[يمامة الوادي]

كنتُ أشعر بشعور غريب، وحنان عجيب، وشوق لا أطيق له اصطبارا،

وكأنّ ملكاً يسوقني إلى روضة من رياض الجنة.

كنت أتحيّن اللحظات، وأرْقب الفرص المناسبة لكي أطرق عليك الباب،

أو أن تجمعني بك لحظة قدر على غير موعد فأراك وأسلّم عليك.

كنت حقاً أحسُّ بالاشتياق إليك، والرغبة في لقائك،

ولو لمجرد سماع أخبارك.

كنت عندما أزورك أو أراك تأنس نفسي وأرتاح وأطمئن.

تحدثني بلا تكلّف، وتسأل عن أخباري الخاصة والعامة،

وأقرأ من وراء السطور صدق اللهجة، وإخلاص النية،

وأخرج من عندك وأنا أدعو لك.

كنت أجلس معك أحياناً لحظات يسيرة؛ لأن لديك أعمالاً تود إنجازها،

ومواعيد تحرص على الوفاء بها، والتقيد بموعدها،

فأتعلم منك بالقدوة مالا أتعلمه بالكلام.

وأحياناً أخرى كنت أجلس معك لفترة طويلة، ولكنها محددة الغاية،

محسوبة القيمة، محسوسة الثمرة.

كنتَ تتحرَّج في الحديث عن قيام الليل؛

لأنك ترى أنك تقصّر في هذا الجانب.

كنتَ لا تمازح إلا بالحق، وتديم أو لربما تطيل الابتسامة الجميلة الرائعة.

كنتَ تقرأ عليّ الأحاديث وأحسّ بأنه يملأ كل جوانحك،

ويملأ كل أقطار نفسك، وتستولي عليك الحالة فلربما خرجت دمعتك

العصيّة التي طالما حرصت على إخفائها!

كنتَ تعمل أكثر مما تتكلّم، كنت تعطي بقدر ما تستطيع،

فيكون لقولك على قلته حلاوة، ولفعلك طلاوة،

ولبذلك اليسير بركة وأي بركة.

كنتَ بحق المربي والأستاذ والناصح والأب والأخ والإنسان القدوة.

كنتُ يا أخي أشعر أثناء جلوسي معك، بما قاله أحد تلاميذ الحسن البصري:

"كنا إذا دخلنا على الحسن خرجنا ولا نعدُّ الدنيا شيئاً"!

ولكن!... وآه من لكن..

صرتُ اليوم لا أشتاق إليك كثيراً..

هل السبب أنا أم أنت أم كلانا معاً ؟!

صرت لا آتي إليك إلا بالطلب!

إذا جلست معك الآن أحسُّ أن في كلامك نوعاً من المبالغة،

والعتاب على إخوانك الدعاة،

أراكَ لست قادراً على إيصال المعاني التربوية والإيمانية كما كنت سابقاً.

هل لأن هناك مشوشات تمنع الإرسال؟

هل لأنك أدخلت جهاز "ستلايت"،

فأصبحت تتابع آخر الأخبار من عدة قنوات،

وبعض البرامج العالمية التي لا تخلو من سوءات؟!

هل لأنك تساهلت في بعض الآراء الفقهية،

وتوغّلت في عمق التجارة ذات الأرباح السريعة والتي تحتاج إلى فتيا على الطائر؟!

هل لأنك مشغول طوال الوقت، فازدحمت الأعمال،

واختلطت الأموال، وأصبح وأضحى لديك زبائن عمل؟!

هل لأنك اتخذت أسلوب التورية، وتساهلت في ذنوب الخلوة؟!

لا تظنّ يا أخي أنني أعيش في وهم، أو أسيء الظن!

كلا والله!

إنما الله الذي جعل حبك في قلبي وحرّك لوعة اشتياقي هو الذي

وضع لك القبول في الأرض، وأشهد ملائكته على ذلك.

فبالله عليك يا أخي سل نفسك فقد سألت نفسي كثيراً وطويلاً هل

تستحق أن يضع الله لك القبول ويشهد الملائكة على ذلك؟

هل الملائكة ستشهد؟

هل الأرض ستشهد؟

هل فكرك وخبايا نفسك وما يمليه عليك قلبك،

وما تضمره في خواطرك سيشهد؟

هل سيشهدون أنهم يحبونك، ويحبون فطرتك النقية؟

هل أدّيت حق الله لنتهيأ لرحمته وحب خلقه.

وقبل أن أودعك أذكرك بالنصيحة الغالية للعلامة ابن العربي التي

طالما كنت تذكرني بها: "مقدار كل امرئ حديث قلبه".

إنني يا أخي أكنُّ لك الحب ولكن لا أحسُّ بالاشتياق إليك!

فهل السبب مني أو منك؟

لقد صارحت نفسي، فهل صارحت نفسك؟

على العمري