ويسمّي أهل الباطل هذه الأنواع الأربعة توحيداً، وعند إنكار المسلمين عليهم يعتصمون بهذا الاسم ويقولون نحن الموحدون، والتوحيد الذي أرسل الله به الرسل يسمّونه تركيباً وتجسيماً وتشبيهاً، ويعتبرون هذه الألقاب سهاماً وأسلحة يقاومون بها أهل الإسلام والأسماء الصحيحة عند أهل الحق، ويجعلون الأسماء الباطلة ترساً ووقاية يقاتلون بها أولئك، مع أنه ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع أهلّ بالتوحيد وقال: ((لبيك اللهم لك لبيك([3]) لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك))([4])، وتوحيد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا يتضمن إثبات صفات الكمال وبذلك يستحق سبحانه الحمد، ويتضمن إثبات الأفعال وبذلك يثبت كونه منعماً، ويتضمن إثبات القدرة والمشيئة والإرادة والتصرف والغضب والرضا والغنى والجود لأنها حقيقة ملكه.
وعند الفلاسفة والجهمية ليس له سبحانه الحمد ولا الملك، ومن ليس بسميع ولا بصير ولا عليم ولا متكلم ولا فاعل فأي حمد يثبت له؟ أوَليس سبحانه – عندهم – في العالم ولا خارجه ولا متصلاً بالدنيا ولا منفصلاً عنها، وليس فوق العالم ولا تحته، وليس على يمين ولا يسار، ومن لا يقوم بفعلٍ كيف يكون منعماً! ومن لا يتصف بصفةٍ أو يقوم بفعلٍ كيف يكون له الملك؟ فانظر إلى توحيد الرسل وتوحيد من خالفهم.
والعجب كل العجب أنهم يسمون توحيد الرسل شركاً وتجسيماً وتشبيهاً مع كونه توحيداً كاملاً إلى الغاية، ويعتبرون تعطيلهم واتحادهم ونفيهم توحيداً مع كونها نقصاً إلى الغاية ويرون اتباع الرسل نقصاً. سلبوا من الله سبحانه كل صفة من صفات الكمال، وزعموا أنهم أثبتوا له سبحانه صفات الكمال كلها مع أنهم جعلوه بمعزل عن كلها، وهذا هو توحيد الملاحدة والجهمية والمعطلة.
5. وأما توحيد الرسل وهو النوع الخامس، فهو إثبات صفات الكمال لله سبحانه وإثبات كونه فاعلاً بمشيئته وقدرته واختياره هو، وكل ما له من الأفعال فعل حقيقةً، ويستحق هو وحده العبادة والخوف والرجاء والتوكل، فهو المستحق لغاية الحب بغاية الذل، وليس للخلق وكيل ولا ولي ولا شفيع سواه، ولا واسطة بينه وبين العباد في رفع الحوائج، وتفريج الكربات، وإجابة الدعوات، نعم، لو وجدت واسطة فتلك في تبليغ الأمر والنهي والإخبار، لأن معرفة ما يحبه، ورضاه، وغضبه، وسخطه، وحقائق أسمائه، وتفصيل ما هو واجب له وممتنع عليه، وتفصيل ما يتصف به، ترتبط بها. فمعرفة هذه الأشياء لا تتم إلا بتلك الواسطة، لكن جاء الملاحدة وبعكسهم الأمر وقلبِهم الحقائِق نفوا كون الرسل وسائط في هذه الأمور، قالوا: يكفي كون العقل واسطة، واعتبروا نفي حقائق الأسماء والصفات توحيداً، وقالوا: نحن ننـزهه سبحانه عن الأعراض والأبعاض والحدود والجهات وحلول الحوادث. فالمسكين المغتر المخدوع يسمع منهم هذه الكلمات ويقرؤها في كتبهم الكلامية، ويعلم أن هذه الكلمات تعني تنـزيه الله من معانيها عند إطلاقها ومن العيوب والنقائص والحاجات، فلا يتطرق إليه شك في أنهم يمجدون الله سبحانه ويعظمونه.
وأما الناقد البصير فيكشف مما يختبئ تحت هذه الكلمات، ويرى كل ما وراءها من الإلحاد، وتكذيب الرسل، وتعطيل الرب سبحانه من كل ما يستحقه من صفات الكمال، فتنـزيهه سبحانه عن الأعراض يستلزم جحد صفاته الثابتة مثل السمع، والبصر، والحياة، والعلم، والكلام، والإرادة، لأن هذه الأعراض – عندهم – لا تقوم إلا بالجسم، فلو اتصف سبحانه بهذه الصفات صار جسماً، وهذه الصفات أعراض ذلك الجسم – وهو منـزه عن الأعراض -. أما الأغراض فهي الغاية والحكمة بعينها التي وجد من أجلها الخلق والفعل، والأمر والنهي، والإثابة والمعاقبة، وهذه الغايات المحمودة هي المطلوبة من أمره ونهيه وفعله، وهؤلاء بتسميتهم إياها بالأعراض والعلل ينـزهونه سبحانه عنها.
