ومن الرؤيا الظاهرة العظيمة ما ذكر عن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بن أقسنقر أنه رأى رسول الله في المنام يستنجده على رجلين أرادا إخراجه من قبره. وقد ذكر القصة في هذه الرؤيا نور الدين علي بن أحمد السمهودي في كتابه "الوفا بأخبار دار المصطفى" وذكر أن ذلك كان في سنة سبع وخمسين وخمسمائة، وهذا نص ما ذكره.
خاتمة: فيما نقل من عمل نور الدين الشهيد الخندق حول الحجرة الشريفة مملوءًا بالرصاص، وذكر السبب في ذلك وما ناسبه.
اعلم أني وقفت على رسالة قد صنفها العلامة جمال الدين الأسنوي في المنع من استعمال الولاة للنصارى، وسماها بعضهم بـ "الانتصارات الإسلامية" ورأيت عليها بخط تلميذه شيخ مشايخنا زين الدين المراغي ما صورته «نصيحة أولي الألباب، في منع استخدام النصارى كتّاب» لشيخنا العلامة جمال الدين الأسنوي، ولم يسمه فسميته بحضرته فأقرني عليه، انتهى. فرأيته ذكر فيها ما لفظه: وقد دعتهم أنفسهم – يعني النصارى – في سلطنة الملك العادل نور الدين الشهيد إلى أمر عظيم ظنوا أنه يتم لهم، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة: 32]. وذلك أن السلطان المذكور كان
له تهجد يأتي به بالليل وأوراد يأتي بها، فنام عقب تهجده فرأى النبي في نومه وهو يشير إلى رجلين أشقرين ويقول: أنجدني أنقذني من هذين، فاستيقظ فزعًا ثم توضأ وصلى ونام فرأى المنام بعينه، فاستيقظ وصلى ونام فرآه أيضًا مرة ثالثة، فاستيقظ وقال: لم يبق نوم وكان له وزير من الصالحين يقال له جمال الدين الموصلي فأرسل خلفه ليلاً وحكى له جميع ما اتفق له فقال له: وما قعودك، اخرج الآن إلى المدينة النبوية واكتم ما رأيت، فتجهز في بقية ليلته وخرج على رواحل خفيفة في عشرين نفرًا وصحبته الوزير المذكور ومالٌ كثير فقدم المدينة في ستة عشر يومًا فاغتسل خارجها ودخل فصلى بالروضة وزار ثم جلس لا يدري ماذا يصنع. فقال الوزير وقد اجتمع أهل المدينة في المسجد: إن السلطان قصد زيارة النبي وأحضر معه أموالاً للصدقة فاكتبوا مَنْ عندكم فكتبوا أهل المدينة كلهم وأمر السلطان بحضورهم، وكل من حضر ليأخذ يتأمله ليجد فيه الصفة التي أراها النبي له فلا يجد تلك الصفة فيعطيه ويأمره بالانصراف إلى أن انقضى الناس، فقال السلطان: هل بقي أحد لم يأخذ شيئًا من الصدقة، قالوا: لا، فقال: تفكروا وتأملوا، فقالوا: لم يبق أحد إلا رجلين مغربيين لا يتناولان من أحد شيئًا وهما صالحان غنيان يكثران الصدقة على المحاويج، فانشرح صدره وقال: عليّ بهما؛ فأتي بهما فرآهما الرجلين اللذين أشار النبي إليهما بقوله «أنجدني أنقذني من هذين»، فقال لهما: من أين أنتما؟ فقالا: من بلاد المغرب جئنا حاجين فاخترنا المجاورة في هذا العام عند رسول الله فقال: أصدقاني، فصمما على ذلك، فقال: أين منزلهما فأخبر بأنهما في رباط بقرب الحجرة فأمسكهما وحضر إلى منزلهما فرأى فيه مالاً كثيرًا وختمتين وكتبًا في الرقائق ولم ير فيه شيئًا غير ذلك فأثنى عليهما أهل المدينة بخير كثير وقالوا: إنهما صائمان الدهر ملازمان الصلوات في الروضة الشريفة وزيارة النبي وزيارة البقيع كل يوم بكرة وزيارة قباء كل سبت ولا يردان سائلاً قط بحيث سدَّا خلة أهل المدينة في هذا العام المجدب، فقال السلطان: سبحان الله، ولم يظهر شيئًا مما رآه، وبقي السلطان يطوف في البيت بنفسه فرفع حصيرًا في البيت فرأى سردابًا محفورًا ينتهي إلى صوب الحجرة الشريفة
