[أبو عمر الهاشمي]

*مُسَاءلة المَقُولات*

من الأدوات النَّقدية التي يُغْفل عنها والتي يعدُّ غيابُها سببًا من أهمِّ أسباب فُقْدان المناعة من الأفكار المميتة=أداةُ "مُسَاءلة المقولات"،فماذا يقصد بها؟

يراد بـهذه الأداة عدم قبول أيِّ مفهومٍ يُطرح على أنه بديل للمفاهيم التي تؤسس بها رؤيتك للأشياء إلا بعد مُحاكمة تلك المفاهيم المقترحة وتشريحها وطرح السؤالات عليها لتعرية مواطن القصور فيها،والكشف عن مدى كفايتها النظرية وصلاحيتها الإجرائية.
وحتى لا يكون حديثنا مجرد ضربٍ من التنظير الذهني؛سأسوق ثلاثة أمثلة تُجلِّي لنا أصالة هذه الآلة في مقامي النَّظر والمُناظرة..

المثال الأول: مفهوم "العقل"في مقابل النّقل.
فلو أدعى مُدّعٍ سواء كانت الدعوى على لسان مُتكلِّم أو فيلسوف =بكفاية العقل عن النقل عند التعارض كما هو مذهب جمهور المتكلمين أو مطلقاً كما هو مذهب عموم المتفلسفة =فإنَّه يُقال له :
أي عقل تعني ؟
هل تعني بالعقل الغريزة؟
أم الأوليات الفطرية؟
أم القواعد الوضعية المذهبية المؤسسة على تلك الأوليات ؟
فإن قال الغريزة=فالغريزة قوة وليست معرفةً كيما تُغني عن الوحي.
وإن قال الأوليات الفطرية=فيقال له:المبادئ الفطرية هي قوالب لتنظيم المعرفة وليست معرفةً عند التحقيق بدليل أنّ شرط تشغيلها إثارة الحِسِّ لها
وإنَّ قال أعني بـ العقل :الأنساق والقواعد المُؤَسَّسة على تلك الأوليات=فيُقال له:تلك الأنساق إمَّا أن تكون منبثقة عن تلك الأوليات بيقين أو غلبة ظن أو بشكٍّ أو توهم،فإن كان الأول =فيمتنع أن يكون النقل مناقضًا له،فلِمَ اكتفيت بالعقل عن النقل في هذه الحال مع كونهما متآلفان؟ فالترجيح بلا مُرجَّح باطلٌ.
وإن كان بغلبة ظن =فيقين النقل مقدمٌ عليه عند تعارضهما؛لأن العبرة بتقديم جنس أقوى الدليلين دون اعتبار لطريقهما إن كان عقلا أو خبرًا.
وإن كان بشكٍّ أو توهم=فيقال له:ليس ذا عقلا صريحًا ليُكتفى به عن النقل ،وإنما هو من مشتبهاته،والاكتفاء بالمُشتبه عن يقين المعرفة؛حمقٌ معرفي.

المثال الثاني:مفهوم الواقع كأساس لفهم النَّص الشرعي

يطرح الحداثي "الواقع"كأداة تفسيرية لتأويل النَّص الشرعي

وهنا نسائل الحداثي عن هذه المقولة التي يكثُر الدندنة عن ضرورتها كشرط تفسيري لفهم الوحي دون تفسيرها=أيّ واقع تقصدون؟
هل الواقع المنظور بسلبياته وإيجابياته؟فيكون النَّصُّ متماهيًا مع الواقع لا ناهضًا به؟!
أم تعنون به الواقع المأمول؟فيكون ذلك ضربًا من الفنتازيا التي هي نقيض ما تنتحلونه!!

المثال الثالث: مفهوم المساواة

يتغنى العلمانيون بـ المساواة باعتبارها قيمة من القِيَم الإنسانية التي ينبغي تقصيدها من ضمن مقاصد الشارع التي يراعاها في تشريعه،ويوظفها العلماني في تأويله

لكن العلمانيين العرب يصمتون عن مساءلة هذه المقولة في النظام الغربي قبل إسقاطها على المرجعية الشرعية مع ما يدعونه من الأخذ بشروط ذلك النظام من العقلانية المناهضة للأسطرة،والنقدية المُضادة للتقليدية
ولنا حق هذه المُساءلة فنقول لهم:
أي أنواع المساواة استطاع النظام الغربي تطبيقها و تريدون متابعته على ذلك:" المساواة القانونية" أم"المُسَاواة الاقتصادية" أم "المُسَاواة السياسية"؟
في الواقع أن النظام الغربي الرأسمالي عجز عن التطبيق الكلي للمساواة الاقتصادية،وعن التطبيق الحقيقي للمساواة السياسية ،فلم يبق إلا المُساواة القانونية في العموم
فإذن فمفهوم المساواة في الخطاب العلماني العربي يُضمِر أكثر مما يُظْهِر،وبذلك ينكشف أزمة هذا الخطاب المُستلب.

هذه ثلاثة نماذج تُبيِّن أهمية أداة مُسَاءلة المقولات باعتبارها آلية لتعرية خطاب الخصم والكشف عن ثغراتهِ وسوْاءته المنهجيَّة والمعرفية،وهي في الوقت نفسه سياجٌ وقائي للذات يحول دون اختراق الميكروبات المفاهيمية واستيطانها في جهازنا المعرفي.
والله أعلم

[غيوم ممطره]

"أبو عمر الهاشمي",,
شكرا لهذا الموضوع والتوضيح فيه.