصادق لهم، والاستفادة من علومهم وأخبارهم،
وروائع الأحداث التي مرت في حياتهم، واتباع لإرشاداتهم ونصائحهم الغالية، التي تختصر الأوقات،
وتربي الذات، وتقوّم السلوك، وتدل على طريق الحق والهدى.

كما أن بخدمتهم تربية للنفس بالنظر في أحوالهم وعباداتهم وأفعالهم وقديماً قال أحد السلف:
"اصحب من يدلك على الله حاله، ولا تصحب من يدلك على الله مقاله".


وخدمة الصالحين شرف في الحياة، ورفعة في الدرجات.

فمما روي عن الإمام الزاهد بشر الحافي أنه رؤي في المنام، وقد ارتفع في درجات الجنة على أقرانه بكثير،
فسُئل كيف تم لك ذلك؟ فقال: ( باتباعي للسنة، وخدمتي للصالحين ).


ولكنَّ هذه الخدمة المباركة للصالحين اشترط فيها العلماء العارفون شرطين مهمين، تكفل سلامة المقصد، وحسن العمل.

فأما الشرط الأول:

فهو أن يقصد الخادم بخدمته للصالحين وجَه الله تعالى.

لا أن يقال إن هذا الإنسان يَسعى لخدمة هذا الشيخ الصالح، وأنه يحرص على تلبية حاجاته، والسعي لإرضائه ...!

فيتسلل الغرور إلى نفس هذا الخادم لكثرة الثناء عليه، والفتنة التي تدخل في قلبه.

وأما الشرط الثاني:

فهو أن تكون الخدمة فيما يرضي الله تعالى، وأن تكون بالحسنى، دونما إطراءٍ عن الحد الطبيعي، أو جفاء،
أو سوء معاملة لا تليق بحق الشيخ الصالح، كالممازحة الممجوجة، أو التضييق عليه، أو إحراجه، أو تكليفه ما يعسر عليه.


ولقد فطِن لهذه المعاني التربوية الإيمانية الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، فقد سار يوماً في المدينة، ولحقه أحد الناس ليتبعه في سيره، وقد بدأ الناس لما رأوه يتوافدون نحوه للسلام عليه، وطلبِ الدعاء منه، فهنا قال ابن مسعود رضي الله عنه للرجل الذي تبعه

: ارجع فإنها فتنة للتابع والمتبوع.

وهكذا يعرفنا الجيل الأول كيف يتعاملوا في مثل هذه المواقف، التي تؤدي إلى حدوث الفتنة في القلب،
ولو كانوا من أكثر الناس صلاحاً، وأبعدهم عن زخارف الدنيا وأهوائها.

إنه مع جلالة قدر ابن مسعود رضي الله عنه، وعظيم زهده وورعه، لم يكن مسوغاً له ذلك أن يأذن لذلك الرجل باتباعه في طريق عام.

فخشي رضي الله عنه من الفتنة التي تتشربها النفوس، ويصعب بعد ذلك معالجتها.

فكان جوابه صريحاً واضحاً لذلك الرجل، حتى يرجع من طريقه؛ لئلا يُفتن التابع فيراه الناس حول ذلك الشيخ الصالح وقريباً منه،
وكأنه من المقربين، وأنَّ له الحظوة الكبرى عنده!.

ولئلا يُفتن المتبوع كذلك فيجتمع الناس حوله فيغتر بنفسه، وينسى آخرته.

إنها اللفتات التربوية التي لا تخفى على أصحاب النفوس السليمة، وأرباب المقامات العالية،
ويتجذّر فهمها في قلوب الدعاة والمربين في أنفسهم، ومع أتباعهم وتلاميذهم.

نسأل الله أن يجعلنا من عباده المخلصين.



على العمري