لطلب خدمة التعبير الهاتفي فضلا ابعث رسال لرقم الجوال:0568849911,أخي الزائر / أختي الزائرة مرحبا بكم في موقع بشارة خير ولتفسير أحلامكم نرجو اطلاعكم على المواضيع التالية:,منتدى التعبير المجاني بموقع د/ فهد بن سعود العصيمي,تفعيل خدمة الدعم الهاتفي (رسائل واتس أب) وإشتراك الدعم (الماسي), |
الدكتور فهد بن سعود العصيمي |
اللهم ارحمهما واغفر لهما واجعل مثواهما الجنة |
صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبدالرحمن بن عبدالعزيز حفظه الله ورعاه |
مساحة إعلانيه |
لطلب خدمة التعبير الهاتفي فضلا ابعث رسال لرقم الجوال:0568849911,أخي الزائر / أختي الزائرة مرحبا بكم في موقع بشارة خير ولتفسير أحلامكم نرجو اطلاعكم على المواضيع التالية:,منتدى التعبير المجاني بموقع د/ فهد بن سعود العصيمي,تفعيل خدمة الدعم الهاتفي (رسائل واتس أب) وإشتراك الدعم (الماسي), |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
لمسات بيانية من سورة البلد
بقلم الدكتور فاضل السامرائي بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ {1} وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ {2} وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ {3} لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ {4} أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ {5} يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا {6} أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ {7} أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ {8} وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ {9} وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ {10} فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ {11} وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ {12} فَكُّ رَقَبَةٍ {13} أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ {14} يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ{15} أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ {16} ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ {17} أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ {18} وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ {19} عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ) سئلت مرة: ما علاقة القسم بمكة على خلق الإنسان في كبد في قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد). فقلت له ابتداءً: إن الله أقسم بمكة حال كون الرسول فيها والرسول كان يلاقي فيها عنتاً ومشقة وهو يبلغ الدعوة، فقال الله تعالى: إن الله خلق الإنسان مكابداً في دنياه، ليسليه ويصبره. ثم رأيت أن أنظر في السورة وأدون ما أجد فيها من لمسات فنية. إن مناسبة هذه السورة لما قبلها ـ أعني سورة الفجر ـ مناسبة ظاهرة. فقد جاء فيها ـ أعني في سورة الفجر ـ قوله تعالى: (فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن كلا بل لا تكرمون اليتيم ولا تحاضون على طعام المسكين وتأكلون التراث أكلاً لما وتحبون المال حباً جماً) [الفجر]. فقد ذكر فيها صنفي الإنسان: الغني والفقير. الصنف الذي أكرمه ربه ونعمه، والصنف الذي ابتلاه وضيق عليه الرزق، وهو ما ذكره في سورة البلد. فقد ذكر الإنسان الذي أهلك المال الكثير، وذكر المسكين ذا المتربة واليتيم ذا المقربة. ووصف الله الإنسان بأنه لا يكرم اليتيم، ولا يحض على طعام المسكين في سورة الفجر، وأوصانا بالرحمة وحضنا على الإنفاق في سورة البلد ذاكراً هذين الصنفين اللذين ذكرهما في سورة الفجر فقال: (أو إطعامٌ في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة) فذكر الصنفين المذكورين في سورة الفجر، اليتيم والمسكين. ولما وصف الله الإنسان بأنه يحب المال حباً شديداً ويأكل التراث أكلاً لما في سورة الفجر، ذكر في سورة البلد أن هذه عقبة لا يجتازها إلا من أعان الآخرين بماله وسمح لهم به. ثم انظر إلى علاقة قوله: (وتأكلون التراث) بقوله: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة) وأنه كما يأكل ينبغي أن يطعم الآخرين، فانظر إلى قوة المناسبة وجمال الارتباط. وقد انتبه المفسرون ـ رحمهم الله ـ إلى علاقة هذه السورة بما قبلها. جاء في (البحر المحيط): "لما ذكر تعالى ابتلاءه للإنسان بحالة التنعيم، وحالة التقدير وذكر من صفاته الذميمة ما ذكر وما آل إليه حاله وحال المؤمن أتبعه بنوع من ابتلائه ومن حاله السيئ، وما آل إليه في الآخرة"[1]. وجاء في (روح المعاني): "ولما ذم سبحانه فيما قبلها من أحب المال، وأكل التراث أكلاً لما، ولم يحض على طعام المسكين، ذكر جل وعلا فيها الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة، وإطعام في يوم ذي مسغبة. وكذا لما ذكر ـ عز وجل ـ النفس المطمئنة هناك ذكر سبحانه بعض ما يحصل به الاطمئنان"[2]. ثم انظر من ناحية أخرى، كيف أن هذه السورة ـ أعني سورة البلد ـ استوفت عناصر البلاغ والإرسال، فقد ذكرت موطن الرسالة، والرسول، والمرسل إليهم، والرسالة. فقد ذكرت (مكة) وهي المرادة بقوله: (بهذا البلد)، والرسول: وهو المراد بقوله: (وأنت حل بهذا البلد) وذكرت المرسل إليه وهو (الإنسان) ويدخل فيه أيضاً: (الوالد وما ولد)، وذكرت الرسالة، وهي الإيمان والعمل الصالح، وهو ما ذكرته من فك الرقبة ونحوه من الأعمال الصالحة. وذكرت أصناف الخلق بالنسبة للاستجابة إلى الرسالة، وهم أصحاب الميمنة الذين اقتحموا العقبة وأصحاب المشأمة، وهم الكفرة. فانظر أي عموم واستيفاء وشمول في هذه السورة المباركة؟ (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد). لقد أقسم الله تعالى بما ذكر "على أن الإنسان خلق مغموراً في مكابدة الشدائد والصعاب"[3]. فقد أقسم سبحانه بالبلد الحرام في حال حلول الرسول صلى الله عليه وسلم فيه وإقامته به يبلغ دعوته. وقد تقول: ولم قال: (وأنت حل) ولم يقل: وأنت حال أو مقيم بهذا البلد. والجواب: أنه جمع بالعدول إلى كلمة (حل) عدة معان في آن واحد كلها مرادة مطلوبة. ذلك أن كلمة (حل) تحتمل معاني عدة: منها: أنها تأتي بمعنى الحال والمقيم[4]. وقالوا: إن المقصود، تعظيم المقسم به، وهو أنه لما حل الرسول بمكة جمعت شرفين، شرفها هي الذي شرفها الله به، وشرف الرسول فازدادت تعظيماً على تعظيم وشرفاً على شرف، واستحقت بذلك القسم. جاء في (البحر المحيط): "إنه تعالى أقسم لما جمعت من الشرفين شرفها بإضافتها إلى الله تعالى، وشرفها بحضور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإقامته فيها فصارت أهلاً لأن يقسم بها"[5]. وجاء في (تفسير البيضاوي): "أقسم سبحانه بالبلد الحرام، وقيده بحلوله عليه السلام فيه، إظهاراً لمزيد فضله وإشعاراً بأن شرف المكان بشرف أهله"[6]. وجاء في (التبيان في أقسام القرآن): "إنه إذا كان الحل من الحلول، فهو متضمن لهذا التعظيم مع تضمنه أمراً آخر، وهو الإقسام ببلده المشتمل على رسوله وعبده، فهو خير البقاع، وقد أشتمل على خير العباد. فجعل بيته هدى للناس ونبيه إماماً وهادياً لهم، وذلك من أعظم نعمه وإحسانه إلى خلقه"([7]). "وقيل: هو نفي للقسم. والمعنى: لا أقسم بهذا البلد إذا لم تكن فيه بعد خروجك منه"[8]. ومن معاني (الحل): أنها تأتي بمعنى اسم المفعول، أي: مستحل، على هذا يكون المعنى: وأنت مستحل قتلك لا تراعى حرمتك في هذا البلد الحرام الذي يأمن فيه الناس على دمائهم وأموالهم والذي يأمن فيه الطير والوحش. جاء في (الكشاف): "ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمتك، مستحل بهذا البلد الحرام كما يستحل الصيد في عير الحرم. عن شرحبيل: يحرمون أن يقتلوا بها صيداً ويعضدوا بها شجرة ويستحلون إخراجك وقتلك. وفيه تثبيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكة وتعجيب من حالهم في عداوته. أو سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقسم ببلده على