[يمامة الوادي]

oO الضّفة الأخرى Oo






أجلس على ضفة النهر ، أطلق العنان لنظري و فكري ..

تثير تأملاتي الضفة الأخرى ، وكأنها ذلك العالم الذي ألقي فيه

كل ما / من لا أحب !

أراهم أمامي على الضفة الأخرى مبعثرين ، فأسترجع أحاديثي معهم

عبثا أحاول فهمهم أو التقرّب منهم ..

هناك يقبع ذلك الرجل الذي سبر أغوار ( الحياة ) ، فسعى فيها و لها فأنجز

لا شيء ينقصه ، وهو يتقن التخطيط لتحقيق أحلامه فيحققها ..

جاءني يوما باكيا ، سألته بدهشة : ما الذي يبكيك ؟

أجابني : كم أنا بعيد ! أريد أن أقترب من الله أكثر .

فرحتُ ودعوتُ له : ربِّ لا تخيّب رجاءه ، واجعلني سببا في قربه

ثم مضينا ننهل من ذاك المعين ، حتى ظننته ارتوى .

افترقنا ..

وبعد سنين التقيتُه ، فسألته عن حاله وأحواله ؟

وبلهجته الواثقة أجاب : كل الأمور على ما يرام ، ومجمل خططي

نُفِّذت كما خُطِّط لها .. فلله الحمد و المنّة

سألته بتردد : كيف علاقتك مع الله ؟

بحياء أجابني : ما زلتُ أحبو !

افترقنا ..

ومضت الأيام بل الأشهر ، فإذا به يطلب العون ثانية !

أجبته : لا أملك لك عونا ، أراك تحسن التخطيط والتنفيذ لكل أمر

إلا هذا الأمر .. فلماذا ؟!

وما كان مني إلا أنني أحلته للضفة الأخرى ..

ليته يوما فهم الحكمة القائلة :

" من فَقَد الله ماذا وَجد .. ومن وَجَد الله ماذا فَقَد ؟! "

نسيت أن أخبركم : أن هذا الرجل يعاني من اضطرابات في النوم ،

وتمر عليه الليالي تلو الليالي دون أن يغمض له جفن ..!

***

وفي زاوية أخرى ألمح ذلك الأخ الذي يحاور أخته فيقول : الأخ ليس مضطرا

ولا مجبورا على مرافقة أخته لأداء مناسك العمرة كمحرم ، وإن لم يكن لها زوج

و ولد ، وتابع أخ آخر : الأمر لا يتعدّى كونه " تَرَفا " ، أما إذا كانت الحاجة ماسة

كنقل دم مثلا لن أتأخر ، لأنها هنا مسألة حياة أو موت ..

لم تستطع الأخت الابتسام رغم محاولتها ..

أما أنا فقد أحلتهما للضفة الأخرى !

ليتهما أدركا أن الكلمة الطيبة صدقة ..

وليتهما عرفا أن الروح لا تنبض بالحياة فقط لوفرة الدم في عروقها ..!

***

أما ذلك الشاب فأذكره جيدا ، كم كان حلمه أن يُغادر !

بفضول سألته : إلى أين ؟!

أجابني : إلى تلك البلاد التي تحترم الإنسان وتقدّر عطاءه

بمزيد تفصيل سألته : أي بلاد تعني ؟

وبكل انبهار جاوبني : بلاد الغرب ، وما أدراك ما بلاد الغرب !

عاجلته بالإجابة : لا أحبها ، فهي بلاد كفر و إلحاد .

بتهكم رد عليّ : وبلادنا ؟!

قلتُ : مهد الحضارات ، وموطن الرسالات

قال : ليست سوى شعارات

بقوة قلت : هذه حقائق يا سيدي

ببرود جاوبني : حقائق بالية يا سيدتي ، حقائق اليوم تقول : الحضارة هناك ،

والجمال هناك ، إذن الحياة هناك .

طال النقاش وتكرر ، وحلم المغادرة يخيّم على مشاعره ويسيّر تفكيره .

مع أنني أحبُه إلا أنني اضطررتُ آسفة أن ألقي به إلى الضفة الأخرى ..!

ليته دَرى : أن حبّ الاوطان من الإيمان ..

وليته تفكر يوما فيما قاله الله تعالى في محكم تنزيله :

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء
بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ "

[ المائدة : 51 ]

" وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ
هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ
مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ "

[ البقرة : 120 ]


***

ووسط هذا العصف الشّعوري ، أسمع صوتا نديّا يأتيني عن يميني ،

من بين زهور و طيور ضفتي ، يردّد :

لذّة العيش حياة في معان تتجدَّد

لا نراها في طعام و شراب يتعدَّد

لا ، ولا بالمال يُقنَى وشباب يتمرَّد

وعن يساري أسمع العم ساجد وهو ينادي بنا : الوطنَ ، الوطن ..

الحريّة والعدل و الأخلاق و القيم !

و يصاحبه صوت المهاجر وهو يجهر بها : حيّ على الجهاد ..

نصر أو استشهاد ..


يا تُرى :


ضفّتي ، و الضفّة الأخرى .. هل يلتقيان ؟!


:::::
قلم متأمل