[يمامة الوادي]

حوار مع كلمة
اشتريت مجلة اسلامية ، وبينما كنت أقلب صفحاتها وقفت عند صفحة تحت عنوان " تسالي إسلامية" فوجدت هذه اللعبة:
ا ل ة ح ت ض ى
حاول أن تجمع الأحرف وتكتب كلمة مفيدة

وبعد أن قرأت الصفحة أخذت قلمي وحاولت أن أكتب كلمة مفيدة فكتبت:
حاليتضن ( x )
تضيحاك ( x )
التضحية ( / )
ثم قفزت فرحاً لأنني عرفت الكلمة ووصلت إلى الحقيقة، ولكني فوجئت عندما رأيت الكلمة تتكلم فقالت " إنك ضحيت بوقتك
حتى وصلت إلى قمة الفرح والفوز، وكذا من ضحى بوقته للدعوة
إلى الله تعالى فإنه سيصل إلى قمة الفرح والفوز " .
الداعيــــة: إن كلامك صحيح، ويبدو أنك كلمة سحرية ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله
عنه: " الراحة للرجال: غفلة " (1) .
فينبغي ألا يرتاح الداعية إلا بعد جهد ومشقة، وإلا كانت الراحة له غفلة كما قرر
عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
قلـــــــــت: ولكني بشر ولابد لي من الراحة؟
التضحية: ومن قال لك لا تسترح؟ وإنما الفهم الصحيح أن لا يكون الداعية في غالب
وقته مرتاحاً.
من كـان حيـن تصيـب الشمـس جبهتـه*** أو الغبار يخاف الشــين لشعثـــا
ويألف الظل كــي تبقــى بشاشتــــه*** فسوف يسكن يومـاً راغمــاً جدثـا
في قعـر مظلمـــة غــبراء موحشــــة*** يطيل فيها – ولا يختارها – اللبثا
تجهــــــزي بجهـــاز تبلغـيـــــن بــــه*** يانفس واقتصدي لم تخلقي عبثا(2)