أن الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد"[9]. وجاء في (روح المعاني): "وفيه تحقيق مضمونه بذكر بعض المكابدة على نهج براعة الاستهلال، وإدماج لسوء صنيع المشركين، ليصرح بذمهم على أن الحل بمعنى المستحل بزنة المفعول الذي لا يحترم، فكأنه قيل: ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمته يستحل بهذا البلد ولا يحترم كما يستحل الصيد في غير الحرم… وفي تأكيد كون الإنسان في كبد، بالقسم تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على أن يطامن نفسه الكريمة على احتماله، فإن ذلك قدر محتوم"[10]. وجاء في (التبيان في أقسام القرآن): "وفي الآية قول ثالث، وهو أن المعنى: وأنت مستحل قتلك وإخراجك من هذا البلد الأمين الذي يأمن فيه الطير والوحش والجاني، وقد استحل قومك فيه حرمتك، وهم لا يعضدون به شجرة ولا ينفرون به صيداً… وعلى كل حال فهي جملة اعتراض في أثناء القسم موقعها من أحسن موقع وألطفه. فهذا القسم متضمن لتعظيم بيته ورسوله"[11]. ومن معاني (الحل) أنها تأتي بمعنى الحلال ضد الحرام، أي: "وأنت حلال بهذا البلد يحل لك فيه قتل من شئت. وكان هذا يوم فتح مكة"[12]. وجاء في (الكشاف): "يعني وأنت حل به في المستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل والأسر… فإن قلت: أين نظير قوله: (وأنت حل) في معنى الاستقبال؟ قلت: قوله: (إنك ميت وإنهم ميتون) ومثله واسع في كلام العباد"[13]. وعلى هذين القولين الأخيرين تكون (لا) نافية، أي: لا أقسم بهذا البلد في حين أن أهله يستحلون حرمتك، ولا يرعون لك قدراً، أو لا أقسم به وقد جاء أهله بأعمال تستحل حرمتهم والوقيعة بهم في هذا البلد الآمين. فعلى كلا القولين: تكون (لا) نافية. جاء في (البحر المحيط): "وقال ابن عطية: وهذا يتركب على قول من قال: (لا) نافية، أي: أن هذا البلد لا يقسم الله به، وقد جاء أهله بأعمال توجب الإحلال، إحلال حرمته"[14]. وقيل: المعنى: "وأنت حل بهذا البلد مما يقترفه أهله من المآثم متحرج بريء منها"[15]، كما تقول: أنا في حل من هذا. وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فهو صلى الله عليه وسلم حال بهذا البلد الكريم يبلغ رسالة ربه متحرج من آثامهم بريء من أفعال الجاهلية، وقد استحلت حرمته وأريد قتله في حين حلوله به وتبليغ دعوة ربه. وأنه حل لهذا الرسول أن يقتل ويأسر في هذا البلد يوم الفتح ما لا يحل لغيره. وهذا على الاستقبال وعلى الوعد بنصره. فانظر كيف جمعت كلمة (حل) هذه المعاني المتعددة بخلاف ما لو قال: (حال) أو مقيم، أو حلال، أو ما إلى ذلك مما يقصر الكلام على معنى واحد. فإنها جمعت اسم الفاعل وهو الحال، واسم المفعول وهو المستحل، والمصدر وهو الحلال. فانظر أي اتساع في المعنى؟ وهي في هذه المعاني كلها مرتبطة بالمقسم عليه، وهو قوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) أحسن ارتباط وأوثقه كما سنبين ذلك. |
|
وقد تقول: ولم لم يقل: (لا أقسم بهذا البلد الأمين) كما أقسم في سورة التين؟
والجواب: أنه لما جرى ذكر المكابدة في هذا البلد، وما استحل به من الحرمات وما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم من المشقة والعنت والتعذيب لم يناسب ذلك ذكر الأمن. كما لا يصح ذكر ذلك على معنى أنه حل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصنع فيه ما يشاء من القتل والأسر كما حدث في فتح مكة، فإن ذلك لا يناسب ذكر الأمن أيضاً. كما أن جو السورة لا يناسب ذكر الأمن، فإن جو السورة في المكابدة والمشقة حتى أنه لم يذكر جزاء المؤمنين في الآخرة، بل ذكر جزاء الكافرين وهذا الجزاء لا يأمن معه الكافر أبد الآبدين. فلم يناسب ذلك ذكر (الأمين). وقد تقول: ولم كرر (بهذا البلد) في الآيتين فقال: (وأنت حل بهذا البلد) ولم يقل: (وأنت حل به)؟. والجواب: أن هذا أجمل تكرير وأحسنه ولا يقع الضمير موقعه في الحسن. إذ من المعلوم أن العرب إذا عنيت بلفظ كررته وذلك كأن يكون في موطن التشويق أن التحسر أو التعظيم أو التهويل وغير ذلك من مواطن العناية والاهتمام وذلك نحو قال الشاعر: يا موقد النار بالهندي والغار هيجت لي حزناً يا موقد النار فأنت ترى أن تكرار (يا موقد النار) من أجمل التكرار وأحسنه. ومثل ذلك التكرار للتحسر نحو قوله: فيا قبر معن أنت أول حفرة من الأرض خطت للسماحة موضعاً ويا قبر معن كيف واريت جوده وقد كان منه البر والبحر مترعاً ونحوه قول أبي العتاهية: مات والله سعيد بن وهب رحم الله سعيد بن وهب يا أيا عثمان أبكيت عيني يا أبا عثمان أوجعت قلبي ومن التكرير للتعظيم والتهويل قوله تعالى: (الحاقة ما الحاقة) و(القارعة ما القارعة) [16] و: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين). ومن التكرير للإنذار قوله تعالى: (أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ {97} أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأعراف]. فانظر حسن هذا التكرير وجمال موقعه. وقد يكون التكرير للإنكار وذلك كأن تقول لشخص أساء إلى من أحسن إليه في حين تنكر له الأقربون وطرده الناس أجمعون: أتعادي خالداً الذي أكرمك، وآواك وأنت حينذاك طريد مهان لا أحد يؤويك؟ أتهين خالداً الذي أكرمك وآواك من أجل شخص رذيل؟ أتسرق خالداً الذي أكرمك وآواك، وقد وثق بك وائتمنك؟ ثم أتتهم خالداً الذي أكرمك وآواك بما تعلم أنه كذب ووزر؟ أيسيء أحد إلى الشخص الذي أكرمه وآواه؟ أيفعل أحد كل هذا مع الشخص الذي أكرمه وآواه؟ أي فعل هذا. وأي إنسان ذلك الإنسان؟!. والتكرار في الآية لتعظيم بلد الله الحرام فقد قال: (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد) أي: وأنت حال بهذا البلد تلقى العنت والظلم والأذى، بهذا البلد الذي يأمن فيه الخائف، ويأمن فيه الوحش والطير، فأي انتهاك لحرمة هذا البلد، وأي جور يقع بهذا البلد؟ وما إلى ذلك من المعاني الأخرى، التي تقال في تفسير كلمة (حل). جاء في (ملاك التأويل): "للسائل أن يسأل عن تكرير لفظ (البلد) وجعله معطوفاً وفاصلة في الآيتين وكيف موقع ذلك في البلاغة، وعند الفصحاء. والجواب: أنه قد تقدم أن العرب مهما اعتنت بشيء وتهممت به كررته، وإن ذلك من فصيح كلامهم وأن منه قوله: وإن صخراً لوالينا وسيدنا وإن صخراً إذا نشتو لنحار وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار … وذكره ظاهراً لما يحرز هذا المعنى من تعظيمه، لما فيه من تعظيمه لما فيه من التنبيه والتحريك"[17]. وقيل إن التكرير جيء به لفائدة أخرى وهي أن هذا البلد حرام لا تستحل حرمته، ولا يسفك فيه دم ولا يروع فيه آمن، ولكن الله أحل لنبيه يوم فتح مكة ما لم يحله لغيره من قتل وأسر فكأن هذا البلد في هذا اليوم غيره في سائر الأيام وأنه أصبحت له صفة أخرى، وهي صفة الحل فجمع صفتي الحرم والحل فتكرر لتكرر الوصفين، وكأنه أصبح بلدين لا بلداً واحداً. جاء في (درة التنزيل): "السائل أن يسأل عن تكرير (البلد) وجعله فاصلة بين الآيتين. والجواب أن يقال: إذا عني بالثاني غير المقصود بالأول من وصف يوجب له حكماً غير حكم الأول كان من مختار الكلام. فالبلد الأول قصد به وصف لم يحصل في الثاني وهو مكة. لأن معنى أقسم بالبلد المحرم الذي جبلت على تعظيمه قلوب العرب، فلا يحل فيه لأحد ما أحل للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقوله: (وأنت حل) أي: محل حل لك منه ما حرم على غيرك. فصار المعنى: أقسم بالبلد المحرم تعظيماً له، وهو مع أنه محرم على غيرك. محل لك إكراماً لمنزلتك. فالبلد في الأول محرم وفي الثاني محلل"[18]. (ووالد وما ولد) اختلف في الوالد هذا وما ولد، فقيل: هو آدم وذريته "وعلى هذا فقد تضمن القسم، أصل المكان وأصل السكان، فمرجع البلاد إلى مكة ومرجع العباد إلى آدم"[19]. |
|
وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وآباؤه فعلى هذا "أقسم ببلده الذي هو مسقط رأسه وحرم أبيه ومنشأ أبيه إسماعيل وبمن ولده وبه. فإن قلت: لم نكر؟ قلت: للإبهام المستقل بالمدح والتعجب"[20].
