[يمامة الوادي]

أجزاء وأرانب
مصطفى شيخ مصطفى


في الصَّيف، وبعد أنْ هجَع الأولاد الصغار إلى منازلِهم بعد أن ترَكوا مدارسهم وأنْهَوا عامًا دراسيًّا، كان أبناءُ أبي هاشم من خِيرة الناجحين، توجَّهوا إلى أبيهم:
• ماذا سنفعل هذا الصيف؟
• سوف تَحفظون سُوَرًا وأجزاءً من كتاب الله كما كنتم تفعلون.

• هنا بيت القصيد يا أبي.
• ما وراءَك يا عبدالرحمن؟
• نحفظ جزءًا وتَشتري لنا زوجين من الأرانب، نحن أيضًا عندنا مشروعنا، الأرانب ستكبر وتتزاوج وتتكاثر وتكثر، الزوجان يصبحان أزواجًا.

• اسمعوا، أنتما زوجان، أنت وعبدالكريم يحفظ كلٌّ منكما جزءًا وأجلب لكما زوجان.
• أتَعْني أنَّ لكلِّ واحد منا زوجين؟
• أنت فهمْتَ ذلك من تلقاء نفسك؛ لأنك تريد ذلك، بل لكما معا زوجان فقط.

• حسنا يا أبي ونحن قَبِلنا.
• ومن يَبني لنا بيت الأرانب يا أبي؟
• أخوكم عبدالله، ها هو يسمعكم، ماذا تقول يا عبدالله؟
• حبًّا وكرامة.

اختاروا المكان وجلَبُوا "البلوك" اللاَّزم مما بَقِي عندهم يوم أن بنَى أبوهم دارهم التي يسكنون، وبدؤوا في البناء، عاد أبو هاشم من صلاة العصر لِيَجد بيت الأرانب قد شارف على النهاية.

• أَبي أبي!
• ما بك يا عبدالرحمن؟
• نريد شبكًا معدنيًّا بِطُول متْرين، وعرض متر نَضَعه متمِّمًا لبيت الأرانب.
• غدًا أجلبه لكم.
• ولِمَ التأخير يا أبي؟ إنَّ غدًا لِمِثلنا لَبعيد، تَدفع لنا المال ونحن نَجلبه الآن من محَلِّ أبي عبده، ولا فرْق في السِّعر بينه وبين غيره.
• وما الذي يَضْمن لي أنَّكم ستحفظون؟
• أنا لا أضع مالي جزافًا.

• سنحفظ يا أبي.
• أدفع لكم، ولكن لا تَصنعوا شيئًا حتَّى تحفظوا على الأقل جزءًا أو نصْفَ جزء.
• كما تريد يا أبي، إنَّه وعْد، وسنَفِي بالوعد، سنحفظ، نحن سألنا عن سِعر المتر، إنه خمسون ليرة، وقد يزيد قليلاً.

دفع أبو هاشم المال المطلوب إليهم، فطَاروا به إلى محَلِّ الخردوات، وجلبوا الشَّبَك المطلوب، وتسبقهم فَرْحتهم، وقد اتَّسَعت حتى بلغت أطراف الأفق.

لم يَر أبو هاشم أبناءَه بمِثْل هذا السرور من قبل، فقد لفَّتْهم الفرحة من كل جانب، وأحاطت بهم، حتَّى لكأنَّهم هالاتٌ من فرح وسعادة وسرور.

ما أنْ جلبوا الشَّبَك المطلوب حتَّى شعروا بمأْساتهم؛ فهم لا يستطيعون وضْعَه حتى يَحفظوا، فبدَا الوجوم على مُحَيَّاهم وعبسَتْ وجوههم، وقالوا في أنفسهم وكأنهم يعزُّون ذواتهم: وما الفائدة من وضعه؟ وأين الأرانب؟

• أمي أمي، قولي لأبي أنْ يسمح لنا بوضع الشَّبك المَعْدني، نحن نجهِّزه اليوم، ومتى جلب لنا الأرانب كان كل شيء جاهزًا.

ذهب أبو هاشم إلى مكتَبِه في اليوم الثاني؛ ليعود حاملاً زوجين من الأرانب، كانت هذه الأرانب أمَلَ أبنائه، وكان أمَلُه في أبنائه في الحفظ والتحصيل، فعطلة الصيف ليسَت قصيرةً، إنَّها أشهر، وليست يومًا أو يومَين.

• اذهبوا، وضَعُوا الشبك المعدني في مكانه، واجلبوا بعض الحشائش طعامًا للأرانب.
• كل شيء جاهز، لقد وضَعْناه منذ الصباح.

• ومن سَمح لكم؟
• إنها الوالدة.

