[يمامة الوادي]

محبة الوالدين نموذج فحسب ..!

- - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - - --

من أبده البديهيات التي لا يختلف عليها عاقلان ، ولا ينتطح فيها عنزان !

أن الوالدين حين يبذلا غاية ما يستطيعانه لأبنائهما ، من حسن رعاية ، وشدة اهتمام ، وحسن متابعة ، وبذل وتضحية، وتعب وإنفاق ، ورحمة وعطف ، وشفقة وحنان ، وتعليم وصحة وتغذية جسدية وروحية ، ونحو هذا كثير ..

من أبده بديهات الحياة ، أنه يتوجب على هؤلاء الأبناء أن تشغف قلوبهم بحب هذين الأبوين ، وإجلالهما ، بشرط أن يتحول هذا الحب إلى واقع عملي تراه عيون الدنيا ، أما دعوى اللسان أنهم يحبون والديهم ، ثم هم يخالفونهما في ما يأمران به ، وينهيان عنه ، فإن هذا لا يسمى حبا ، بل هو أقرب إلى الهزؤ بهما !

فما يغني أن يقول هؤلاء الأبناء ليل نهار لوالديهما : نحبكما حبا جما ، لا يوصف ..!!

ولكن سلوكياتهم على أرض الواقع لا تترجم هذا الحب أصلاً ..!!

إن أي عاقل يرى هذا التناقض سيمجه ، ولا يرضاه ، ولن يصدق ما تدور به ألسنتهم من دعاوى الحب ..!!

إن ما يلزم هؤلاء الأبناء تجاه والديهم ، أن يحبانهم حباً جماً ، يتمثل في سلوك يترجم على أرض الواقع ..يرى الناس هذا السلوك فيحكمون في تلقائية أن قلوب هؤلاء الأبناء مليئة بحب والديهم ..!

ولأن هذه بديهية فإني أرغب أن أنتقل منها إلى غيرها !

حين تتفق معي على ما تقدم ، فبالله عليك أخبرني الآن :

أفلا يستحق الله سبحانه جل في علاه ، أن يشغف قلبك كله حبا فيه ،

أفلا يستحق أن يُشكر فلا يُكفر ، وأن يُذكر ولا ينسى ..!؟

أليس هو الذي وهبك حياتك .. وأهداك أبواك .. ورقق قلبيهما نحوك ،

وأفاض عليك بنعم لا تحصى من مفرق راسك إلى أخمص قدمك ..

ورعاك منذ إن كنت نطفة فعلقة، فمضغة فجنين ..!؟

هل غير الله سبحانه رعاك هذه الرعاية ؟!

أخبرني بربك من ذا الذي أعطاك هذا العقل الذي تفكر به وتختار ، وتدبر أمورك به ..

تُرى من أين اشتريته !؟ أو أي مصنع ركب لك هذه الجوهرة الغالية التي لا تقدر بثمن ؟

من ذا الذي منحك هذا القلب الذي يخفق على مدار الساعة ، ولا يتوقف ما دام فيك نفس يتردد في صدرك ؟

من ذا الذي وهبك هذه الأجهزة المعقدة المتشابكة المختلفة في داخلك لتكون سببا في حياتك ، جهاز تنفسي ، وجهاز هضمي ، وجهاز عظمي ، وجهاز عصبي الخ

ترى أي معمل من معامل الدنيا هذا الذي هيأك هذه التهيئة العجيبة ، وكم دفعت من مال لتتم لك هذه العملية ؟؟

ترى من ذا الذي منحك هذه الأطراف ، الأيدي والأرجل لتتحرك بها وتسير وتركض وتنام وتستيقظ ، وتقف وتقعد ، وتعطي وتأخذ ، وتأكل وتشرب ؟؟

ترى من ذا الذي وهبك السمع والبصر والشم والحواس المختلفة ، والأحاسيس المرهفة ، والتمتع بالجمال حيثما رايته ؟

ترى من ذا الذي متعك بالصحة والعافية ، في الوقت الذي يعاني فيه ملايين غيرك من أمراض يئنون تحت حجر رحاها ؟

من ذا أنطق هذه العضلة في فمك فتكلمت !؟
من ذا الذي أسمع أذنيك فوعيت ؟

من ذا الذي أصلح معدتك وقوى بدنك ..؟!

بل من ذا أخرج لك فضلاتك !؟ ! ولو أنها احتبست فيك لملأت الدنيا صياحا وعويلا ؟

من ذا الذي ركب فيك ملايين الشرايين والأوردة والخلايا والأعصاب ، فيها شبكة معقدة عجيبة ، وأي خلل في جزء منها يجعل حياتك عذابا ؟!