وقيل: هو كل والد وما ولد من العقلاء وغيرهم " لا يراد به معين، بل ينطلق على كل والد. وقال ابن عباس ذلك. قال: هو على العموم يدخل فيه جميع الحيوان"[21]. وهذا الذي يترجح عندي فهو يشمل كل والد وولده يدخل فيه ما ذكره الأولون ولا يخصهم. ووجه ارتباطها بالمقسم عليه ظاهر، ذلك أن الولادة مشقة وتعب ومكابدة، فارتباطها بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) بين. وكما هي مرتبطة بالمقسم عليه في أول السورة هي مرتبطة أيضاً بآخر السورة، وهو قوله: (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) ذلك أن الوالد من الأناسي والبهائم، يحتاج في تربية ولده وحفظه وإطعامه والقيام عليه إلى صبر ورحمة. فأتضح بذلك قوة ارتباط الآية بأول السورة وآخرها. ثم انظر كيف انتقل من الوالد وما ولد إلى خلق الإنسان ـ وهو من جملة الوالد وما ولد ـ فخصه من بين هذا العام لأن مدار الكلام معقود عليه. ثم انظر كيف قال: (وما ولد) ولم يقل: (ومن ولد) ولذلك أكثر من سبب. فإن (ما) عامة و(من) خاصة، فإن (ما) تقع لذوات غير العاقل، وتقع لصفات من يعقل، فتقول: (اركب ما تركب) و(آكل ما تآكل) فهي هنا لذوات غير العاقل. وتقع لصفات العقلاء قال تعالى: ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) [النساء]. وقال: (فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت) [آل عمران] وقال: (وما خلق الذكر والأنثى) [الليل]. وهو الله سبحانه. وتقول: (زيد ما زيد) قال تعالى: (وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين) [الواقعة]. فهي تكون للعاقل وغيره، فهي أعم وأشمل من (من) قال الفراء: "وصلحت (ما) للناس، ومثله (وما خلق الذكر والأنثى) وهو الخالق للذكر والأنثى مثله: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء) ولم يقل: من طاب"[22]. ثم عن لفظها يوحي بالسعة والشمول، ذلك أنهال منتهية بحرف الإطلاق وهو الألف، وهو الذي يمتد فيه النفس بخلاف (من) الذي ينتهي بحرف مقيد، وهو النون الساكنة، فجعل المنتهي بحرف مطلق للمطلق الكثير، والمنتهي بحرف مقيد للقليل المقيد بالعقل. فجاء بـ (ما) لتناسب العموم والشمول في الآية. ثم إن هذه الآية مناسبة لجو السورة على وجه العموم، فهي مرتبطة بإطعام المحتاجين في اليوم ذي المسغبة، فإن الوالد يسعى إلى إطعام ولده ويلاقي من أجل ذلك ما يلاقي من مشقة ومكابدة. إن جو السورة تسيطر عليه المكابدة والمشقة والصبر والرحمة وكل ذلك يعانيه الوالد لحفظ ولده ورعايته. ثم انظر من ناحية أخرى، كيف يحتمل قوله: (ووالد وما ولد) ما تحتمله كلمة (حل) من السعة في احتمالات المعنى، وكيف يناسب ذلك سعة (ما) نطقاً ومعنى. (لقد خلقنا الإنسان في كبد). الكبد: الشدة والمشقة[23]. ومعنى (في كبد) أنه "يكابد مشاق الدنيا والآخرة. ومشاقه لا تكاد تنحصر من أول قطع سرته إلى أن يستقر قراره، إما في جنة، فتزول عنه المشقات، وإما في نار فتتضاعف مشاقته وشدائده"[24]. وقيل: "يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء لا يخلو عن أحدهما"[25]. لقد عبر عن هذا المعنى بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ولم يقل: (يكابد) أو (مكابداً) ونحو ذلك، ذلك أن (في) تفيد الظرفية والوعاء. ومعناه: أن الإنسان خلق مغموراً في المشاق والشدائد والصعاب منغمساً فيها كما ينغمر الشيء في الماء، وكما يكون الشيء في الوعاء. فالشدائد والمشاق تحيط بالإنسان لا تنفك عنه إلى أن يموت. وبعد الموت إما أن يجتاز العقبة، فيدخل الجنة فتزول عنه الشدائد والمصائب، وإما أن لا يجتازها فيبقى في المشقات والشدائد أبد الآبدين منغمراً في النار وهي أكبر الشدائد وأعظمهن. ومن معاني (الكبد) أيضاً القوة والشدة والصلابة. جاء في (لسان العرب): "وكبد كل شيء عظم وسطه وغلظه كبد كبداً وهو أكبد، ورملة كبداء عظيمة الوسط… والكبداء: الرحى التي تدار باليد، سميت كبداء لما في إرادتها من المشقة. وفي حديث الخندق: فعرضت كبدة شديدة وهي القطعة الصلبة من الأرض. وأرض كبداء وقوس كبداء: أي شديدة"[26]. وهذا المعنى من لوازم المعنى الأول، فإن الذي خلق مكابداً للشدائد والمصائب متحملاً مشاق الدنيا لا بد أن يكون خلق مستعداً لذلك قوياً عليه شديد التحمل له. إن هذه الآية هي جواب القسم الذي تقدم، فقد اقسم بالبلد الحرام في وقت حلول الرسول الأعظم فيه، وأقسم بالوالد وما ولد على أن الإنسان خلق مغموراً في الشدائد والمشاق. والسورة كلها مبنية على هذا الأمر، فهي مبنية على مكابدة الإنسان للشدائد والمصائب والمشاق. وكل لفظة وكل تعبير في هذه السورة مبني على ذلك ويخدم هذا الشيء. أما ارتباط القسم بالجواب، فهو واضح فقد ذكرنا ارتباط قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد) بهذه المكابدة وكيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يلقى ما يلقى من قومه من مشقة وشدة وهو يبلغ دعوة ربه وفي هذا إشارة إلى أن الدعاة ينبغي أن يوطنوا أنفسهم على المكابدة والصبر، وتحمل المشاق، فإن هذا من لوازم الدعوة إلى الله تعالى، فقلما يكون الداعية في عافية من ذاك. قال تعالى: (ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) [العنكبوت]. والفتنة مشقة كبيرة وشدة بالغة، نسأل الله العافية. وعلى الإنسان |
|
أن يكابد ويجاهد للنجاة منها. ثم انظر من ناحية أخرى كيف ارتبطت مفردات القسم بكل معانيها بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد).
