وفي جواب هؤلاء المدلسين الملبسين([6]) على أمثالهم من أشباه الأنعام يمكن أن يقال: إن المحذور الذي نفاه العقل والشرع والفطرة وأجمع الأنبياء على بطلانه هو وجود آلهة أخرى مع الله سبحانه، ولا يعني أن رب العالمين القهار وحده ليس بحي، ولا قيوم، ولا سميع، ولا بصير، ولا متكلم، ولا آمر، ولا ناهٍ، وليس فوق العرش، ولا صاحب الأسماء الحسنى والصفات العلى، وليس العقل والشرع والفطرة بحال من الأحوال نافيةً لأن يكون للإله الواحد صفات الكمال المختصة بذاته.
لا ريب في أن الوحي لم ينطق بلفظ الجسم، لا إثباتاً حتى يمكن إثباته ولا نفياً حتى يُسعى لإلغائه، فمن يطلق الجسم نفياً أو إثباتاً لابد أن يُسأل: ما هو مراده بلفظ الجسم؟ فإن قال: إن مراده به هو معناه اللغوي عند العرب، وذلك هو البدن الكثيف ولا يعني الجسم في لغتهم سواه، ولا يطلقون الجسم على الهواء والنار والماء، فهذا المعنى منفي عنه سبحانه عقلاً وشرعاً. وإن قال: إن مراده بالجسم شيء مركب من المادة والشكل، ومن الجواهر الفردة، فهذا أيضاً منفي عنه سبحانه قطعاً، وصحة نفيه([7]) – أي كونه مركباً من الجواهر الفردة – من الممكنات أيضاً، فليس الجسم المخلوق مركباً من هذه – أي الجواهر الفردة -. ثم إنه لا يوجد جسم مخلوق غير مركب لا من هذا ولا من ذاك.
وإن قال: إن مراده بالجسم شيء موصوف بالصفات، ومرئي بالأبصار، ومتكلم، وسميع، وبصير، وذو الرضاء والغضب، فلا ريب في أن هذه المعاني ثابتة له سبحانه، وهذه الصفات([8]) لا يمكن – بناءً على تسميتكم الموصوف بهذه الصفات جسماً – أن تنفى عنه سبحانه وتعالى، كما لا يمكن سب الصحابة بناءً على أن الروافض سموا المحبين والموالين للصحابة بالنواصب، وأيضاً لا يمكن نفي قدر الرب وتكذيبه بناءً على أن القدرية يسمون المثبتين للقدر بالجبرية، وهكذا لا يمكن رد الأسماء والصفات والأفعال التي أخبر بها المخبر الصادق، بناءً على أن أعداء الحديث يسمون أصحابه بالحشوية، ومثله لا يمكن جحد صفات الخالق، وعلوه على الخلق، واستوائه على العرش بناءً على أن المعطلة الفرعونية يسمون المثبتين للصفات بالمجسمة المشبهة:
فإن كان تجسيماً ثبوت اسـتوائـه على عرشـه إني إذاً لمجسم
وإن كان تشبيهاً ثبوت صفـاتـه فمن ذلك التشبيه لا أتلعثم
وإن كان تنـزيهاً جحود استوائه وأوصـافه أو كونه يتكلم
فمن ذلك التنـزيه نزهت ربنـا بتوفيقـه والله أعلى وأعلم
ورحمة الله على الشافعي حيث فتح للناس هذا الباب في قوله:
يا راكباً قف بالمحصب من منى واهتف بقاعد خيفها والناهض
إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أني رافضـي
وهذا كله كأنه مأخوذ من قول الشاعر الأول:
وعيّرني الواشون أني أحبها وذلك ذنب لست منه أتوب
ويقول الشيخ سنائي – الشاعر الفارسي – ما معناه: لو كانت هذه العقيدة والمذهب شراً فثبتنا يا رب على هذا الشر.
ولو أريد بالجسم أنه مشار إليه بالإشارة الحسية فأعرف الخلق بالله وأعلمهم به – النبي صلى الله عليه وسلم – أشار إليه بإصبعه، رافعاً لها إلى السماء لا إلى القبلة بمشهد الجمع الأعظم مستشهداً له.
ولو أريد بالجسم شيء يسأل عنه بأين هو؟ فرسول الله الذي هو أعلم الخلق بالله سأل بأين هو؟ ونبّه على علوه سبحانه على العرش، وسمع السؤال بأين وأجاب عنه، ولم يقل إن هذا سؤال عن الجسم.
ولو أريد بالجسم شيء يلحقه ((من)) و((إلى))، فلا ريب في أن جبرائيل عليه السلام كان ينزل من عنده، وعرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إليه سبحانه ((وإليه يصعد الكلم الطيب، وعبده المسيح رُفع إليه والكل منه وإليه)).
ولو أريد بالجسم شيء يتغيّر أمر منه عن أمره الآخر فالله سبحانه موصوف بصفات الكمال كلها من السمع، والبصر، والعلم، والقدرة، والحياة، وهذه الصفات تتمايز في ما بينها وتتغاير، ومن قال: إنها صفة واحدة فهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء، وأعلم الخلق بالله رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك))([9])، والمستعاذ به غير المستعاذ منه، واستعاذته صلى الله عليه وسلم به منه باعتبارين مختلفين ؛ لأن الصفة المستعاذ بها والصفة المستعاذ منها صفتان لموصوف واحد ورب واحد.