أما الأبعاض، فيريدون بتنـزيه الله سبحانه عنها نفي الوجه واليدين وإمساك السموات على إصبع وإمساك الأرض على إصبع وإمساك الملك على إصبع، لأن هذه كلها أبعاض فالله منـزه عنها.
وأما الحدود والجهات فمرادهم بذلك نفي كونه فوق السموات وعلى العرش، وكونه مشاراً إليه بأصابع إلى الفوق كما أشار إليه أعلم الخلق به النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون: لا ينـزل من جانبه شيء ولا يصعد إليه شيء، ولا يعرج إليه الملائكة والروح، ولم يرفع إليه المسيح عليه السلام، ولم يتم معراجه صلى الله عليه وسلم إليه؛ لأنه لو كان الأمر كذلك للزم إثبات الحدود والجهات، وهو سبحانه منـزه عنها.
وأما حلول الحوادث فمرادهم بذلك عدم التكلم بقدرته ومشيئته، وعدم نـزوله كل ليلة إلى السماء الدنيا، وهكذا عدم إتيانه يوم القيامة، وعدم المجيء، وعدم الغضب بعد الرضا، وعدم الرضا بعد الغضب، وعدم قيامه بأي فعل بذاته، وعدم القيام بالأمر من جديد بعد أن لم يكن، وعدم إرادة شيء بعد أن لم يكن مريده، وعدم قوله: ((كن)) لذلك الشيء حقيقةً، وعدم استوائه على العرش بعد أن لم يكن مستوياً عليه، وعدم غضبه يوم القيامة غضباً لم يسبق مثله ولا يوجد بعده، وعدم ندائه العباد يوم البعث بعد أن لم يكن منادياً إياهم، وعدم قوله للمصلي: حمدني عبدي عند قوله: {ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ} وأثنى عليّ عبدي عند قوله: {ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ} ومجّدني عبدي عند قوله: {مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ} لأن هذه كلها حوادث، وهو منـزه عن حلول هذه الحوادث.
والجهمية يقولون: نحن نثبت قديماً واحداً، ومثبتو الصفات يثبتون بعضاً من القدماء، والنصارى يثبتون ثلاثة قدماء، وهم – أي الجهمية – يكفرون هؤلاء – أي النصارى – فضلاً عن المثبتين لسبعة قدماء أو زيادة، فالعجب في هذا التدليس والتلبيس أنهم كيف يوهمون السامع بأنهم – أي مثبتو الصفات – أثبتوا قدماء مع الله، وهؤلاء – أي الجهمية – أثبتوا قديماً واحداً بصفاته، وصفاته داخلة في مسماه، كما أنهم – أي مثبتو الصفات – أثبتوا إلهاً واحداً ولم يجعلوا كل صفة من صفاته الإلهية إلهاً، بل إنه إله واحد بجميع أسمائه وصفاته، وهذا المفهوم – أي مفهوم الجهمية – بعينه متلقى من عباد الأصنام، المشركين بالله، المكذبين بالرسل، لأن هؤلاء كانوا يقولون القول المذكور، وذلك أن محمداً صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى إله واحد، ويقول هو نفسه: يا الله، يا سميع، يا بصير، وهذا دعاء آلهة بدل إله واحد. قال الله تعالى: {قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ}([5])، فكلما دعوا أي اسم من هذه الأسماء فقد دعوا مسمى ذلك الاسم، فأخبر الله سبحانه بأنه بذاته المقدس إله واحد ولو كانت أسماؤه الحسنى المشتقة من صفاته متعددة. ولنعم ما قيل:
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير
ولذا صارت هذه الأسماء حسنى، ولو كان كما يقول الجاحدون لصفات كماله يعني أن تلك الأسماء أسماء محضة فارغة من المعاني ليس لها من الحقائق شيء، لما كانت حسنى، بل أسماء الموصوفين بالصفات والأفعال كانت أحسن منها وأفضل، فالآية المذكورة تدل على توحيد ذاته سبحانه وكثرة صفاته ونعوته.
ومن جنس ما سبق، قولهم: إن أخص صفات الله هو القديم، ولو أثبتوا له الصفات القديمة الأخرى للزم وجود آلهة قدماء، مع أنه ليس هناك إله غيره.