فالحل كما ذكرنا لها أكثر من معنى، وهي في كل معانيها مرتبطة بهذا الأمر. فهي إذا كانت بمعنى الحال والمقيم فهي مرتبطة به، ذلك أن الرسول في أثناء حلوله بمكة كان يكابد ويتحمل من أصناف الأذى والمشاق الشيء العظيم فهو في كبد من ذلك، وكان يتلقى ذلك بصر وثبات وقوة وشدة، فهي مرتبطة بالكبد بمعنييه، المشقة والقوة. وإذا كانت بمعنى اسم المفعول، أي: مستحل قتلك وإيذاؤك لا تراعى حرمتك، فهي مرتبطة بذلك ارتباطاً واضحاً فهذا كله مشقة ونصب. وإذا كانت بمعنى أنك حل من أعمالهم متحرج من آثامهم بريء منها فهي مرتبطة بها كذلك، ذلك أنه يكابد ويجاهد ليخرج عن مألوف عادات قومه وأفعالهم، ويكابد للقيام بفضائل الأعمال وجلائلها، وهي أمور مستكرهة على النفس ثقيلة عليها، تحتاج إلى مكابدة وقوة للقيام بها، قال تعالى: (إنا سنقلى عليك قولاً ثقيلاً) [المزمل]. وقال صلى الله عليه وسلم : "حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات". فهي في كل معانيها مرتبطة بالجواب أحسن ارتباط وأتمه. وكذلك قوله: (ووالد وما ولد) مرتبط بالجواب أحسن ارتباط وأتمه، كما ذكرنا فهو مرتبط بـ (الكبد) بمعنييه: المشقة والقوة. فقد ذكرنا أن الولادة مشقة وعنت، وهي تحتاج إلى قوة ومثابرة ومكابدة لحفظ المولود وتربيته وبقائه وتوفير غذائه. كما أن هذه الآية مرتبطة بما بعدها من اقتحام العقبة، ومشاق الجوع وغيرها أتم ارتباط، كما هو ظاهر وكما سنبين ذاك. (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد). قيل: إن المعني بقوله: (أيحسب) بعض "صناديد قريش الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكابد منهم ما يكابد. والمعنى: أيظن هذا الصنديد القوي في قومه المتضعف للمؤمنين أن لن تقوم قيامة، ولم يقدر على الانتقام منه وعلى مكافأته بما هو عليه"[27]. وقيل: إن التهديد "مصروف لمن يستحقه"[28]. وقيل: إن المعني به الإنسان، أي: أيظن هذا الإنسان الذي خلق مكابداً شديداً، أن لن يقدر عليه أحد؟ جاء في (البحر المحيط): "والظاهر أن الضمير في (أيحسب) عائد على الإنسان، أي هو لشدة شكيمته وعزته وقوته، يحسب أن لا يقاومه أحد، ولا يقدر عليه أحد لاستعصامه بعدده وعدده"[29]. وجاء في (التبيان): "ثم أنكر سبحانه على الإنسان ظنه وحسبانه أن لن يقدر عليه من خلقه في هذا الكبد والشدة والقوة التي يكابد بها الأمور. فإن الذي خلقه كذلك أولى بالقدرة منه وأحق. فكيف يقدر على غيره من لم يكن قادراً في نفسه. فهذا برهان مستقل بنفسه. مع أنه متضمن للجزاء الذي مناطه القدرة والعلم فنبه على ذلك بقوله: (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) وبقوله: (أيحسب أن لم يره أحد) فيحصي عليه ما عمل من خير وشر ولا يقدر عليه فيجازيه بما يستحقه"[30]. وارتباط هذه الآية بما قبلها واضح، فالذي خلق يكابد المصائب والمشاق لا بد أن يكون خلاق مستعداً لاحتمال ذلك ولا بد أن يكون شديد الخلق قوياً، وهو من معاني (الكبد) كما ذكرنا. قال تعالى: (نحن خلقناهم وشددنا أسرهم) [الإنسان] فهذا الذي خلق شديداً قوياً ويكابد المصائب والمشاق قد يسبق إلى وهمه أن لن يقدر عليه أحد، فيهدده ربه ويتوعده إذا كان عنده هذا الحسبان بأن الذي خلقه وزوده بهذه القوة والشدة أقدر منه على نفسه. والظاهر أن هذا الحسبان واقر في نفوس البشر فهم يتصورون أنه لا يتمكن منهم أحد ولا يقدر عليهم أحد، ولذا تراهم يعيشون في غطرسة وكبرياء وظلم بعضهم لبعض معتصمين بجبروتهم وقوتهم لا يحسبون لمن خلقهم حساباً، ولو حسبوا حساباً لخالقهم وربهم القوي القادر لتطامنوا وتواضعوا. ثم إن هذه الآية مرتبطة بقوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد) أي: ألا يتصور هؤلاء الذين ينتهكون محارم البلد الحرام ولا يرعون لك حرمة فيؤذنك ويعذبونك مستندين إلى قدرتهم وجبروتهم ألا يظنون أن هناك من هو أقدر عليهم منهم عليك؟ فهي مرتبطة بما قبلها أتم ارتباط وأحسنه. جاء في (تفسير الرازي): "اعلم أنا إن فسرنا (الكبد) بالشدة في القوة، فالمعنى أيحسب ذلك الإنسان الشديد أنه لشدته لا يقدر عليه أحد، وإن فسرناه بالمحنة والبلاء، كان المعنى تسهيل ذلك على القلب، كأنه يقول: وهب أن الإنسان كان في النعمة والقدرة، أفيظن أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه أحد؟"[31]. |
|
(يقول أهلكت مالاً لبداً)
اللبد: هو الكثير المجتمع من تلبد الشيء إذا اجتمع[32]. ومعنى الآية: إنه يقول إنه أنفق مالاً كثيراً، وهو يقول ذاك إما على جهة الافتخار أو على جهة التحسر. جاء في (الكشاف): "يريد كثرة ما أتفقه فيما كان أهل الجاهلية يسمونها، مكارم ويدعونها معالي ومفاخر"[33]. وجاء في (روح المعاني): "أي: يقول ذلك وقت الاغترار فخراً ومباهاة وتعظماً على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياء وسمعة… وقيل: المراد ما تقدم أولاً، إلا أن هذا القول وقت الانتقام منه، وذلك يوم القيامة. والتعبير عن الإنفاق بالإهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ"[34]. وقد عبر عن الإنفاق بالإهلاك، فإنه لم يقل: (أنفقت مالاً) كما هو الشائع في استعمال القرآن الكريم، واختيار تعبير الإهلاك في هذا الموطن أحسن اختيار وأجمله، فإنه المناسب لجو السورة، وذلك أنه مناسب لجو المشاق والشدائد التي تؤدي إلى الهلاك وتفضي إليه. وهو متناسب مع ما يعانيه الرسول وأصحابه في البد الحرام من الشدائد والمحن التي قد أدت ببعضهم إلى الهلاك كياسر وسمية، ومتناسب مع حسبان الإنسان أن لن يقدر عليه أحد فيهلكه، ومتناسب مع ذكر العقبة التي قد تفضي إلى الهلاك. ومتناسب مع ذوي المسغبة من اليتامى والمساكين وهلاكهم من الجوع إن لم يطعموا، ومتناسب مع خاتمة أصحاب المشأمة التي هي هلاك مقيم. وعبر عن الإنفاق بالإهلاك لأسباب أخرى غير هذه. جاء في (روح المعاني): "وعبر عن الإنفاق بالإهلاك إظهاراً لعدم الاكتراث، وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفع فكأنه جعل المال الكثير ضائعاً"[35]. وجاء في (التبيان): "ثم أنكر سبحانه على الإنسان قوله: (أهلكت مالاً لبداً) وهو الكثير الذي يلبد بعضه فوق بعض، فافتخر هذا الإنسان بإهلاكه وإنفاقه في غير وجهه، إذ لو أنفقه في وجوهه التي أمر بإنفاقه فيها ووضعه مواضعه لم يكن ذلك إهلاكاً له بل تقرباً به إلى الله وتوصلاً به إلى رضاه وثوابه وذلك ليس بإهلاك له. فأنكر سبحانه افتخاره وتبجحه بإنفاق المال في شهواته وأغراضه التي إنفاقه بها إهلاك له"[36]. فانظر أي اختيار هذا. ثم انظر أيحسن (أنفقت) مكان (أهلكت) ههنا؟ واختيار (اللبد) في الآية مكان (الكثير) اختيار دقيق ذلك أن اللبلد معناه الكثير المجتمع من تلبد الشيء إذا اجتمع. جاء في (الكشاف): "لبداً قرئ بالضم والكسر جمع لبدة ولبدة، وهو ما تلبد يريد الكثرة"[37]. وهو متناسب مع اجتماع الكفرة لإيذاء الرسول والمسلمين لصدهم عن دعوتهم كما قال تعالى: (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا). فاجتماع المال في الإهلاك مناسب لاجتماع الكفرة على الرسول لإهلاكه، وإهلاك دعوته وهو حل بهذا البلد. فانظر حسن هذا الاختيار وعلو هذا التعبير. ثم انظر جو الاجتماع الذي تفيده كلمة (لبد) وشيوعه في السورة في الوالد وما ولد، وفي العينين، وفي اللسان والشفتين في آلة النطق، وفي النجدين وليس نجداً واحداً فإنه ذكر نجدين ولم يذكر نجداً واحداً كما في قوله تعالى: (ثم السبيل يسره) [عبس] وقوله: (إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً) [الإنسان] وفي تفسير العقبة بجملة أمور، وفي ذكر المؤمنين بصيغة الجمع (الذين أمنوا) واجتماعهم على التواصي بالصبر والمرحمة أي: يوصي بعضهم بعضاً، ثم في اجتماع أهل الكفار في جهنم وإيصاد النار عليهم. فانظر حسن اختيار كلمة (لبد) ههنا، ثم انظر هل تغني عنها كلمة (الكثير)؟ |
|
(أيحسب أن لم يره أحد).