• وكيف تَسمحين لهم يا أم هاشم؟
• لقد حَفِظ كلُّ واحد منهم في ليلة البارحة خمْسَ صفحات.

• حسنًا، تسجِّلون في معهد تحفيظ القرآن، وسنرى يا عبدالرحمن ما أنتم صانعون.

لم يمرَّ إلاَّ بعْض الوقت حتَّى كان في بيت الأرانب أزواجٌ منها، فقد حفِظُوا جزْءًا ثمَّ اثْنين ثم ثلاثة ثم أربعة ثم خمسة...

أصبح بيت الأرانب يَعج بالأرانب، زرَعوا في حديقة المنْزل الذُّرَة الصفراء.

• ولماذا تزرعون؟
• للأرانب يا أبا هاشم.

ضاق بيت الأرانب على ساكنيه، فأعادوا بناءَه ووسَّعوه، استمر الاتِّفاق؛ زوجان من الأرانب مقابل حفظ جزء من القرآن، استمر عبدالرحمن وعبدالكريم، واستمر أبو هاشم بالوفاء.

• أصبح لنا عندك دَيْن يا أبي.
• ومِن أين لكم الدَّيْن يا بُنَي؟
• حفِظْنا في هذا الأسبوع جزءًا وقَربْنا من النِّصف، في الأسبوع القادم سنحفظ جُزْأَين.

• في الأسبوع القادم أَجلب لكم زوجًا من الأرانب.
• بل زوجان يا أبي.

• أبِي أبي.
• نعم يا بُنَي.
• ستلد الأرنبة السماوية.
• ومن قال لك؟ هل أخبرَتْكَ أنها أُم؟ أو أنك تعلَّمْت لغةَ حديث الأرانب؟!
• لا يا أبي، أمَا تلاحظ أنَّ بطنها بدأ بالانتفاخ؟ انظر إليها بدأَتْ تنتف من وَبر بطنها، سيصبح عندنا أرانب كثيرة يا أبي.

• سنذبح الأرانب ونُقِيم مَأْدُبة الكبة.
• لا يا أبي، لا يمكننا أن نذبحها، أرجوك يا أبي.

فيما كان عبدالكريم يناقش أبا هاشم كانت عيون عبدالرحمن تدمع باكية.
• ولماذا تبكي يا عبدالرحمن؟
• لأنَّك ستذبح أرانبنا، أبكي على الأرانب.

مضى الصيف الذي كان حافلاً بأحداثه، فقد وصل ما حَفِظه الشابَّان الصغيران إلى ما يقرب من خمسةَ عشر جزءًا.

• أبِي أبي.
• ماذا هناك يا عبدالكريم؟
• مات أحد الأرانب.
• قَدَرُ الله، وما شاء فعَل.

• يبدو أنَّ الأرانب مريضة يا أبي، ماذا سنفعل؟
• صديقي الدكتور أحمد طبيب بيطري، أطلب منه أن يأتي ويفحص الأرانب.

في اليوم التالي جاء الدكتور أحمد، فحص الأرانب، وتوجَّه إلى أبي أحمد قائلاً:
• اذبحوا الأرانب قبل أن تَنْفُق واحدًا إثْر الآخَر.
• عبدالرحمن: لا، لن نذبحها، وكيف نذبحها؟
• بالسكين يا عبدالرحمن.

• لا يا أبي، نحفظ ما تشاء على أن تدعها يا أبي.
• حسنًا، لن نذبحها يا أبنائي، مشروعنا لم يستمر.
• يا أبي، ألم تَسمع قول الشاعر:
مُنًى إِنْ تَكُنْ حَقًّا تَكُنْ أَحْسَنَ الْمُنَى وَإِلاَّ فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَنًا رَغْدَا

• إن تكن ماتت الأرانب أو أنَّها ستموت - فقد أَمضيتم صيفًا حافلاً بتربيتها، ولكنْ قل لي: ماذا حلَّ بما حفظتم؟
• لا زلنا نحفظه يا أبي.

• بعد أيَّام سيبدأ العام الدراسيِّ الجديد.
• في الصيف القادم هل يستمر الاتِّفاق يا أبي؟
• كما تشاؤون.

• ماتت الأرانب، ولم يبق إلاَّ واحد فقط، ماذا سنفعل به؟
• تُعطونه لأحد مربِّي الأرانب، أو تذبحونه؛ لأنَّه لا يمكن أن يعيش بمفرده.

• لا، لن نذبحه، سنستبدل الأرانب بالحَمَام في العام المقْبِل.
• زوجان من الحمَام مُقابِل أن يَحفظ جزءًا كلُّ واحد منكما.

• نحن على العهد يا أبي.
• وأنا على الوعْد يا أبنائي، "المؤمنون عند شروطهم".