[يمامة الوادي]

دقات قلب المرءِ .. أسهل ما عليك يضيعُ








الحمد لله الذي أنعم علينا من النِعم ما لا يُرى, ومن النِعم مالا يُمس, ومن النِعم مالا يُدرك, ومن النِعم مالا يُوصف, ومن النِعم مالا يُكتب, ومن النعم مالا يُحصى؛ فلك الحمدُ يا الله, ولك الشُكرُ يا الله, ولك الفضلُ يا الله.

ومن أصول النِعم وأعظمها نعمة الزمن (الوقت), وهو عُمر حياتنا, وماءُ بستان أعمالِنا, وهو أثمن من أموالِنا وثرواتِنا.

الحديث عن الزمن من عِشق أصحاب الهِمم, ومن أولويات أصحاب الغايات العظيمة, وهُم قِلة (ولكن بإذن الله في زيادة), وعلى النقيض تماماً فالحديث عن الزمن لا يرضاه النائم الكسول, ولا يعني من بلا غاية يصول ويجول, ولكن بغض النظر عن حرص الأول أو زُهد الثاني, فالزمن أهمية ومنفعة عظيمة, لا ينكرها من أوتي نصف شِبر من الحكمة.

ومن المعروف أن الله إذا أقسم بشيء من خلقه فذلك من عظم ومنفعة المخلوق, وهُناك آيات كثيرة تدل على عِظم هذا الأصل من النِعم, فأقسم سُبحانه بالليل, والنهار, والصبح, والضحى, والعصر. بل أن من عبادتنا لله سُبحانه وتعالى, ما ينبهنا على أهمية الزمن, فالصلاة بوقت دقيق, والزكاة بزمن معلوم, والصيام والحج في وقت محدد, وهُناك أوقات فضيلة تُتحراها بحرص, وهذا يدل المُتأمل على عظم وأهمية الزمن.

ولكن الأغلب على مر العصور وتحديداً عصرنا الحالي؛ لا يهتمون بقيمة الزمن, ولا يعطون هذه النعمة حقها, ولا يبذلون جهدهم لاستثمارها, وهذا من تقلص الهمم, ومن تدني مستوى الغايات التي قد لا تتجاوز الماديات, و من تعطيل العقول, و من تقديس التفاهات مع الحرص على السخافات, وهذا كله نتاج ضيق الرؤية.

قال شوقي:
دقات قلب المرء قلب المرء قائلة له: إن الحياة دقائق وثواني

وقال الوزير يحيى بن هُبيرة:
الوقت أنفس ما عُنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيعُ

للأسف
أوقات تفنى ركضاً نحو الكماليات !
أوقات تفنى حرصاً على مُناسبات (بإفراط) !
أوقات تفنى جادلاً في فروع وجزيئات !
أوقات تفنى في تفاهات و سخافات !

فتجد الأغلب يعيش بسطاً وعرضاً وانبطحاً, وليس ارتفاعاً وطولاً وارتقاءاً؛ بمعنى أن الأغلبية لا يبني ولا يسعى في إنجاز للأمة ونجاح في الآخرة, وإنماء تلذذ وإمتاع خاص, والمؤسف حينما يكون هذا التلذذ خرج عن إطار المُباح حتى دخل في إطار المُحرمات؛ فيكون فساد دُنيوي وفساد أخروي.

وهذا حال الكثير للأسف, فرسولنا صلى الله عليه وسلم قال: ((نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)), فهذا يدل على أن المستفيدين من ذلك قِلة, والكثير غير مستفيد مغبون.

وأبواب الاستفادة والاستثمار من الوقت كثيرة ومتنوعة منها: الحرص على العِلم, والقراءة, والعمل بفعالية, وخدمة الأسرة في الضروريات مع لزوم الحد في الكماليات, الترفيه بلا إفراط, الرياضة بلا انغماس, الدعوة والنقاش وتبادل الأفكار برُقي, تحديد ودقة لحضور المناسبات, حضور وفعالية لخدمة المُجتمع, انتفاع وإنتاج بالتقنيات الحديثة, وغير ذلك الكثير, وينبغي أن يكون هُناك مرونة وتنويع في كل هذا على أن لا يصل إلى مرحلة الذوبان والتشويه؛ ويجب أن يكون كل هذا في قالب الإخلاص لله سبحانه وتعالى.