والمعنى:أيظن هذا الإنسان الذي يدعي أنه أهلك المال الكثير أنه لم يره أحد؟ أو يظن أن أعماله تخفى لا يطلع على حقيقتها أحد؟ فالله يعلم إن كان أنفق مالاً أو لم ينفق شيئاً، وإنما كان مدعياً كاذباً في قوله. وإذا كان قد أنفق فهو يعلم الغرض والمقصد الذي أنفق المال من أجله. جاء في (الكشاف): "يعني أن الله كان يراه وكان عليه رقيباً. ويجوز أن يكون الضمير للإنسان"[38]. وجاء في (البحر المحيط): "أيحسب أن أعماله تخفى، وأنه لا يراه أحد، ولا يطلع عليه في إنفاقه ومقصد ما يبتغيه مما ليس لوجه الله منه شيء"[39]. وجاء في (التبيان): (ثم وبخه بقوله: (أيحسب أن لم يره أحد) وأتى ههنا بلم الدالة على المضي في مقابلة قوله: (أهلكت مالاً لبداً) فإن ذلك في الماضي، أفيحسب أن لم يره أحد فيما أنفقه وفيما أهلكه؟"[40]. وأنت ترى مما مر أنه ذكر من صفات الله تعالى القدرة والعلم الذي دلت عليه الرؤية، وهما الغاية في التهديد. ثم أقام الدليل على قدرته وعلمه بقوله: (ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين) أفترى أن الذي يجعل للإنسان عينين يبصر بهما لا يبصر هو ولا يرى وأن الذي أقدر الإنسان على النطق لا يستطيع أن يتكلم، وأن الذي هداه إلى طريقي الخير والشر ليس عنده علم؟ جاء في (تفسير الرازي): "واعلم أنه تعالى لما حكى عن ذلك الكافر قوله: (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) أقام الدلالة على كمال قدرته فقال: (ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين) [41]. وجاء في (التبيان): "ثم ذكر برهاناً مقدراً أنه سبحانه أحق بالرؤية وأولى من هذا العبد الذي له عينان يبصر بهما. فكيف يعطيه البصر من لم يره؟ وكيف يعطيه آلة البيان من الشفتين واللسان، فينطق ويبين عما في نفسه ويأمر وينهى من لا يتكلم ولا يكلم، ولا يخاطب ولا يأمر ولا ينهى؟ وهل كمال المخلوق مستفاد إلا من كمال خالقه؟ ومن جعله عالماً بنجدي الخير والشر ـ وهما طريقاهما ـ أليس هو أولى وأحق بالعلم منه"[42]. ثم انظر من ناحية أخرى إلى ارتباط قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين) بقوله: (أيحسب أن لم يره أحد) وهو ارتباط العين بالرؤية، وارتباط قوله: (ولساناً وشفتين) بقوله: (يقول أهلكت مالاً لبداً) فإن اللسان والشفتين، هما آلة النطق وبها يقول ما يقول. فهو يتقلب بنعم الله ويحاربه ويحارب أولياءه ورسله ويحارب دعوته. (وهديناه النجدين) النجد: هو الطريق العالي المرتفع[43]. جاء في (لسان العرب): "النجد من الأرض قفافها وصلابها، وما غلط منها وأشرف وارتفع واستوى… ولا يكون النجاد إلا قفاً أو صلابة من الأرض في ارتفاع مثل الجبل معترضاً بين يديك يرد طرفك عما وراءه"[44]. والمقصود بالنجدين: طريقا الخير والشر. وقيل: الثديان[45]. والأول أشهر وهو الذي ذهب إليه عامة المفسرين. وعن أبي هريرة أنه عليه السلام قال: "إنما هما النجدان، نجد الخير ونجد الشر ولا يكون نجد الشر أحب إلى أحدكم من نجد الخير"[46]. واختيار كلمة (نجد) للطريق ههنا اختيار لطيف مناسب، فإنه لم يقل كما قال في مواطن أخرى (إنا هديناه السبيل) أو (ثم السبيل يسره) أو (اهدنا الصراط المستقيم) أو (يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام) ذلك أن التعبير مناسب لجو السورة فإن سلوك النجد فيه مشقة وصعوبة لمات فيه من صعود وارتفاع فهو مناسب للمكابدة والمشقة التي خلق الإنسان فيها، ومناسب لاقتحام العقبة وما فيه من مشقة وشدة. (فلا اقتحم العقبة) العقبة: "طريق في الجبل وعر… والعقبة الجبل الطويل يعرض للطريق، فيأخذ فيه، وهو طويل صعب شديد"[47]. وسميت بذلك لصعوبة سلوكها([48]). والاقتحام: هو الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة[49] والقحمة هي الشدة[50] والمهلكة والأمر العظيم[51]. والمقصود بالعقبة: الأعمال الصالحة التي سيبينها على سبيل الاستعارة. جاء في (البحر المحيط): "العقبة استعارة لهذا العمل الشاق من حيث هو بذل مال تشبيه بعقبة الجبل، وهو ما صعب منها وكان صعوداً، فإنه يلحقه مشقة في سلوكها… ويقال: قحم في الأمور قحوماً: رمى نفسه من غير روية"[52]. وجاء في (روح المعاني): "وهي هنا استعارة لما فسرت به من الأعمال الشاقة المرتفعة القدر عند الله تعالى… ويجوز أن يكون قد جعل ما ذكر اقتحاماً وصعوداً شاقاً، وذكره بعد النجدين جعل الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة"[53]. |
|
ومعنى الآية أنه: "لم يشكر تلك الأيادي والنعم بالأعمال الصالحة من فك الرقاب وإطعام اليتامى والمساكين… والمعنى: أن الإنفاق على هذا الوجه، هو الإنفاق المرضي النافع عند الله لا أن يهلك مالاً لبدا في الرياء والفخار، فيكون مثله (كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم) الآية"[54].
