[الكون]

a7

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته


يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الإسراء:

“وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا. وإذا مسه الشر كان يؤوسا. قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا”
(الآيات ،82 ،83 84).

في هاتين الآيتين يمدح الحق سبحانه وتعالى القرآن الكريم الذي أنزله على قلب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ويبين أحوال الإنسان في حالتي اليسر والعسر والرخاء والشدة، وأن كل إنسان يعمل في هذه الدنيا على حسب طبيعته ونيته وميوله.

قال الفخر الرازي في معنى الآية الأولى: “وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين”: جميع القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.

ويقول الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر في تفسيره لهذه الآية الكريمة: مما لا شك فيه أن قراءة القرآن، والعمل بأحكامه وآدابه وتوجيهاته شفاء للنفوس من الوسوسة والقلق والحيرة والنفاق والرذائل المختلفة، ورحمة للمؤمنين من العذاب الذي يحزنهم ويشقيهم إنه شفاء لمن خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان، فأشرقت بنور ربها، وتفتحت لتلقي ما في القرآن من هدايات وإرشادات. إنه شفاء للنفوس من الأمراض القلبية كالحسد والطمع والانحراف عن طريق الحق وشفاء لها من الأمراض الجسمانية.

وقال القرطبي عند تفسيره هذه الآية: اختلف العلماء في كون القرآن شفاء على قولين:

أحدهما: أنه شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها وإزالة الريب، وكشف غطاء القلب من مرض الجهل.
الثاني: أنه شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقي والتعوذ ونحوه.

قال بعض العلماء: وقوله تعالى في هذه الآية: “ما هو شفاء” يشمل كونه شفاء للقلب من أمراضه، كالشك والنفاق وغير ذلك، وكونه شفاء للأجسام إذا رقي عليه به كما تدل قصة الذي رقى الرجل اللديغ بالفاتحة، وهي صحيحة مشهورة.


شقاء للظالمين

وبعد أن بين سبحانه أثر القرآن بالنسبة للمؤمنين أتبع ذلك ببيان أثره بالنسبة للظالمين، فقال: “ولا يزيد الظالمين إلا خسارا” أي ولا يزيد ما ننزله من قرآن الظالمين إلا خسارا وهلاكا بسبب عنادهم وجحودهم للحق بعد إذ تبين.

قال الآلوسي في تفسيره: إسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن مع أنهم المزدادون في ذلك لسوء صنيعهم باعتباره سببا لذلك، وفيه تعجب من أمره من حيث كونه مدارا للشفاء والشقاء.

وشبيه بهذه الآية قوله سبحانه في سورة التوبة: “وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا، فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون” (،124 125).

وقوله تعالى في سورة فصلت: “قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء. والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد” (44).



أحوال الإنسان


ثم صور سبحانه وتعالى حال الإنسان عند اليسر والعسر، وعند الرخاء والشدة، فقال تعالى: “وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه. وإذ مسه الشر كان يؤوسا”.

أي وإذا أنعمنا على الإنسان بنعمة الصحة والغنى وما يشبههما مما يسره ويبهجه “أعرض” عن طاعتنا “ونأى بجانبه” أي وابتعد عنا، وولانا ظهره.

وقوله تعالى نأى بجانبه: تأكيد للإعراض لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه، والنأي بالجانب: أن يلوي عنه عطفه، ويوليه ظهره، ويظهر الاستكبار والغرور.

وقوله تعالى: “وإذا مسه الشر كان يؤوسا” أي: وإذا مس الشر هذا الإنسان من فقر أو مرض، كان يؤوسا وقنوطا من رحمة الله تعالى. فهو في حالة الصحة والغنى يبطر ويتكبر ويطغى، وفي حالة الفقر والمرض ييأس ويقنط ويستولي عليه الحزن والهم. ولكن ليس جميع الناس على هذه الحال، وإنما منهم المؤمنون الصادقون الذين يشكرون الله تعالى على نعمه، ويذكرونه ويطيعونه في السراء والضراء.

قال سبحانه في سورة هود: “ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور. ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور. إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة وأجر كبير” (،9 ،10 11).

فنحن نرى هنا أن الله تعالى قد استثنى الذين صبروا وعملوا الصالحات من رذيلة الجحود عند اليسر واليأس عند العسر.
وفي إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الانعام إلى ضميره تعالى إيذان بأن الخير مراد بالذات، والشر ليس كذلك لأن ذلك هو الذي يقتضيه الكرم المطلق، والرحمة الواسعة.

ثم بين سبحانه وتعالى أنه لا يخفى عليه شيء من أحوال الناس وأعمالهم فقال: “قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا”.

ومعنى “شاكلته” أي طريقته ومذهبه الذي يشاكل ويناسب حاله في الهداية أو الضلالة. وقيل هو مأخوذ من الشكل وهو المثل والنظير.

والمعنى: قل أيها الرسول الكريم للناس: كل واحد منكم أيها الناس يعمل على شاكلته وطريقته التي تشاكل حاله، وتناسب اتجاهه وتتلاءم مع سلوكه وعقيدته، فربكم الذي خلقكم وتعهدكم بالرعاية أعلم بمن هو أهدى سبيلا وأقوم طريقا، سيجازي سبحانه الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

فالآية الكريمة تبشر أصحاب النفوس الطاهرة والأعمال الصالحة بالعافية الحميدة، وتهدد المنحرفين عن طريق الحق المتبعين لخطوات الشيطان بسوء المصير، لأن الله تعالى لا تخفى عليه خافية وسيجازي كل إنسان بما يستحقه: “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”.



وفقنا الله و إياكم لكل خير





.