[صانعة في الحياة]

قبل الرسالة بثلاث سنوات، كان النبي الكريم يترك كل شيء وراءه ليختلي مع نفسه في غار حراء.. كان يتفكر في خلق الله ويبحث عن رسالته في الحياة.

وفي هذا المكان البسيط ووسط الظلام، تلتقي السماء بالأرض عندما يحتضن جبريل محمداً لتكون البداية لأعظم رسالة التي حمل مسؤوليتها آخر الأنبياء.


سر النبوة

يقول عمرو خالد: مصداقا لحديثه الشريف صلى الله عليه وسلم: "القلوب بين اصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء".. فإن الله سبحانه هو الذي يملك مفاتيح قلوب المليارات من البشر، يفتحها على الإيمان في لحظة واحدة كيف يشاء.

والله سبحانه حبّب الخلاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهرول إلى الطاعة، حبّب إليه الإيمان، فلم يضع الفرصة.

بدأ النبي في البحث عن مكان يختلي فيه نظر إلى الجبال من حوله، حتى عثر على غار حراء على بعد ثلاثة أميال من الكعبة، ويطل عليها ويحتضنها، ومن هذا الغار يرى السماء والأرض والكعبة في مشهد واحد.

الصعود إلى هذا الغار من الجبل يستغرق ساعة ونصف الساعة من الصعود المجهد.. وكان عمره صلى الله عليه وسلم – 38 سنة. والمكان موحش بالليل.. تخيل الغار الساعة الثانية بعد منتصف الليل في ليلة غير مقمرة كيف يكون؟ وجبريل عليه السلام حين نزل إليه، جاءه في توقيت كهذا وفي ظروف مماثلة "في العشر الأواخر من رمضان"، جاءه في ليلة غاب فيها القمر، في هذا الغار كان يمكث النبي ليالي تصل إلى العشر .

ما البرنامج اليومي للنبي في الغار، وهو يعيش وحده في هذه الظروف المخيفة؟

كان يمارس عملاً واحداً هو: التفكر.. يتفكر في خلق الله، وتلك هي العبادة التي أوصلته لأن يكون نبياً، فالتفكر يوصل إلى اليقين في الله، فأنت ستفكر في ملكوته وقدرته، يتفكر في السماء، ويتفكر في الأرض، يتفكر في الليل والنهار، في الشمس والكواكب، وقدرة الله في الكون، وهي عبادة تمارس بالقلب والعقل والعين.

عبادة اندثرت في زماننا الحالي، الذي طغت عليه المادية، عبادة أصبح بها الأنبياء أنبياء.

أعظم عبادة

يسألون السيدة عائشة: أي شأن رسول الله كان عجيباً؟

قالت: وأي شأن له لم يكن عجيباً؟

لكن أعجب ما رأيته منه، رأيته في ليلة يصلي فبكى حتى اخضلت لحيته، ثم ركع فبكى ثم رفع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع فبكى، ثم سجد فبكى، وظل يبكي حتى أتاه بلال ليؤذن لصلاة الفجر.. فقال ما يبكيك يا رسول الله؟ فقال: كيف لا أبكي يا بلال ونزل علي الليلة هذه الآية: " إن في خلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار".

يقول عامر بن عبد قيس أحد التابعين: سمعت واحداً واثنين وثلاثة وعشرة من أصحاب رسول الله يقولون: إن نور الإيمان التفكر.

وسُئلت أم الدرداء: ما أعظم عبادة لأبي الدرداء؟ قالت: عبادة التفكر.

يقول الحسن البصري: "تَفكر ساعة خير من قيام سنة".

والشركات الكبرى الآن حين تقرر التخطيط لمستقبلها، تعطي موظفيها إجازة للاختلاء في فندق ناء، حتى يتفكروا بذهن صاف، هم يتفكرون في سبيل تحقيق الأرباح والنقود.

لكننا نتفكر في عظمة الله.

والتفكر ليس فقط أن تقف أمام منظر طبيعي خلاب وتقول: سبحان الخالق العظيم.

لكن أيضاً أن تمسك ورقاً وقلماً وتفكر في مستقبلك وطموحاتك وتخطط لنفسك.

التمهيد لنزول الرسالة

كان النبي صلى الله عليه وسلم في تفكيره ينظر حيناً إلى السماء والكون، وحيناً ينظر إلى الكعبة وما يحيط بها من أصنام، وحيناً يفكر في حاله: لماذا مات والده وأمه وأولاده؟.. وحيناً يفكر في الموت والحياة، وحيناً يبحث عن رسالته في الحياة بعد – 38 عاماً – عاشها.

كانت مرحلة غار حراء هي التمهيد النهائي لنزول جبريل.

وكانت السيدة خديجة تصعد إليه في الغار وتقضي معه يومين أو ثلاثة أيام، لأنها مقتنعة بما يفعل محمد، وتريد أن تقف إلى جواره وتشد من أزره، رغم أن عمرها صار 55 سنة.

وهذا درس لنساء هذا الزمان: حذار أن يكون زوجك في واد وأنت في واد آخر حتى لا تزيد الفجوة بينكما.

ومن نعم الله العظيمة على رسول الله السيدة خديجة، التي قال الله لنبيه حين جاءها الأجل: "بشر خديجة بقصر من قصب في الجنة لا صخب فيه ولا نصب". ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "خير نسائها... خديجة".

الإسلام لا يعرف اعتزال الناس

هل يمكن أن يقول أحدنا: سأقتدي بالرسول وأذهب للاختلاء بغار حراء؟

لا.. ليس في ديننا اعتزال الناس، ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كان مرحلة وانتهت، مرحلة تخصه هو كنبي، لذلك لم يقل أحد من الصحابة بأنه ذاهب للاختلاء بغار حراء، والتفكر الآن ليس معناه، اعتزال الدنيا والناس.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه" .. والنبي لم يصعد إلى غار حراء بعد الرسالة، لأنها كانت مرحلة وانتهت.