وجاء في (التبيان في أقسام القرآن): "ولم يقتحم العقبة التي بينه وبين ربه التي لا يصل إليها، حتى يقتحمها بالإحسان إلى خلقه بفك الرقبة، وهو تخليصها من الرق، ليخلصه الله من رق نفسه ورق عدوه، وإطعام اليتيم والمسكين في يوم المجاعة، وبالإخلاص له سبحانه بالإيمان الذي هو خالص حقه. وهو تصديق خبره وطاعة أمره وابتغاء وجهه وبنصيحة غيره أن يوصيه بالصبر والرحمة ويقبل وصية من أوصاه بها، فيكون صابراً رحيماً في نفسه معيناً لغيره على الصبر والرحمة"[55]. واختيار هذا التعبير أنسب شيء ههنا، فاختيار (العقبة) بعد (النجدين) اختيار بديع، وهو كما جاء في (روح المعاني): إن ذكرها بعد النجدين جعل الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة، ذلك أن النجد: وهو الطريق العالي المرتفع يؤدي إلى العقبة، وهي الطريق الوعر في الجبل، فإن العقبة تقع في النجاد غالباً. واختيار لفظ (الاقتحام) وما فيه من شدة ومخاطرة هو المناسب لبيان وعورة وصعوبة هذه العقبة، فإن لم يعبر عن ذلك بالاجتياز ونحوه، مما يدل على شدة هذه العقبة، فانظر كيف أن كل لفظة وقعت في مكانها المناسب وأن اختيار كل لفظة اختيار مناسب لجو السورة. فكل من الاقتحام والعقبة مناسب لقوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ذلك أن من معاني (الكبد) المشقة والقوة، وأن اقتحام العقبة فيه مشقة وتعب كما أنه يحتاج إلى قوة وشدة. فانظر حسن المناسبة. كما أن هذه الآية تناسب ما بعدها من المشقات والشدائد التي يعانيها المسكين واليتيم، وفي اليوم ذي المسغبة. ثم انظر علاقة هذه الآية بأول السورة وخاتمتها، وهو كيف أن الرسول كان في حال اقتحام للعقبة، وهو حال ببلد الله الحرام، يلقى ما يلقى من العنت والمشقة في تبليغ دعوة ربه. وبخاتمتها وهم الذين لم يقتحموا العقبة، فبقوا في عقبة، جهنم أبد الآبدين، وكانت النار عليهم مؤصدة. ثم إن اختيار (لا) في هذا الموطن اختيار عجيب دقيق، وهو ما وقف عنده النحاة والمفسرون وحاولوا تخريجه وتفسيره. فقد ذهب قسم منهم إلى أنها نافية للفعل الماضي، أي: (فلم يقتحم العقبة). ومن المعلوم أن (لا) إذا نفت الفعل الماضي المعنى، وجب تكرارها، إلا ما ندر نحو قوله تعالى: (فلا صدق ولا صلى) في حين لم تتكرر ههنا، وأجابوا عن ذلك بأنها مكررة في المعنى لأن (العقبة) مفسرة بشيئين: فك الرقبة، وإطعام المسكين فكأنه قال: فلا فك رقبة، ولا أطعم مسكيناً"[56]. ومن النادر الذي دخلت فيه (لا) على الفعل الماضي المعنى ولم تكرر قول، أبي خراش الهذلي: إن تغفر اللهم تغفر جماً وأي عبد لك لا ألما أي: لم يلم. والمعنى: وأي عبد لم يذنب وقول الشاعر: وكان في جاراته لا عهد له وأي أمر سيئ لا فعله أي: لم يفعله[57]. قالوا: وهي هنا بمعنى (لم) وتكرارها كثير وهو غيرواجب[58]. جاء في (روح المعاني): "والمتيقن عندي أكثرية التكرار، وأما وجوبه فليس بمتيقن"[59]. وقسم ذهب إلى أنها في الآية دعاء، فلا يلزم تكرارها، كقولهم: (لا فض الله فاك) و(لا عافاه الله) وهي هنا دعاء عليه أن لا يفعل خيراً[60]. وقيل: إن الفعل يراد به الاستقبال، بمعنى لا يقتحم العقبة، وإذا كان الفعل الماضي دالاً على الاستقبال لم يلزم تكرارها[61]. جاء في (المغني): "ومثله في عدم وجوب التكرار بعدم قصد المضي، إلا أنه ليس دعاء قولك : (والله لا فعلت كذا) وقول الشاعر: حسب المحبين في الدنيا عذابهم تالله لا عذبتهم بعدها سقر"[62] وجاء في (الفوائد في مشكل القرآن) للعز بن عبد السلام في هذه الآية: "ويشكل النفي بـ (لا) وهي إنما تنفي الاستقبال. والجواب: إنها بمعنى (لم) والصحيح اشتراكهما… وعدل إليها لأن النفي بها أبلغ، لما توهمه من نفي الاستقبال في أصل الوضع، أوي جعلها على بابها، أي: صفة هذا يقتضي أنه لا يقتحم العقبة أبداً، فيكون ذماً له باعتبار صفته لا باعتبار عدن فعله وتضمنها معنى (لم) فيكون الذم أيضاً لعدم الفعل في الماضي"[63]. |
|
وقيل هي للاستفهام، والتقدير: أفلا اقتحم العقبة، وقد حذفت الهمزة، والمعنى: أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير؟"[64]
وقال آخر: هي تحضيض والأصل: ألا اقتحم العقبة ثم حذفت الهمزة، وهو ضعيف ولا يعرف أن (لا) وحدها تكون للتحضيض وليس معها الهمزة[65]. هذا أبرز ما قيل في (لا) هذه. والذي يبدو لي والله أعلم أن هذا التعبير جمع معاني عدة في آن واحد. فهو يحتمل المضي، أي أن هذا الإنسان الذي يذكر عن نفسه أنه أهلك مالاً كثيراً ويحسب أن لن يقدر عليه أحد، وأنه لم يطلع أحد عليه فيما يفعل ـ سواء كان هذا واحداً معيناً أم كان صنفاً هذا وصفه ـ لم يقتحم العقبة، فهو لم يؤمن ولم يطعم المحتاجين من اليتامى والمساكين ولم يتواص بعمل الخير. ويحتمل أن هذا الإنسان فرداً كان أم صنفاً لا يقتحم العقبة في المستقبل، لأن من كان هذا وصفه لا يقتحم العقبة، إلا إذا آمن وغير من حاله. فهو لم يقتحم العقبة في الماضي ولا يقتحمها في المستقبل، بل هو باق على حاله على وجه الدوام. ويحتمل أن هذا التغبير دعاء على هذا الصنف أو الشخص بألا يقتحم العقبة كما في قوله تعالى: (ويلٌ لكل همزة لمزة) وقوله: (قاتلهم الله أنى يؤفكون) [التوبة] فإن من كان هذه صفته لا يستحق الدعاء له بالخير. كما يحتمل الاستفهام المراد به التنديم والتوبيخ على ما فرط والحض على الإنفاق بمغنى "افلا اقتحم العقبة" وقد حذفت منه الهمزة ونحو هذا وارد في القرآن الكريم والفصيح من كلام العرب، فقد جاء فيه قوله تعالى: (وجاء السحرة فرعون قالوا إن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم لمن المقربين) [الأعراف] بدلالة قوله تعالى: (قالوا لفرعون أئن لنا لأجراً إن كنا نحن الغالبين قال نعم وإنكم إذا لمن المقربين) [الشعراء] ونحو قول الشاعر: قالوا: تحبها؟ قلت: بهراً أي: أتحبها؟ وقول الكميت: طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ولا لعباً مني وذو الشيب يلعب أي: أوذو الشيب يلعب؟ وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فقد جمع هذا التعبير عدة معان في لآن واحد: المضي والاستقبال والتوبيخ والحض والدعاء. فهو أخبر أنه لن يقتحم العقبة فيما مضى من عمره، وأنه لا يقتحمها في المستقبل، وأنه وبخه على ذلك، ودعا عليه بعدم اقتحامها. فانظر كيف جمع هذا التعبير هذه المعاني، وكلها مرادة مطلوبة وأنه لو جاء بأي حرف آخر غير (لا) لم يفد هذه المعاني الكثيرة المتعددة. فهو لو قال: (ما اقتحم العقبة) أو (لم يقتحم العقبة) لم يفد إلا الإخبار عنه في الماضي. فانظر كيف وسعت (لا) المعنى وجمعت معاني عدة في تعبير واحد؟ (وما أدراك ما العقبة) هذا الأسلوب من أساليب التفخيم والتعظيم والتهويل ونحوه قوله: (وما أدراك ما القارعة) وقوله: (وما أدراك ما الحاقة) و(وما أدراك ما الحطمة) تعظيماً لأمرها ثم فسر العقبة بعد ذلك بقوله: (فك رقبة أو إطعام). (فك رقبة) "وفك الرقبة: تخليصها من رق أو غيره… وفي الحديث: "أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال: تعتق النسمة وتفك الرقبة. قال: أوليسا سواء؟ قال: لا. إعتاقها: أن تنفرد بعتقها. وفكها: أن تعين في تخليصها من قود أو غرم"[66]. وجاء في (فتح القدير): "كل شيء أطلقته، فقد فككته، ومنه فك الرهن، وفك الكتاب… والفك في الأصل حل القيد، سمي العتق فكاً، لأن الرق كالقيد وسمي المرقوق رقبة، لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته"[67]. واختيار هذا التعبير يوحي بشدة حال المسترق، وكربه ومعاناته ومكابدته. والاسترقاق هو من أكثر أحوال المكابدة والمعاناة شدة. وارتباط الآية بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ارتباط واضح بين. (أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتمياً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة) المسغبة: المجاعة[68] وهي الجوع العام[69] وليس الجوع الفردي. والفرق بين المسغبة والسغب، أن السغب معناه: الجوع، والجوع قد يكون عاماً، وقد يكون خاصاً. أما المسغبة فهي عامة ولذا قيل: إن معناه "في يوم فيه الطعام عزيز"[70]. وهذا مما يدل على شدة الكرب والضيق واللأواء، فالإطعام في هذا اليوم له شأنه فهناك فرق بين إطعام المسكين والطعام موفور والخلة مسدودة، والإطعام في وقت قلة الطعام وشحته والخوف من فقدانه والإمساك عن بيعه، فهذه عقبة كؤود من عقبات المجتمع، والإطعام في مثل هذا اليوم اقتحام لهذه العقبة أي اقتحام. (يتيماً ذا مقربة)وهو اليتيم القريب في النسب ليجتمع له صدقة وصلة[71]. وذلك ليتفقد كل واحد أقرباءه المحتاجين ليتم التكافل والتراحم بينهم. |
|
(أو مسكيناً ذا متربة)والمتربة مأخوذة من (ترب): "إذا افتقر، ومعناه: التصق بالتراب"[72]. وذو المتربة: هو الذي مأواه المزابل[73] وقيل "وهم المطروحون على ظهر الطريق قعوداً على التراب لا بيوت لهم"[74] وهما شيء واحد.