و لإستثمار الوقت والاستفادة منه بإمتياز, لابد من العمل على ثلاث محاور مهمة, وهي (محور أساسي, محور جوهري, محور فعال):

المحور الأساسي (الفرد):
من أهم أدوار الأفراد أصحاب الهمم والرسالة والنية الطيبة, أن يكونوا حجر الزاوية, فتكون الانطلاقة من ذواتهم بالأفعال قبل الأقوال, يلتزمون وينتفعون وينتجون,فمن المُهم أن يكونوا صارمين مع من يُريد التأثير سلباً عليهم, فلا يكونوا كريشة مع الأكثرية, إذا أضاعوا الوقت أضاعوا, ولا يكونوا كالملح ما إن لبث أن وضع في الماء ذاب, ولكن يكونوا ذوي دقة في المواعيد, وتنويع في الإنتفاع, وإبداع في الإنتاج, وحكمة في الأخذ بالأولويات, وهذا من حرص وعلم بمعنى الزمن الحق, وأنه ليس رصيد مفتوح, وإنما وقت يمضي ولا يعود, فهي ثلاث أوقات, وقت مضى يستفاد منه ووقت حالي يُشتغل به, ووقت قادم يُخطط له؛ وما إن صنعوا الأفراد هذا حتى أصبحوا نموذجاً وقدوة للأفراد.

المحور الجوهري ( الأسرة):
لماذا هذا المحور جوهري ؟!, لأن مهما بلغ عدد الأفراد المُهتمين, يظل نمو العدد بطيء, ويظل أيضاً تأثير المُجتمع فتاك على الأفراد لأنهم قِلة؛ فتجد هُناك دقائق بل ساعات تذهب سُدى بسبب تكاسل الأكثرية, ولأن الفرد إذا لم يؤثر نجاحه في الأقرب فلا خير في الأبعد؛ لهذا لابد لكل فرد ما إن هم بتكوين الأسرة أن يضع لها منهجية واضحة في التعامل مع الوقت, ويغذيها بمعاني الأهمية لهذه النعمة, ويكون هُناك تعاوناً كبيراً ومبكراً بين الزوج والزوجة في صناعة هذه الأسرة المتفوقة, فكلما كان التعاون كبير بين الزوج والزوجة كان تأثير الأكثرية المُتكاسلة أضعف, وكلما كان التهيئة مُبكرة كان الجُهد أقل والنتاج أكبر؛ وهذا يقودنا إلى تكوين نموذجاً صالحاً للأُسر, ويقودناً أيضاً لتأثير إيجاباً على الأكثرية.

المحور الفعال (بيئة الأعمال):
لماذا هذا المحور فعال ؟!, لأن بيئة العمل هي الميدان الذي يحتضن الأفراد والأسر, وهي البيئة التي يعملوا عليها ويستفيدوا منها في ذات الوقت, وهي البيئة التي يسهل ويُحبب فيها وضع الأنظمة, وهي ذات البيئة التي تُهدر الكثير من الأوقات في أسوأ الحالات, فيفضل أن يكون البدء من المؤسسات التعليمية, لأن تأثيرها مُبكر ولشريحة كبيرة, فيتم تربية النشء على الإلتزام بالوقت, تغذيته بطرق وأساليب استثمار الوقت, ويتم أيضاً التركيز على بقية دوائر ومؤسسات العمل بحيث يتم المحاسبة بشكل صارم على المُتكاسلين في الأعمال, الذين لا يهتمون بوقتهم ولا يكفون شرهم؛ لأنهم يضيعون أوقات الحريص وغير الحريص, ويتم أيضاً إستخدام التقنيات والوسائل الحديثة لتفعيلها وتقنينها لتخدم الأفراد والأسر بشكل يُحافظ ويوفر الوقت للجميع.

وما إن تم العمل على هذه المحاور سنجد تناغماً عجيباً وحلولاً كثيرة ونتاجاً عظيماً للأمة في مختلف المجالات (إن شاء الله),وكُلنا مُقصر وإن حرصنا في مسألة استثمار الوقت (ولكن أن تكون أعرجاً في هذا خير من أن تكون مُقعداً), وحينما يضيء العقل إهتماماً بالزمن ويصبح هاجساً للفرد؛ فهذا مؤشر جيد لهمة الفرد, فمن كان ذا همة وغاية لابد أن يهتم بالزمن ويحرص عليه, أما من أدعى ذلك ولم يحرص على الزمن (فهو يعيش في يوميات عاجز وأمنيات).

وأسأل الله العلي القدير أن يُبارك في أعمارِنا وأعمالِنا,,

أخوكم العَبد المُقصر الفَقير المُهندس بن فقيه