فلا تكن ممن يألفون الظل.. بل تحرك وادع في الصيف أو الشتاء وفي النهار أو الليل.
قلــــــــت: مالي أراك لا تتحدثين إلا عن التضحية بالوقت؟!
التضحية: لأن هذا الذي أعانيه من بعض الدعاة، فبعض الدعـــاة يضحــون بأنفسهـم وأموالهــم،
ولكنهم يترددون في التضحية بوقتهم.
قلـــــــت: وهل الشعور الذي أعيشه يعيشه كل الدعاة ؟!
التضحية: لا، ولكن بعضهم يتأثر بوساوس الشيطان وهواجس النفس فتبرد حركته وتهدأ همته،
فيسجن الداعية بهذه الوساوس والأفكار، ويظن أن فعله صائب.
قلت: وكيف تكون الفكرة الخاطئة سجناً للدعاة؟
الكلمة: أن لست كذلك ولكن " إن من البيان لسحراً " وأرجو أن تنتفع بقولي .
الداعيــة: وكيف ذلك؟!
التضحية: الذي أراه ،أنك في كثير من الأحيان تقدم مصلحتك الشخصية على دعوتك الربانية،
فتضحي بوقتك لنفسك وتبخل على الدعوة .
الداعيــة: إن هذه طاقتي ، فماذا أفعل ؟!
التضحية: لا .. أنت تعرف جيداً كم هي طاقتك.
كن صادقاً مع نفسك يا " عبدالله " .
إنك كريم بنفسك ومالك على الدعوة ولكنك بوقتك بخيل!!
الداعيــة: الحقيقة أنني مذبذب .
أود أن أضحي لدعوتي ... ولكن مصالحي مهمة.
وأود أن أضحي لمصلحتي ... ولكن دعوتي مهمة.
التضحية: لابد من اتخاذ القرار الحاسم، وأنا لا أدعوك إلى ترك مصالحك والسعي فيها.. ولكني
أدعوك إلى تقديم حق الله ودعوتك على حق نفسك وهواك .
الداعيـة: ولكني حيران !! فما العمل؟!
التضحية: ليس في المسألة ما يدعو إلى الحيرة.
ولكن حاول أن تكيف نفسك مع الظروف .
واعرف كيف تدير وقتك وتقسم أعمالك، حتى لا تعطي زوجتك وأبناءك وتجارتك
وقتاً أكثر من الدعوة إلى الله فليكن فيك طبيعة الماء في سرعة تشكله وتكيفه مع
الظروف إن الماء إذا وضع في الإناء تكيف معه، وإن رفع إلى السماء تكيف معها:
" فليكن فيك طبيعة الماء الذي يحطم الصخرة بينما يسقط قطرة قطرة".
الداعيــة: فعلاً إن من البيان لسحراً.
ولكن بهذه الحالة ستفوتني مصالح كثيرة (3).
التضحية: هذه هي طبيعة الدين، يريد حركة لا خمولاً ، ويريد يقظة لا غفلة .
التضحية:هذا ما حكاه الرافعي – رحمه الله – عندما قال: " وأشد سجون الحياة فكرة خائبة يسجن
الحي فيها، ولا هو مستطيع أن يدعها، ولا هو قادر أن يحققها، فهذا يمتد شقاؤه
ما يمتد"(4).
الداعيــة: أراك بدأت تتكلمين في الأدب .
التضحية: أنت الذي سألتني ، وهذه إجابة سؤالك.
الداعيــة: لنعد إلى موضوعنا " التضحية بالوقت" .
التضحية: تفضل.
الداعيــة: أريد مثالاً على ذلك.
التضحية: أَضرب لك مثالاً بالإمام " أبي الأعلى المودودي " الذي أرسى دعائم حركة إ سلامية
أصيلة في شبه القارة الهندية ، كتب ، وخطب ، وكافح وجاهد ، دخل السجون وواجه
المحن وفي كل ذلك كان شعاره:
" إذا جلست أنا، فمن عساه يبقى واقفاً " (5).
الداعيــة: وماذا في ذلك عن التضحية بالوقت؟
التضحية: قوله- رحمه الله- " إذا جلست أنا، فمن عساه يبقى واقفاً " وفي ذلك دليل على تحركه
ودعوته وتضحيته بوقته إلى درجة أنه لم يكن يعرف الجلوس أبداً ، وقد تحقق فيه قوله
عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الراحة للرجال غفلة، وقد كان المودودي – رحمه
الله – متيقظاً دائماً
الداعيـــة: أعتقد أن هذا هو منهج الصالحين- أليس كذلك؟
التضحية: نعم – فقد دخل يوماً " عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز علي أبيه وهو في نوم
الضحى، فقال: ياأبت إنك لنائم .. قال: يابني ، إن نفسي مطيتي وإن حملت عليها فوق
الجهد قطعتها " (6).
فهكذا كانوا – رحمهم الله – فقد " تعبوا رحمهم الله " حتى أوصلوا عقيدة التوحيد لنا ،
وربونا ، وهذبونا ، وانتشلونا من مخاطر متلفة .
وعلينا أن نكون أوفياء لهم ، ننفذ عهدنا حين أخذوا علينا أن نعمل مثل الذي عملوا.
غرسوا فأكلنا .. ونغرس فيأكل من يأتي بعدنا .
والغرس يقتضي مخالطة الناس، ومشافهتهم، والصداع بالحق (7).
الداعيــة: لقد تأثرت بكلامك ، وإن من بين الدعاة – وأنا منهم – من يفضل وقته الشخصي
وتحركه المعاشي على وقته الدعوي وتحركه الرباني .
التضحية: إن الدعوة لتحزن على الداعية إن ترك لها ما زاد من وقته ليتصدق به عليها، بل
هي الأصل الذي ينبغي أن يتحرك الداعية من أجله.
فقد غرس الدعاة القدماء فأكلنا، واليوم نغرس حتى يأكل الناس.. وكم من الوقت
يحتاجه المزارع حتى يغرس ويخرج الثمار ليبيعه على الناس؟
هل يكفيه ساعة في اليوم؟! أو ساعتان؟!
إذا كان الغرس جيداً ، والثمر غالياً فلا أعتقد أن السويعات تكفيه.
الداعيــة: جزاك الله خيراً على هذه المعاني والمفاهيم، والآن عرفت أن الأصل في وقتي أن
أجعله للدعوة ومافضل منه فلنفسي حتى يكون الغرس جيداً ، والبناء متيناً .
التضحية: نعم، وتفكر دائماً في الوقت الذي صرفه الأنبياء عليهم السلام، وبالأخص نوح عليه
السلام حين حكى الله عنه قائلاً: ( قال رب إني دعوت قومي ليلاً ونهاراً، فلم يزدهـم
دعائي إلا فراراً، وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا
ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً، ثم إني دعوتهـم جهـاراً، ثـم إنـي أعلـنت لهـم
وأسررت لهم إسراراً) (8).
فدقق كم هي اللحظات والساعات التي صرفها نوح عليه السلام لدعوة قومه.

حوارات دعوية