[يمامة الوادي]

صفعة أعادت قلبي إلى ربي

قال لي صاحبي فجأة وقد أوقفني قرب أحد المحلات الكبيرة .. :
من الناس من يقنع بقطعة صغيرة جدا من السكر المغشوش . .
مع أن نهر العسل على مرمى بصره ..
بل هو في متناول يده .. لا يحول بينه وبينه شيء !!
قلت في تلقائية :
عجيب ..!! ما رأيت أحمق من هذا !؟
قال وقد ارتسمت على وجه ابتسامة متلألئة :
لكني رأيت ..! رأيت من هو أحمق من هذا بما لا نسبة بينهما ..!!
هتفت في عجب :
مستحيل .. هذا جنون .. جنون رسمي .. وليست حماقة فحسب ..!!
ازدادت ابتسامته اتساعاً وقال :
سمه ما تشاء .. وصفه بما تحب أن تصفه .. لكني رايته وأراه ..!
قلت في دهشة :
أين رأيته ؟ أرني إياه ، فهذا إنسان يستحق الفرجة عليه ،
والسخرية منه ، والاستخفاف به ، والضحك منه .. !
قال في لهجة بدت متغيرة إلى حد ما :
وهل ستتحمل رؤيته .. !!؟ أحسبك لن تطيق النظر إليه طويلا ..!
ضحكت وقلت :
لا عليك أنا هوايتي النظر إلى هذه الوجوه العجيبة المضحكة ،
التي يتراءى على أصحابها الجنون أو الحماقة ، فكيف إذا اجتمع فيها الوصفان ..!؟
قال بنبرة في حزم :
إذن اجمع لي نفسك الآن .. وانظر .. انظر هاهنا ..!!

ونظرت إلى حيث أشار .. وكاد عقلي أن يطير ..
وارتجفت كل خلية في جسدي
وكانت مفاجأة صاعقة ، لم تخطر لي على بال .
وانعقد لساني .. وتصبب جبيني عرقا ، وهالني ما رأيت .. !!
فماذا رأيت ؟؟

لقد رأيت ( وجهي ) في مرآة كبيرة
كانت في واجهة المحل الذي كنا نقف بقربه ..!!
ونظرت إليه بغضب وانفعال شديد ،
وقبل أن أنطق ،، رأيته يشير إلى فمه بسبابته أن اسكت ..! ثم قال :
ألم تطلب أن ترى ذلك ملء عينيك ..!!
ها أنت وجها لوجه مع من وصفته بالحماقة والجنون .. !!
والآن أفسر لك القصة …
من تعلق بقطعة سكر صغيرة جدا ، معرضا عن نهر العسل بقربه ،
وصفناه بالحماقة ..
فماذا تسمي أو تصف من أعرض عن جنة عرضها السماوات والأرض
من أجل شهوات حقيرة ، يقضي معها ليله ونهاره ، ويبحث عنها في كل مكان ،
ويركض خلفها بجنون ، ويبذل من أجلها بسخاء ،
ويدمر نفسه تحت أقدامها ، ويخسر دنياه وآخرته معا ً ..!؟
!!!!!
ماذا تسمي من يصر على أن يعرّض نفسه لسخط الله تعالى عليه ،
مع أن الله يناديه ليل نهار ، ليتوب عليه ، ويبدل سيئاته حسنات ؟!
ماذا تسمي من زهد في طريق الأنبياء عليهم السلام وغايتهم أن يسمو بهذا الإنسان ،
وفضل عليه طريق الأبالسة والشياطين يمرغون أنفه في وحل الأرض ؟؟!
!!!!!!
هذا والله عندي أحمق الحمقى على الإطلاق ، وأجن المجانين في العالم ..
وهل أنت إلا ذاك .... يا صاحبي العزيز ..
ولقد أرأيتك نفسك ، فاسخر منها الآن كما تشاء .
ثم تأمل معي الآن قول ربك عز وجل :
(( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه )) ..
أفرأيته !؟ إنه إنسان يستحق الفرجة عليه ..!!
فأطل الفرجة على نفسك ..!! واسخر من نفسك كما تشاء .!!

وأخذ يتدفق بهذه الحرارة ، وهذا الفيض .. وأنا مطأطئ بين يديه ،
ولم يتركني أنطق بكلمة ، بل ليس عندي ما أقوله وقتها ،
لأنني شعرت بصدق حرارة قلبه تنصب في قلبي مباشرة ،
وتوقد في قلبي لهيبا يتأجج ..
وتركني ومضى وهو يدعو لي بالهداية ..
فبكيت وأنا أقف وسط الشارع العام .. !!
بكيت وبكت معي الأرض والسماء ..
وبكيت كما لم أبك من قبل ..!!
وشعرت أني تائه في وسط صحراء مترامية الأطراف ،
بل شعرت أن الأرض ضاقت علي بما رحبت ..
وانتحيت جانبا .. واسترسلت في بكائي لا أبالي بأحد ..
وما راعني إلا أن سمعت صوت النداء الخالد يمتد ويتصاعد
( الله أكبر .. الله أكبر )
( اشهد أن لا إله إلا الله … اشهد أن لا إله إلا الله )
( اشهد أن محمدا رسول الله ……… )
فغمر قلبي شعور عجيب لا أستطيع وصفه ..
ووجدت نفسي أتجه على الفور إلى بيت من بيوت الله عز وجل .
وأنا أشعر أن ملائكة الله على الأبواب تنتظر مجيئي وتستقلبني وتحتفي بي مرحبة متهللة ..
وتوضأت وأنا اشعر أني أغسل قلبي غسلا عجيبا ..
وأخذت أركع وأسجد في حالة قلبية يعجز اللسان أن يترجمها إلى كلام ..
فجزى الله صديقي ذاك ..
جزاه الله خير الجزاء على تلك الصفعة المدوية التي أدرا بها رأسي ،
غير أنه أعاد بها قلبي .. فوضعني مباشرة بين يدي ربي ..
والحمد لله رب العالمين ..
بو عبد الرحمن