فارتاعت الناس لذلك، وقال السلطان عند ذلك: أصدقاني حالكما، وضربهما ضربًا شديدًا فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما النصارى في زي حجاج المغاربة وأمالوهما بأموال عظيمة وأمروهما بالتحيل في شيء عظيم خيلته لهم أنفسهم وتوهموا أن يمكنهم الله منه وهو الوصول إلى الجناب الشريف ويفعلوا به ما زينه لهم إبليس في النقل وما يترتب عليه فنزلا في أقرب رباط إلى الحجرة الشريفة وفعلا ما تقدم وصارا يحفران ليلاً ولكل منهما محفظة جلد على زي المغاربة، والذي يجتمع من التراب يجعله كل منهما في محفظته ويخرجان لإظهار زيارة البقيع فيلقيانه بين القبور وأقاما على ذلك مدة فلما قربا من الحجرة الشريفة أرعدت السماء وأبرقت وحصل رجيف عظيم بحيث خيّل انقلاع تلك الجبال فقدم السلطان صبيحة تلك الليلة واتفق إمساكهما واعترافهما فلما اعترفا وظهر حالهما على يديه ورأى تأهيل الله له لذلك دون غيره بكى بكاءً شديدًا وأمر بضرب رقابهما فقتلا تحت الشباك الذي يلي الحجرة الشريفة وهو مما يلي البقيع، ثم أمر بإحضار رصاص عظيم وحفر خندقًا عظيمًا إلى الماء حول الحجرة الشريفة كلها وأذيب ذلك الرصاص وملأ به الخندق فصار حول الحجرة الشريفة سورًا رصاصًا إلى الماء، ثم عاد إلى ملكه وأمر بإضعاف النصارى وأمر أن لا يستعمل كافر في عمل من الأعمال وأمر مع ذلك بقطع المكوس جميعها. انتهى.
وقد أشار إلى ذلك الجمال المطري باختصار ولم يذكر عمل الخندق حول الحجرة وسبك الرصاص به. لكن بين السنة التي وقع فيها ذلك مع مخالفة لبعض ما تقدم فقال في الكلام على سور المدينة المحيط بها اليوم: وصل السلطان نور الدين محمود بن زنكي بن أقسنقر في سنة سبع وخمسين وخمسمائة إلى المدينة الشريفة بسبب رؤيا رآها ذكرها بعض الناس وسمعتها من الفقيه عَلَم الدين يعقوب بن أبي بكر المحترق أبوه ليلة حريق المسجد عمن حدثه من أكابر من أدرك أن السلطان محمودًا المذكور رأى النبي ثلاث مرات في ليلة واحدة وهو يقول في كل واحدة: يا محمود أنقذني من هذين الشخصين الأشقرين تجاهه فاستحضر وزيره قبل الصبح فذكر له ذلك، فقال له: هذا أمر حدث في مدينة النبي ليس له غيرك فتجهز وخرج على
عجل بمقدار ألف راحلة وما يتبعها من خيل وغير ذلك حتى دخل المدينة على حين غفلة من أهلها، والوزير معه، وزار وجلس في المسجد لا يدري ما يصنع، فقال له الوزير: أتعرف الشخصين إذا رأيتهما؟ قال: نعم، فطلب الناس عامة للصدقة وفرق عليهم ذهبًا كثيرًا وفضة وقال: لا يبقين أحد بالمدينة إلا جاء فلم يبق إلا رجلان مجاوران من أهل الأندلس نازلان في الناحية التي قبلة حجرة النبي من خارج المسجد عند دار آل عمر بن الخطاب التي تعرف اليوم بدار العشرة فطلبهما للصدقة فامتنعا وقالا: نحن على كفاية ما نقبل شيئًا، فجدّ في طلبهما فجيء بهما فلما رآهما قال للوزير: هما هذان، فسألهما عن حالهما وما جاء بهما فقالا: لمجاورة النبي ، فقال: أصدقاني، وتكرر السؤال حتى أفضى إلى معاقبتهما فأقرا أنهما من النصارى وأنهما وصلا لكي ينقلا من في هذه الحجرة الشريفة باتفاق من ملوكهم ووجدهما قد حفرا نقبًا تحت الأرض من تحت حائط المسجد القبل وهما قاصدان إلى جهة الحجرة الشريفة ويجعلان التراب في بئر عندهما في البيت الذي هما فيه فضرب أعناقهما عند الشباك الذي في شرقي حجرة النبي خارج المسجد ثم أحرقا بالنار آخر النهار وركب متوجهًا إلى الشام. انتهى.
