[البركة سليمان]

جلست الطفلة الصغيرة ذات الثلاثة أعوام تلعب مع أخيها الصغير الذي لم يتجاوز عمرة السنتين بجوار والدها ، وبينما كان الطفل الصغير ينازع إخته على حضن أبية ويقوم بسحب يدها لكي يستأثر بحضن الأبوة الدافئ ، قالت الطفلة الصغيرة ببراءة الأطفال تناشد أخيها الصغير : " ياحبيبي ... لا لا تطلقني !! " . هنا رفع الأب رأسه والإبتسامة تعلوا محياة وهو مندهش من هذة العبارة الكبيرة التي تخرج من فم هذه الطفلة الصغيرة .. وسئل الأب إبنته وهو يحاول كبح جماح هذه الإبتسامة الحانية : " من أين جئت بهذا الكلام يا حبيبتي ؟؟ " فردت الطفلة ببراءة الأطفال وعذوبة الأطفال ورقة الأطفال ووداعة الأطفال : " من المسلسل ياأبي !! " . هنا صمت الأب وهو يتأمل زهرتين من زهور قلبة وروحة تلهوان بين أحضانة وكيف أن لجهاز التلفاز أثرة الواضح وتأثيرة الفاضح على عقول ونفسيات وسلوكيات أطفاله الصغار وهو لا يدري عن كل هذا التأثير الذي يحدثه كل يوم وكل لحظة !!

هذه الحكاية البسيطة والقصيرة والمعبرة تداعت الى الذهن وشرعت نافذة من التأملات حول تأثير التلفزيون على عقول الأطفال وتفكير النشء وجعلتني أتذكر ذلك البرنامج التلفزيوني الذي كان يتحدث عن ذات الفكرة والقضية ، حيث تم إستضافة أخصائيين في تربية الأسرة و الأطفال وأثر هذا الجهاز على عقول النشء وما يتركه من أثار في السلوكيات والمشاعر وكيف أن هذا الجهاز الصغير أصبح هو المعلم البديل والمربي الخفي والذي لا يعلم عنه الوالدين .

في هذا البرنامج تم وضع حوض صغير وبداخلة سمكة صغيرة وكان هذا المختص يتحدث بأن عقل السمكة لا يتجاوز نصف حبة الأرز ، ومع ذلك قادر هذا المخ على التقليد والمحاكاة من خلال ما يراه أمامه على شاشة التلفاز ، وكانت التجربة والدراسة تقوم على إختبار هذة السمكة الصغيرة التي في الحوض من خلال رمي دود صغير أحمر عليها وكانت السمكة تتحرك بهدوء دون إكتراث لما يسقط عليها من هذا الدود الأحمر الصغير ، ثم قاموا بوضع تجربة في التلفزيون لسمكة أخرى ، وهذه السمكة ترى ماذا تفعل السمكة الأخرى من خلالا الشاشة الفضية ، فقاموا بإحضار سمكة صغيرة أخرى وتم وضعها في حوض آخر مشابة ، وقاموا برمي الدود الصغير الأحمر عليها ، وكانت هذه السمكة التي تظهر على الشاشة تقوم بإلتقاط الدود الأحمر الصغير بحركة سريعة خاطفة وعجيبة وتقوم بأكله على الفور ، وتم تكرار هذه التجربة أكثر من مرة ، والسمكة الصغيرة التي بالحوض ترى بالتلفاز ما تفعله هذه السمكة مع الدود الأحمر الصغير ، وحينما تم إعادة التجربة على السمكة الصغيرة الأولى التي في الحوض والتي لم تكن تكترث من قبل بالدود الصغير الأحمر وهو يسقط عليها ، كانت المفاجأة أن هذه السمكة الصغيرة تعلمت مما شاهدته في التلفاز وأخذت تقوم بإلتقاط الدود الأحمر الصغير وبنفس السرعة والطريقة والخفة وتقوم بأكل الدود الأحمر كما كانت تفعل السمكة الأخرى في الشاشة الفضية.

ثم قام البرنامج بعمل تجربة أخرى على مجموعة من الأطفال الصغار ووضع كل طفل في غرفة مستقلة ويشاهد برنامجا معينا ، فالطفل الأول كان يشاهد إمرأة تقوم بالحديث مع دمية صغيرة ، والطفل الثاني كان يشاهد إمرأة تلاعب دمية وتحتضنها لتنام بجوارها ، والطفل الثالث كان يشاهد إمرأة تقوم بضرب الدمية بآلة حادة وبشكل عنيف ، وبعد ذلك تم جلب هذه الدمية الصغيرة لهؤلاء الأطفال الثلاثة ، ووضع كل واحد منهم في ذات الغرفة التي شاهدها ، وكانت النتيجة أن كل واحد من هؤلاء الأطفال قام بتقليد ومحاكاة مارآة ، بل إن بعض منهم قد زاد وأضاف على ما رآه كتقبيل الدمية والغناء لها أو ضربها بشكل مختلف و بأكثر من آلة حادة .
إن الطفل لبنة صغيرة لينة وهشة قابلة للتكوين وللتعجين للخير أو الشر ، وذاكرته وعواطفه وأحاسيسه وتفكيره مثل الصفحة البيضاء التي تمتلئ بالخطوط المختلفة التي يراها خلال مراحل طفولته ، سواء كانت عن طريق الوالدين أو الأقارب أو الجيران أو المدرسة أو الشاشة الفضية ، ولابد أن نحرص جميعا على أن تمتلئ هذه الصفحات البيضاء بالخير والمحبة والمودة والعطف والإنسانية لكي يخرج لنا جيل صالح ونافع يملئ حياتنا والدنيا بكل ما هو جميل ومبهج وممتع .

الكاتب/ شجاع