وقد عوضنا الله بديلاً عن الاختلاء بالاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان في المسجد مع الناس.

حتى وأنت تختلي، تظل بين الناس.

لقاء جبريل بالنبي

بعد ثلاث سنوات من الاختلاء، أصبح عمر النبي صلى الله عليه وسلم – 40 – فتحدث اللحظة الحاسمة، بنزول جبريل.

هنا في غار حراء بدأ الوحي، وبدأت رسالة الإسلام.. هنا احتضنت السماء الأرض حين احتضن جبريل النبي في بداية اللقاء، فالتقى نور السماء بنور الأرض.

هنا في هذا المكان البسيط المتواضع تبدأ أعظم رسالة، وشاء الله ألا تبدأ هذه الرسالة من أحد القصور الفخمة المليئة بالأبهة.

وبنزول جبريل بدأ اتصال بين السماء والأرض استمر 23 سنة، ليدوم أثره وخيره حتى يوم القيامة.

ولذلك يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ألقى جبريل السلام على رسول الله مودعاً الأرض.

يروي النبي صلى الله عليه وسلم قصة اللقاء الأول بينه وبين جبريل فيقول: "رأيته يسد الأفق، له ستمائة جناح إذا نفضها تناثر عنها اللؤلؤ والياقوت"

ويقول الله تعالى:

"وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها".. ينزل جبريل ليتفقد رسالة آخر الزمان.

أعظم وأصعب موقف

هكذا بدأ ديننا بحضن جبريل للرسول تعبيراً عن الرحمة والحب.. فديننا دين رحمة وحب، كان لاحتضان جبريل لمحمد هدف آخر هو أن ينبهه إلى أنه مستيقظ وليس بغاف أو نائم لأن النبي منذ ستة أشهر كان يرى الرؤي الصادقة، أراد جبريل أن يجعل في اللقاء شيئاً مادياً ملموساً، فاحتضنه ثم تركه، ثم احتضنه ثم تركه ثم احتضنه وتركه.

وجبريل لم يأت النبي في صورته البشرية ليكون اللقاء أهون، بل جاء في صورته الملائكية ليلاً في مكة، وفي مكان موحش في ليلة غير مقمرة.

ماذا اقرأ؟

جذب جبريل النبي من ثيابه وقال له: "اقرأ" فخاف النبي بشده وقال: "ما أنا بقارئ.. فقال وهو يسد الأفق: "اقرأ".. فقال "ما أنا بقارئ".

يقول النبي صلى الله عليه وسلم "فأخذني وضمني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: "اقرأ" فقلت "ما أنا بقارئ" فأخذني وغطني حتى ظننت أنه الموت، ثم أرسلني فقال: "اقرأ" فقلت "ماذا اقرأ؟".. فانطلق الملك جبريل عليه السلام يردد أول آيات من القرآن: "اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم". واختفى الملك.

فرجع النبي من غار حراء يرجف فؤاده ويرتعد من البرد، صورة جبريل الملائكية لم تكن مخيفة، لأن صورته تنطق بالعظمة والجلال والجمال، لكنه كائن سماوي يراه النبي لأول مرة.

البداية كانت شديدة، لأنها مخاض الرسالة رسالة إصلاح البشرية "خذ الكتاب بقوة". وجبريل لم يقم بتعريف نفسه للنبي، ولم يقل له أنت رسول الله، لأن النبي كان في حالة من الذهول والصدمة.

هذا اللقاء بين محمد وجبريل لم يكن هدفه تبليغ الرسالة، إنما كان هدفه: استعد يا محمد فأنت مقبل على عمل عظيم..

عظمة "اقرأ"

وهناك سؤال يطرح نفسه: لماذا كانت البداية "اقرأ"؟

هي أشارة عظيمة.. فالنبي لم يكن يعرف القراءة والكتابة، والنبي حتى موته لم يتعلمهما وكان أمياً، وتلك هي المعجزة "اقرأ" هنا كانت إشارة فهمها النبي، ولم نفهمها نحن.

"اقرأ" معناها: انتهى عصر المعجزات، وجاء عصر العلم، انتهى زمن عصا موسى وسفينة نوح وكل المعجزات الخارقة التي تغير الأحداث، وبدأ عصر العلم والتخطيط بك يا محمد.

وكلمة "اقرأ" دليل صدق الرسالة والنبي، لأن الله يعلم أن العصر القادم هو عصر العلم والتخطيط ، فأهل نبيه لهذا الوقت ، ولو أن النبي أتى برسالة لا تناسب هذا العصر لانتهت رسالته وانتهى، لأنه نبي آخر الزمان، كان لابد لأدواته أن تناسب معطيات العصر، وأن تصلح لكل زمان ومكان.

وكلمة "اقرأ" ذكرت 6 مرات في خمس آيات.

معجزة النبي أن الذي لا يقرأ ولا يكتب هو الذي علم البشرية، وما تركه النبي الأمي أُلفت فيه ملايين الكتب حتى الآن.

نزل النبي صلى الله عليه وسلم من الجبل بعد لقاء جبريل وهو يشعر بخوف شديد وجسمه يرتعد ويذهب إلى خديجة وهو يرتجف ويقول: "زملوني زملوني"، ليفاجأ بدور رائع لها، تقوم بتثبيته، وترفع روحه المعنوية، تستمع إليه وتثبته، فتكون امرأة هي أول من يثبت النبي صلى الله عليه وسلم.