وقد وقع في سنة تسعين وثلاثمائة قصة قريبة الشبه من قصة النصرانيين اللذين أرادا نقل النبي من المدينة، وقد ذكر هذه القصة ابن النجار في "ذيل تاريخ بغداد" ونقلها عنه ابن الجزري في تاريخه ونقلها تقي الدين محمد بن أحمد الحسني الفاسي في كتابه "العقد الثمين، في تاريخ البلد الأمين" عن الجزري، وذكرها أيضًا النجم عمر بن فهد في كتابه «إتحاف الورى، بأخبار أم القرى» وذكرها أيضًا السمهودي في كتابه «وفاء الوفاء، بأخبار دار المصطفى» وذكر ابن فهد أن هذه القصة وقعت في سنة تسعين وثلاثمائة.
قال الفاسي: ذكر الجزري في تاريخه حكاية اتفقت لأبي الفتوح صاحب مكة بالمدينة، نقلها عن تاريخ ابن النجار البغدادي، وقد رأيت أن أذكرها لغرابتها. أنبئت عمن أنبأه الحافظ ابن النجار – ثم ساق بالإسناد إلى أبي القاسم عبد الحكيم بن محمد المقري الزاهد قال: أشار بعض الزنادقة
على الحاكم العبيدي بنبش قبر النبي وصاحبيه وحملهم إلى مصر وقال له: متى تّمَّ هذا الأمر شد الناس رحالهم من أقطار الأرض إلى مصر فكانت منقبة يعود جمالها على مصر وساكنيها فدخل ذلك عقل الحاكم فنفذ إلى أبي الفتوح يأمره بذلك فسار أبو الفتوح حتى قدم المدينة وحضر إليه جماعة من أهلها لأنه كان بلغهم ما قدم بسببه وكان حضر معهم قارئ يعرف بالركباني فقرأ بين يدي أبي الفتوح: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ [التوبة: 12-14] قال: فماج الناس وكادوا أن يقتلوا أبا الفتوح ومن معه من الأجناد، وما منعهم إلا أن البلاد كانت للحاكم، فلما رأى أبو الفتوح ما الناس عليه قال لهم: الله أحق أن يخشى والله لا أتعرض لشيء من ذلك وَدَعِ الحاكم يفعل فيّ ما أراد، ثم استولى عليه ضيق الصدر وتقسيم الفكر كيف أجاب، فما غابت الشمس في بقية ذلك اليوم حتى أرسل الله تعالى من الريح ما كادت الأرض تزلزل منه وتدحرجت الإبل بأقتابها والخيل بسروجها كما تدحرج الكرة على وجه الأرض وهلك خلق كثيرون من الناس وانفرج هَمُّ أبي الفتوح لما أرسل الله تعالى تلك الرياح التي شاع ذكرها في الآفاق لتكون له حجة عند الحاكم من الامتناع من نبش القبور الكريمة. انتهى.