[يمامة الوادي]

خَطيئةُ العَطــــــــاء . . !

زرت جدي في لحظة زمانية تحرك دواخل النفس نحو الشعور بالنهاية أقصد لحظات المغيب الحارقة للمشاعر ، تلك اللحظات التي تقرعنا كل يوم وتذكرنا بأن قوة الشمس لابد وأن تخبو وتذهب وتغيب . .
أشعر بأن العلاقة بيني وبين جدي أكثر من أي علاقة بين حفيد وجده ، وما هذا إلا لعطاءات متبادلة شعورية قبل أن تكون مادية ، لازلت أذكر تلك الأماسي وأنا أرافقه على السرير الأبيض مرافقاً ومسلياً وأخرج من لدنه للجامعة يودعني بدعوة أرجو بها فلاحاً وتوفيقاً ورضا . .
إحساسي وأنا أرافقه مملوء بلذة روحية تنشأ من العطاء . .
لا أريد أن أكثر الاسهاب . .
زرت جدي لحظة آخر النهار والكون مستعد لإستقبال المساء ، لجت غرفته فوجدته قد جلس على الأريكة وقد أطرق رأسه إطراقةً هادئة وشحوب يعلو وجهه !
سلمت . . لم أسمع إجابة ! يبدو أن التعب قد أوصله لمرحلة جعلته يظهر هكذا ، فابتعدت قليلاً وتخيلتي نفسي أخاطب جدي فأقول :
عَفواً جدي . .
ومن يَملك أن يبقي الأيام دائماً زاهية ؟
أيا جدي علمني معنى هذه الإطراقة ولمَ هذا الصمت !
أهي الحقائق الكبرى في الحياة بدت لك فأسكنتك وأسكتتك ؟
أم هي كوامن نفس تعتصرها وتكتمها داخلك لتبقي من تود كما تود ؟
أم هو مسلسل الجفاف القديم الجديد قد أصمتك وأحزنك ؟

جدي . . تحجرت مكاني ، وخارت قواي وأنا أقف أمامك أقبل رأسك وألثم يداك وأسلم عليك سلام الحفيد للجد ، ومن ثم أنظر إليك أنتظر حفاوتك الدائمة ودعابتك بي وبمن يأتيك ، وإذ بالإطراقة تعلو ، والتمتمة الغير مفهومة تخرج . . !

جدي تحدث . . تكلم . . انطق . . أخبرني . . لمَ أنت صامت ؟
أجابني حاله قائلاً : تنحى يا ولدي وأذهب وألحق على مغيب الشمس لتكمل لك ما سأقول :
يا بني : ما أشعر به ما هو إلا شعور يعقب كل عطاء !
أذهب للحياة ولتعلم أن البذل والعطاء في هذا الزمان خطيئة يعاقبك عليها اللئام !
أذهب . . لا تدعني أكمل فالكلام كِلامٌ تألمني .
لتعلم يا بني أن حقيقة فرحك بمرور اللحظات إنما هو انقضاء وانصرام لحياة جميلة مضت ، ومستقبل يخبأ لك أقدار . .
وستضحك . . وستبكي . .

مضيت وخرجت من عند جدي ووقفت بحزن أمام المغيب ليكمل لي ما بدأه جدي . . فإذا بالشمس قد غابت وتركت خيطاً لا يكاد يُرى بالشعور العابر وقد كتب عليه "العَطاءُ خطيئة" .
__________________

بقدر الأمل .. تتألم !

يوسف الهزلول