ولو أريد بالجسم شيء ليس له الوجه ولا اليدان ولا السمع ولا البصر، فنحن نؤمن بالوجه واليدين والسمع والبصر والرب والإله والصفات الأخرى التي أطلقها سبحانه على ذاته المقدس.
ولو أريد بالجسم شيء يكون فوق غيره ومستوياً فوق سواه، فلا ريب في أنه سبحانه فوق عباده ومستوٍ على عرشه.
وهكذا لو أريد بالتشبيه والتركيب تلك المعاني التي يدل عليها الوحي والعقل، فنفيها بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ والمعنى، وجناية على ألفاظ الوحي.
أما الخطأ اللفظي فهو تسمية الموصوف بهذه الصفات جسماً مركباً مؤلفاً، مشبهاً بالغير، وتسمية هذه الصفات تجسيماً وتركيباً وتشبيهاً، وهذا تكذيب للقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم والصفات، وقد وضعوا لصفاته ألفاظاً منهم بدأت وإليهم تعود.
وأما الخطأ في المعنى فهو نفي صفات كماله وتعطيلها بوساطة تسميتهم هذه وألقابهم، فنفوا المعنى الحق وسمّوه بالاسم المنكر، وكانوا في ذلك بمنزلة من سمع أن في العسل شفاءً ولم ير العسل فسأل عنه الناس، فأجابوه أن العسل مائع رقيق أصفر يشبه القذر تتقيؤها الزنابير، فكل من لا يعرف العسل ينفر([10]) منه بهذا التعريف، ومن عرفه وذاقه لا يزيده هذا التعريف إلا حباً فيه ورغبةً، ولله در القائل:
تقول: هـذا جنى النحـل تمدحـه وإن تشأ قلت: ذا قيء الزنابير
مدحاً وذمًّا وما جاوزت وضعهما والحق قد يعتريه سوء تعبير
ومن أقبح أساليب أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم في تنفيرهم من الحق المقبول المنقول بل المعقول، سوء تعبيرهم لما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وضربهم الأمثال القبيحة للحق، وتعبيرهم عن هذه المعاني الحسنى بالألفاظ المنكرة، ألقوا هذه الأشياء في مسامع المغترين المخدوعين، لتصل من الآذان إلى القلوب وتتنفر القلوب من هذه المعاني، ومعظم العقول كما عهدت على أن تقبل القول في عبارة وترفضه في عبارة أخرى.
مثل ما سبق لو قال أحد الفرعونية – المعطلة -: لو وجد رب فوق السموات والعرش لكان مركباً، قيل له: إن المركب في اللغة شيء ركبه غيره في موضع التركيب، كقوله تعالى: {فِى أَىّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ}([11])، وقولهم: ((ركبت الخشبة والباب))، أو شيء يتركب من الأخلاط والأجزاء على وجه كانت أجزاؤه متفرقة فاجتمعت بذلك التركيب وصارت شيئاً واحداً، كقولهم: ركبت الدواء من كذا، فقولهم: لو كان الرب فوق العرش لكان مركباً لو أريد فيه هذا التركيب المعهود – أي المعنى الأول المذكور للتركيب أو المعنى الثاني أنه كان متفرقاً فصار بالتركيب مجتمعاً –، لكان ذلك كذباً مفترى وفريةً خالصةً وبهتاناً صرفاً واتهاماً محضاً على الله والشرع والعقل.
ولو أريد بكونه على العرش أنه عال على الخلق، وبائن عن العالم، ومستوٍ على العرش، وليس شيء فوقه، فهذا المراد لا ريب في كونه حقاً، كأنهم قالوا هكذا: لو كان فوق العرش لكان فوق العرش، فنفي الشيء بتغيير العبارة عنه وقلبها إلى عبارة أخرى، وهذا شأن أهل الباطل في أكثر مطالبهم.ولو أريد بكونه مركباً أنه يتميز شيء منه عن الآخر، فهذا يعني وصفه بصفات يتميز بعضها عن بعض، فهل كان عنده – أي المعطل – هذا تركيباً، ولا يستطيع أن يقول: إن هذا القول لا يستحق أن يوجه إلينا، بل يوجه إلى من يثبت شيئاً من الصفات، ونحن بأنفسنا لا نثبت له أي صفة من الصفات فراراً من التركيب، وسبب عدم استطاعته القول المذكور أن العقل لا يدل على نفي هذا المعنى الذي سمّوه مركباً، بل خلافه الوحي والعقل والفطرة دالة على إثباته، فنفي ذلك بمقتضى التسمية الباطلة فقط يكون من أيّ نوع من أنواع التركيب الخمسة الآتية؟
الأول: تركيب الذات من الوجود والماهية، وذلك عند من يجعل وجودها زائداً على الماهية، وعندما ينفون هذا التركيب لا يبقى إلا وجود مطلق، وإنما هو في الأذهان ولا وجود له في الأعيان.