من ذا الذي متعك بالإحساس بالطعوم المختلفة ، والروائح المتنوعة ، والمناظر الجمالية التي لا تحصى ؟

بل من ذا الذي هيأ لك هذا الكون بهذا التصميم العجيب الفريد ، تطلع شمس وتغيب ، ويظهر قمر ويختفي ، ويأتي ليل في أعقاب نهار ، وسماء مرفوعة بلا أعمدة ، وهواء يهب ولا ينقطع ، ونسبة أكسجين لا تختل ، وأرض تدور دون أن تشعر بدورانها ، ولو أنها أسرعت قليلا ، لما تهنأ أحد على ظهرها ، ولو أنها لم تدر أصلا فكذلك !

ثم هذه الجاذبية المغناطيسية التي تدير العقل ، والتي لو اشتدت لما صلحت الحياة على هذه الأرض ، ولو قلت عن نسبتها لما صلحت أيضا !!

وسحاب ومطر ، وبحار وأنهار ، وسيول وشلالات ، إلى آخر هذه الآيات وهي آيات تتجدد ولا تنتهي .. ( وأن تعدوا نعمة الله لا تحصوها )

يتجدد السؤال ويعظم ويكبر :

ترى من ذا الذي فعل لك هذا كله ، وصنع بك هذا كله ، وهيأ لك هذه الأعاجيب كلها ؟ أليس هو الله رب العالمين وحده ؟

بلى والله ، وهل أحد قادر على صنع شيء من ذلك ؟!

إذن فلما لا تُشغف قلوبنا بحبه ؟ لماذا لا نحبه ( كل ) الحب ؟

لماذا لا نقبل عليه بكلياتنا ولا نستبقي من أنفسنا شيئا إلا ونوجهه إليه وحده ؟

ألا يستحق هذا منا اعترافا بجميل فعله ، وعظيم امتنانه ، وواسع رحمته ، وعجيب لطفه ؟

إننا نتحدث عن حب حقيقي يُترجم في واقع الحياة ، وليس عن مجرد دوران لسان بحب الله تعالى ، وواقع الحال يعلن أننا في وادٍ والمحبة في وادٍ آخر !؟

لماذا اتفقنا أن على الأبناء أن يبرهنوا على حب والديهم بالعمل وبالسلوك ، ثم نحن لا نفعل مع الله ما نطالب أولئك الأبناء به !!

مع اعترافنا أن جميل وإحسان وفضل الله هو الأصل الأصيل !؟

إنه يلزمنا أن نفكر كثيرا في مثل هذه المسألة ، وبمثل هذا الطرح ، وبمثل هذه الآيات ، لعلنا نحرك رياح محبة الله بقوة في قلوبنا ، أو كما عبر بعضهم ، لعلنا نوقد مجامر القلوب فعلا وصدقا بنار محبة الله سبحانه .

ثم علينا أن نعلم أنه حين تشب نيران محبة الله في قلوبنا ، فإنها ستتذوق حلاوة خاصة ، ونعيم عجيب ، ومتعة فريدة ، كثمرة طبيعية لولادة هذه المحبة ، التي ترجمناها فعلا في واقع حياتنا ..

وعلينا مع هذا كله ، أن نلح على الله ليل نهار وصباح مساء وفي كل وقت وحين ، أن يمن علينا وتفضل بأن يملأ قلوبنا بمحبته سبحانه ، ولا يبقي فيها شيئا إلى وقد غمرته أنوار هذه المحبة ، وعلامة ذلك أنها لن تلتفت إلا إليه ، ولن تتعلق إلا به ، ولن تتحرك إلا في طاعته ، ولن تنشغل إلا بذكره وبما يقرّب إليه ..

وعلى إثر ذلك تجد نفسها في نعيم مقيم ، وجنة وارفة الظلال ، وأنس وسكينة وطمأنينة قلب ، وبحبوحة رضا ، وأمن وأمان ، وروح وريحان ، ورب راضٍ غير غضبان !

وأختم بهذه اللطيفة :

كان أحد السلف يناجي ربه قائلا :

وعزتك يا رب لو أن قلبي بيدي اليسرى ، ومحبتك بيدي اليمنى ، ما استطعت أن ألج هذه في هذه ، إلا بتوفيقك ، فلا تحرمني ذلك يا رب العالمين ..!





كتبها بو عبدالرحمن