[عبيراليمن]

ان المزاح كالمداعبه والملاعبه , والهزل الذي هو خلاف الجد , يقال : هزل في قوله أوفعله , أومزح , أوداعب : الكل بمعنى واحد . والسؤال : هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم _ على جلال قدره وسمومكانته , وانشغال باله بمهام الرسالة وأعباء القياده وهداية الناس _ يمزح ؟
والجواب : نعم , كان يمزح ويداعب ويهزل بقلة لاستيعاب الجد وقته كله الا أنه كان في مزاحه ومداعبته لايخرج أبدا عن دائرة الحق بحال من اللأحوال , وهو في مزاحه ومداعبته يقدم معروفا لأصحابه بما يدخل عليهم من الغبطة والسرور وعلى أطفالهم اذا داعبهم من الفرح والسرور والحبور .
وبستعراضنا للمواقف النبويه الآتية تتجلى لنا الحقيقة , وهي أن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ كان يمزح ولا يقول الا حقا . وفي الامكان الائتساء به في ذلك , لأنه من المقدور المستطاع , وليس من خصائصه _ صلى الله عليه وسلم , بل هو أدب عام يأخذ به كل مؤمن قدر عليه .
_ حدث أنس بن مالك : ( رضي الله عنه ) فقال : ان رجلا أتى النبي _ صلى الله عليه وسلم _ فاستحلمله _ أي طلب اليه أن يحمله على بعير ونحوه _ فقال له صلى الله عليه وسلم : " انا حاملوك على ولد الناقه " فقال الرجل : يا رسول الله , ما أصنع بولد الناقه ؟ فقال رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ : " هل تلد الابل الا النوق ؟ " فكان قوله مداعبه للرجل ومزاحا معه . وهو حق لا باطل فيه .
_ وحدث النعمان بن بشير ( رضي الله عنهما ) قال : استأذن أبو بكر النبي _ صلى الله عليه وسلم _ فسمع صوت عائشة عاليا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم , فلما دخل تناولها ليلطمها وقال : لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل النبي-صلى الله عليه وسلم يحجزه . وخرج أبو بكر مغضبا , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج أبو بكر : " كيف رأيتني أنقذتك من الرجل ؟ " .
فمكث أبوبكر أياما , ثم استأذن على رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فوجدهما قد اصطلحا , فقال لهما أدخلاني في سلمكما كما أدخلتماني في حربكما , فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - : " قد فعلنا , قد فعلنا " .
ففي هذا الحديث من حسن العشرة وطيب المداعبه ما لا يخفى على متأمل .
_ وحدث أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) أن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال له : " يا ذا الأذنين " , وهي مداعبه ظاهرة , وهي حق واضح , اذ كل انسان ذو أذنين اثنتين .
_ وحديث أنس بن مالك فقال : كان رجل من أهل الباديه يقال له زاهر , وكان يهدي للنبي -صلى الله عليه وسلم - الهدية من الباديه . فيجهزه النبي -صلى الله عليه وسلم - اذا أراد أن يخرج فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فيه يوما : " ان زاهرا باديتنا , ونحن حاضرته " , وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يحبه . وكان رجلا دميما , فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - , وهو يبيع متاعه , فاحتضنه من خلفه - ولا يبصره الرجل - فقال : أرسلني من هذا ؟ فالتفت , فعرف النبي -صلى الله عليه وسلم - فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - , وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من يشتري هذا العبد " فقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اذن والله تجدني كاسدا , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لكن عند الله لست بكاسد أنت عند الله غال "
فالمزاح في هذا الحديث ظاهر بصوره واضحه , ومعه من كمال الخلق وحسن الصحبه , وطيب المخالطه ما لا مزيد عليه .
_ وروى البخاري ( رحمه الله ) أن رجلا كان يقال له : عبد الله , ويلقب بحمار , وكان يضحك النبي -صلى الله عليه وسلم - , وكان يؤتى به في الشراب - أي السكر ليقام عليه الحد - فجئ به يوما فقال رجل : لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به !! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تلعنه , فانه يحب الله ورسوله " : فقوله : وكان يضحك النبي - صلى الله عليه وسلم - دليل على أنه يمازحه حتى يضحك , و المزاح يكون بين اثنين . فكل واحد يمازح الثاني .
_ وحدث أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) فقال : كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - حاد يحدو بنسائه يقال له : انجشة , فحدا فأعنقت الابل , فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ويحك يا أنجشة ارفق بالقوارير " أي النساء , فاطلاق القوارير على النساء مداعبه ظاهره ووصفهن بالقوارير لضعفهن , فلو سقطت احداهن من هودجها لتكسرت , ولو كن غير أمهات المؤمنين لصح أن يقال : ان الحداء - وهو صوت الحادي الرقيق - قد يوجد في نفس المرأة أثرا غير صالح .
_ وحدث مسروق عن عائشه ( رضي اللع عنها ) قالت : حدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نساءه ذات ليلة حديثا . فقالت امرأة منهن : يا رسول الله , كأن الحديث خرافة , فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أتدرين ما خرافه ؟ ان خرافه كان رجلا من بني عذرة أسرته الجن في الجاهليه , فمكث فيهم دهرا طويلا , ثم ردوه الى الانس , فكان يحدث الناس بما رأى فيهم من الأعاجيب فقال الناس : حديث خرافه " (الحديث رواه الترمذي الا أن ابن كثير أعله وضعفه , وذكرناه لأنه حل لنا اشكال قول الناس : هذا حديث خرافه . ) , والداعبه في هذا الحديث ظاهر في الرد على القائلة : حديث خرافه , فبدل أن يؤنبها لاطفها وداعبها , وقص عليها قصة خرافه العذري .
_ حدث الحسن البصري ( رحمه الله ) فقال : أتت امرأة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله , ادع الله أن يدخلني الجنة , قال : " يا أم فلان ان الجنة لا يدخاها عجوز " فولت العجوز تبكي , فقال : " أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز , فان الله تعالى يقول " انا أنشأنا هن انشاء * فجعلناهن أبكرا * عربا أترابا ".
_ وحديث أن امرأة جاءت تسأل عن زوجها , فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " زوجك الذي في عينيه بياض " فبكت , وظنت أن زوجها عمي , فأعلمت أن العين لا تخلو من بياض , فكانت كمداعبته - صلى الله عليه وسلم - للعجوز .
ومصداقا لما قدمناه من أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقول في مزاحه الا حقا , فقد قال ابو هريرة ( رضي الله عنه ) قالو يا رسول الله انك لتداعبنا , قال : " اني لا اقول الا حقا " .
منقول من كتاب ( هذا الحبيب يا محب ) - تأليف : أبو بكر الجزئري . حفضه الله .