وجاء بـ (أو) ولم يأت بالواو ذلك أن الواو تفيد معنى الجمع ومعناه: لو أتى بالواو لا يقتحم العقبة إلا إذا فك الرقبة، وأطعم هذين الصنفين جميعاً فإن أطعم صنفاً واحداً لم يقتحم العقبة. وهو غير مراد، بل المراد التنويع. والمقصود أن يطعم هذه الأصناف من الناس، اليتيم أو المسكين، على سبيل الاجتماع أو الانفراد. وقد قدم فك الرقاب على إطعام اليتامى والمساكين إشارة إلى عظم الحرية في الإسلام وأن المطلوب أولاً تحرير الناس من العبودية والاسترقاق. وانظر بعد ذلك ارتباط هؤلاء الأصناف بقوله تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) فهؤلاء من أشد الناس مكابدة ومعاناة. ثم انظر إلى ارتباط هؤلاء الأصناف بقوله: (يقول أهلكت مالاً لبداً) فقد أهلكها هذا القائل في غير محلها، فلم يطعم جائعاً ولم يفك رقبة. ثم انظر إلى ارتباط هؤلاء الأصناف بالآية بعدها، وهو قوله: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) فإن فك الرقاب وإطعام المحتاجين من المرحمة. وهؤلاء الأصناف من الناس من المسترفين والمساكين من أحوج الخلق إلى الصبر. (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) إن (ثم) هنا لا تفيد التراخي في الوقت وإلا تأخر الإيمان عن العمل الصالح الذي ذكره من فك الرقاب وإطعام المحتاجين في حين أنه لا يفيد عمل من دون إيمان. وإنما تفيد (ثم) ههنا تراخي رتبه الإيمان ورفعه محله عما ذكره من الأعمال لأنه هو الأصل، وهو مدار القبول والرفض. جاء في (الكشاف): "جاء بثم لتراخي الإيمان وتباعده في الرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة لا في الوقت لأن الإيمان هو السابق المقدم على غيره، ولا يثبت عمل صالح إلا به"[75]. وجاء في (فتح القدير): "جاء بثم للدلالة على تراخي رتبة الإيمان ورفعة محله. وفيه دليل على أن هذه القرب، إنما تنفع مع الإيمان"[76]. وذكر بعد الآيات التواصي بالصبر والتواصي بالمرحمة. جاء في (الكشاف): "المرحمة: الرحمة أي: أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه، أو بالصبر عن المعاصي وعلى الطاعات والمحن التي يبتلى بها المؤمن، وبأن يكونوا متراحمين متعاطفين أو بما يؤدي إلى رحمة الله"[77]. إن السورة مبنية على هذين الأمرين: الصبر والمرحمة. فالصبر مرتبط بقوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد) لما يلاقيه الرسول من عنت وأذى وهو حال بهذا البلد. وبقوله: (ووالد وما ولد) فإن تربية الولد وحفظه بحاجة إلى الصبر. ومرتبط بقوله: (لقد خلقنا الإنسان في كبد) لأن المكابدة والمشقة والشدة، تحتاج إلى صبر. وسلوك النجدين يحتاج إلى صبر لما في صعودهما وسلوكهما من تعب ونصب، واقتحام العقبة يحتاج إلى صبر، والرقبة المسترقة تحتاج إلى صبر على القيام بشأن العبودية، وقضاء اليوم ذي المسغبة يحتاج إلى صبر كثير وشديد. واليتيم يحتاج إلى صبر، وكذلك المسكين ذو المتربة، فإن هذه الأصناف تحتاج إلى صبر طويل. والذين آمنوا يحتاجون إلى الصبر على الطاعات والصبر عن المعاصي. فانظر كيف ارتبط الصبر بالسورة وكيف بنيت السورة عليه؟ وكذلك الرحمة فإن ذكرها مع الصبر أحسن ذكر وأجمله. فهي مرتبطة بقوله: (وأنت حل بهذا البلد) على كل معاني (الحل) فإذا كان حالاً يبلغ دعوة ربه فإنه أحرى أن يعامل بالرحمة لا بالأذى. وإذا كان المعنى أنه حلال للرسول هذا البلد وذلك في فتح مكة فقد عامل الرسول قريشاً بالرحمة والإحسان، وقال في ذلك اليوم: "اليوم يوم المرحمة". وقال لهم: "ما تظنون أني فاعل بكم؟" قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم. فقال لهم: "اذهبوا فأنتم الطلقاء". فانظر أي رحمة هذه؟ ومرتبطة بقوله: (ووالد وما ولد) فإن العلامة بين الوالد وولده، علاقة رحمة وبر. وهذا الذي أهلك مالاً لبداً، يحتاج إلى الرحمة لينفق المال على ذوي الحاجة، ولئلا يهلكه فيما لا ينفع. وذو الرقبة المسترقة محتاج إلى الرحمة والإشفاق. واليوم ذو المسغبة ينبغي أن تشيع فيه الرحمة وهو من أحوج الأوقات إلى إشاعة الرحمة، واليتيم المسكين من أحوج الخلق إلى الرحمة. والذي آمنوا ينبغي أن يتواصوا بينهم بالرحمة. وهكذا بنيت السورة على الصبر والمرحمة. ثم انظر كيف كرر التواصي مع كل منها فقال: (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) ولم يقل: (وتواصوا بالصبر وبالمرحمة) ولا: (وتواصوا بالصبر والمرحمة) لأهمية التواصي بكل منهما وللدلالة على أن كلا منهما جدير بالتواصي به. فأنت ترى أن هناك ثلاثة تعبيرات لكل تعبير دلالته: (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) وتواصوا بالصبر وبالمرحمة. وتواصوا بالصبر والمرحمة. والتعبير الأول أقوى التعبيرات للدلالة على أهمية كل منهما، وذلك لتكرار الفعل مع حرف الجر توكيداً على أهمية ذلك. ثم يأتي التعبير الثاني بالدرجة الثانية وهو تكرار حرف الجر مع المرحمة دون تكرار الفعل، ثم يأتي التعبير الثالث بالدرجة الثالثة، وهو العطف من دون ذكر للفعل ولا لحرف الجر. فيكون معنى التعبير الأول، وهو الذي عبرت به الآية أدل على أهمية كل من الصبر والمرحمة وآكد من التعبيرين الآخرين. ثم انظر من ناحية أخرى كيف قدم التواصي بالصبر على التواصي بالمرحمة ذلك لأنه تقدم ما يحتاج إلى الصبر من المكابدة والمشقة، وانغمار الإنسان فيها، واقتحام العقبة وذكر النجدين. وأخر المرحمة لما جاء بعد ذلك من فك الرقاب وإطعام الأيتام والمساكين فقدم التواصي بالصبر لما تقدم ما يدعو إليه. وقد تقول: ولم لم يقل كما قال في سورة (العصر): (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)؟ فقد ذكر التواصي بالحق ثم ذكر بعده التواصي بالصبر. والجواب: أن المقام مختلف ففي سورة (العصر) كان الكلام على خسارة الإنسان على وجه العموم، فجاء بالتواصي بالحق على وجه الهموم ولما كان الكلام في سورة البلد على جزء من الحق وهو ما يتعلق بالرحمة والإطعام قال: (وتواصوا بالمرحمة). وقدم الحق في سورة (العصر): لأنه الأهم ولأن الصبر إنما يكون صبراً على الحق. إذ ليس المهم هو الصبر، وإنما المهم أن يصبر على ماذا، ثم إن التمسك بالحق والتواصي به يحتاج إلى صبر أي صبر. فقدم الحق لذلك بخلاف سورة البلد، فإنه قدم الصبر على المرحمة لما ذكرنا. |
|
(أولئك أصحاب الميمنة والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة)
أي: أولئك الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة، وفكوا الرقبة وأطعموا لمحتاج في اليوم ذي المسغبة أصحاب الميمنة. والميمنة: مفعلة من اليمن، وهو الخير والبركة أو من اليمن. وقد يكون معناها جهة اليمين التي تقابل الميسرة وهي الجهة التي فيها السعداء. وقد يكون معناها أصحاب اليمين أي: الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم. وقد يكون معناها: أصحاب اليمن والخير على أنفسهم وعلى غيرهم[78]. والذين كفروا هم أصحاب المشأمة، والمشأمة مفعلة من الشأم، وهي جهة الشمال، أو من الشؤم، وهو ضد اليمن[79]. ومعنى أصحاب المشأمة أصحاب جهة الشمال التي فيها الأشقياء أو الذين يؤتون صحائفهم بشمائلهم أو أصحاب الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم. وقد تقول: ولم لم يقل أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال كما قال في مواطن أخرى من القرآن الكريم؟ والجواب أن اختيار هذين اللفظين له عدة فوائد: منها: أن الميمنة والمشأمة جمعت عدة معان، وهي كلها مرادة مطلوبة في آن واحد، ولو قال: أصحاب اليمين أو أصحاب الشمال لأعطى معنى واحداً. فأصحاب الميمنة هم أصحاب جهة اليمين التي فيها السعداء، وهم الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم، فيذهبون إلى الجنة، وهم أصحاب اليمن والخير والبركة على أنفسهم وعلى غيرهم في الدنيا والآخرة. هذا إضافة إلى التناسب اللفظي، فالعمل والوصف والجزاء كله (مفعلة) فالذين يطعمون في يوم ذي (مسغبة) يتمياً ذا (مقربة) أو مسكيناً ذا (متربة) ويتواصون بـ (المرحمة) أصحاب (الميمنة) ومقابلهم من الكفار أصحاب (المشأمة). فاقتضى المقام هذا الاختيار من كل جهة. وقد تقول: ولم جاء في آية الكفار بضمير الفصل، فقال: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة) ولم يأت به مع المؤمنين. والجواب: أن المذكورين من المؤمنين هم من أصحاب ميمنة غيرهم فإنه لم يذكر مثلاً: الذين آمنوا وعملوا الصالحات، أو الذين آمنوا وتواصوا بالحق، أو الذين آمنوا وتواصوا بالجهاد، أو الذين آمنوا وتواصوا بالدعوة إلى الله، فكل هؤلاء من أصحاب الميمنة، بل ربما كان من أصحاب الميمنة من لم يتواص بصبر ولا مرحمة أصلاً من عامة المسلمين، وقد قال تعالى في سورة التين: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون) ولم يذكر تواصياً بشيء. أما الذين كفروا فهم أصحاب المشأمة حصراً، ولا يخرجهم منهم وصف آخر أو عمل آخر إذا بقوا على كفرهم. جاء في (روح المعاني): إنه "جيء بضمير الفصل معهم لإفادة الحصر"[80]. فكان ذكر ضمير الفصل في آية الكفار، وعدم ذكره في آية المؤمنين هو المناسب. (عليهم نار مؤصدة) ومعنى الآية: إنها عليهم "مطبقة فلا ضوء فيها، ولا فرج ولا خروج منها آخر الأبد"[81] وههنا سؤالات: لم قدم الجار والمجرور: (عليهم) ولم يؤخرهما؟ ولم قرئت (مؤصدة) بالهمز؟ وما الفرق بينهما وبين عدم الهمز؟ ولم لم يقل كما قال في سورة الهمزة: (في عمد ممددة) ولم ذكر جزاء الكافرين، ولم يذكر جزاء المؤمنين؟ أنا تقديم الجار والمجرور فقد يظن ظان أنه لفاصلة الآية، فإن كلمة (مؤصدة) هي المناسبة لخواتم الآي: المسغبة، المقربة، المتربة، المرحمة، المشأمة. ولو قال:(نار مؤصدة عليهم) لم يكن مناسباً. وهذا صحيح فإنه لو أخر الجار والمجرور لم يناسب خواتم الآي، غير أن المعنى يقتضي ذلك أيضاً، فإن التقديم ههنا يفيد الحصر، فإن النار مؤصدة على الكافرين لا يخرجون منها ابداً. أما غير الكافرين من عصاة المؤمنين، فقد يخرجون منها بعد أن ينالوا عقابهم، فهي إذن مؤصدة عليهم حصراً ولو قال: (نار مؤصدة عليهم) لم يفد الحصر بل لأفاد أنها مؤصدة عليهم، وقد تكون مؤصدة على غير الكفار أيضاً، وهو غير مراد. أما قراءة الهمز في (مؤصدة) فإنها قرئت أيضاً (مؤصدة) فإنها قرئت أيضاً (موصدة) بغير الهمزة. وقد يظن ظان أن التخفيف أولى لأنه من (وصد) و(أوصد) والحق أنهما لغتان أصد ووصد، يقال: أصد الباب وآصده وأوصده، إذا أطبقه وأغلقه. جاء في (لسان العرب): "أصد الباب أطبقه كأوصد إذا أغلقه ومنه قرأ أبو عمرو: إنها عليهم مؤصدة بالهمز أي مطبقة"[82] وجاء في (روح المعاني): "مؤصدة مطبقة من آصدت الباب، إذا أغلقته وأطبقته، وهي لغة قريش على ما روي عن مجاهد ويجوز أن يكون من(أوصدته) بمعنى غلقته أيضاً وهمز على حد من قرأ بالسؤق مهموزاً وقرأ غير واحد من السبعة، موصدة بغير همز فيظهر أنه من أوصدت .. والمراد مغلة أبوابها، وإنما أغلقت لتشديد العذاب والعياذ بالله تعالى عليهم"[83] . أما اختيار الهمز، فله دلالته ذلك أن الهمزة حرف ثقيل شديد، وهي على كل حال أثقل من الواو[84] فاختار الهمزة على الواو لثقلها وشدتها، لأن الموقف شديد وصعب، فهي المناسبة لثقل ذلك اليوم وصعوبته وشدته قال تعالى: (ويذرون وراءهم يوماً ثقيلاً) [الإنسان]، وإن النطق بها لثقيل، فإذا قال (مؤ) كان كأن الشخص يعاني من أمر ثقيل. فهي أنسب وأدل على الكرب والثقل من التسهيل والنطق بالواو. وهو المناسب أيضاً لجو المكابدة والشدة والقوة في السورة. والله أعلم. د |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
لمسات بيانية في سورة الفاتحة | يمامة الوادي | رياض القرآن | 10 | 2008-12-29 8:58 AM |
لمسات بيانية ـ سورة الناس | يمامة الوادي | رياض القرآن | 4 | 2006-11-23 2:39 AM |
لمسات بيانية من سورة المنافقون | يمامة الوادي | رياض القرآن | 7 | 2006-11-20 2:11 AM |
لمسات بيانية من سورة القمر | يمامة الوادي | رياض القرآن | 2 | 2006-11-19 9:48 AM |
لمسات بيانية في سورة الفاتحة | يمامة الوادي | رياض القرآن | 5 | 2006-11-11 6:48 AM |