فصل
في رؤية الأنبياء والملائكة في المنام
ذكر البغوي في "شرح السنة" عن الإمام – وهو شيخه القاضي حسين بن محمد المروروذي – أنه قال: رؤية النبي في المنام حق ولا يتمثل الشيطان به، وكذلك جميع الأنبياء والملائكة، وكذلك الشمس والقمر والنجوم المضيئة والسحاب الذي فيه الغيث لا يتمثل الشيطان بشيء منها. ومن رأى نزول الملائكة بمكان فهو نصرة لأهل ذلك المكان وفرج إن كانوا في كرب، وخصب إن كانوا في ضيق وقحط، وكذلك رؤية الأنبياء صلوات الله عليهم، ومن رأى ملكًا يكلمه ببر أو بعظة أو يبشره فهو شرف في الدنيا وشهادة في العاقبة. ورؤية الأنبياء مثل رؤية الملائكة إلا في الشهادة لأن الأنبياء كانوا يخالطون الناس، والملائكة عند الله سبحانه وتعالى لا يراهم الناس.
ورؤية النبي في مكان سعةُ لأهل ذلك المكان إن كانوا في ضيق وفرجٌ إن كانوا في كرب ونصرةٌ إن كانوا في ظلم، وكذلك رؤية الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ورؤية أهل الدين بركة وخير على قدر منازلهم في الدين، ومن رأى النبي كثيرًا في المنام لم يزل خفيف الحال مُقِلاًّ في دنياه من غير حاجة فادحة ولا خذلان من الله عز وجل، قال النبي : «إن الفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه»، ورؤية الإمام إصابة خير وشرف. انتهى.
فصل
في بيان حقيقة الرؤيا
قال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه "عارضة الأحوذي": قد بينا حقيقة الرؤيا وأنها إدراكات يخلقها الله في قلب العبد على يدي الملك أو الشيطان، إما بأمثالها، وإما أمثالاً بكناها، وإما تخليطًا. ونظير ذلك في اليقظة الخواطر فإنها تأتي على نسق في قصد، وتأتي مسترسلة غير محصلة، فإذا خلق الله من ذلك في المنام على يدي الملك شيئًا كان وحيًا منظومًا
وبرهانًا مفهومًا. انتهى.
وقد تقدم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: «الرؤيا ثلاث، فرؤيا حق ورؤيا يحدث بها الرجل نفسه ورؤيا تحزين من الشيطان». وتقدم أيضًا في حديث أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله قال: «الرؤيا من الله والحُلْم من الشيطان». وفي رواية: «الرؤيا الصالحة من الله والرؤيا السوء من الشيطان».
قال البغوي في "شرح السنة": قوله: «الرؤيا ثلاثة» فيه بيان أن ليس كل ما يراه الإنسان في منامه يكون صحيحًا ويجوز تعبيره، إنما الصحيح منها ما كان من الله عز وجل يأتيك به ملك الرؤيا من نسخة أم الكتاب، وما سوى ذلك أضغاث أحلام لا تأويل لها.
وهي على أنواع قد يكون من فعل الشيطان يلعب بالإنسان أو يريه ما يحزنه، وله مكايد يحزن بها بني آدم، ومن لعب الشيطان به الاحتلام الذي يوجب الغسل فلا يكون له تأويل. وقد يكون ذلك من حديث النفس كمن يكون في أمر أو حرفة يرى نفسه في ذلك الأمر. والعاشق يرى معشوقه ونحو ذلك. وقد يكون ذلك من مزاج الطبيعة كمن غلب عليه الدم يرى الفصد والحجامة والرعاف والحمرة والرياحين والمزامير والنشاط ونحوها، ومن غلب عليه طبيعة الصفراء يرى النار والشمع والسراج والأشياء الصفر والطيران في الهواء وغيرها، ومن غلب عليه السوداء يرى الظلمة والسواد والأشياء السود وصيد الوحوش والأهوال والأموات والقبور والمواضع الخربة وكونه في مضيق لا منفذ له أو تحت ثقل ونحو ذلك، ومن غلب عليه البلغم يرى البياض والمياه والأنداء والثلج والجمد والوحل ونحوها فلا تأويل لشيء منها. انتهى.
إذا علم هذا فالكلام في هذا الفصل فيما يجوز تعبيره من الرؤيا وهي الرؤيا الصحيحة التي جاء وصفها في حديث أبي هريرة رضي الله عنه بأنها رؤيا حق، وجاء وصفها في حديث أبي قتادة رضي الله عنه بأنها الرؤيا الصالحة وأنها من الله، وهذه الرؤيا نوعان. أحدهما: ما هو ظاهر لا يحتاج إلى تأويل. والثاني: ما هو من ضرب الأمثال للنائم، وهذا النوع هو الأكثر
والغالب على الرؤيا وهو الذي يحتاج فيه إلى التأويل.
ومن النوع الأول رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام في المنام أنه يذبح ابنه. وقد ذكر الله هذه القصة في قوله تعالى: فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ * فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات: 101-107].
وقد جاء في هذا النوع أحاديث كثيرة عن النبي ، وسأذكر منها ما تيسر إن شاء الله تعالى، وأذكر بعدها جملة مما جاء في غير الأحاديث المرفوعة وهو مما يستحسن ذكره.
فمن ذلك ما ثبت عن النبي أنه رأى ربه في المنام في أحسن صورة وأن الله تعالى سأله عما يختصم فيه الملأ الأعلى، وأنه تعالى وضع كفه، -وفي رواية يده- بين كتفي النبي حتى وجد بردها بين ثدييه. وقد ذكرت الأحاديث الواردة في ذلك قريبًا فلتراجع.
ومن ذلك رؤيا النبي في المنام أنه أتي بعائشة رضي الله عنها فعرضت عليه وقيل له هذه زوجتك. وقد روى الحديث الوارد في ذلك أحمد والبخاري من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله : «رأيتك في المنام مرتين أرى رجلاً يحملك في سَرَقَة حرير فيقول هذه امرأتك فأكشفها فإذا هي أنت فأقول إن يكن هذا من عند الله يمضه»، وفي رواية للبخاري قالت: قال لي رسول الله : «أُريتكِ في المنام يجيء بك الملَك في سَرَقَة من حرير فقال لي هذه امرأتك فكشفت عن وجهك الثوب فإذا أنت هي فقلت إن يك هذا من عند الله يمضه»، وفي رواية له أخرى: قالت: قال رسول الله : «أُريتك قبل أن أتزوجك مرتين رأيت
الملك يحملك في سَرَقَة من حرير فقلت له اكشف فكشف فإذا هي أنت فقلت: إن يكن هذا من عند الله يمضه، ثم أريتك يحملك في سَرَقَة من حرير فقلت: اكشف فكشفت فإذا هي أنت، فقلت: إن يك هذا من عند الله يمضه» ورواه مسلم بنحو الرواية الثانية عند البخاري إلا أنه قال في أوله: «أُريتك في المنام ثلاث ليال» ورواه ابن حبان في "صحيحه" بمثل الرواية الأولى عند أحمد والبخاري ورواه البيهقي بمثل رواية مسلم.
ورواه الترمذي من طريق ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها: «أن جبريل جاء بصورتها في خرقة حرير خضراء إلى النبي فقال: إن هذه زوجتك في الدنيا والآخرة». قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، ورواه ابن حبان في "صحيحه" بنحوه.
قوله: «سَرَقة من حرير» هي بفتح السين والراء. قال الجوهري: السَّرَق شقق الحرير، قال أبو عبيد: إلا أنها البيض منها الواحدة منها سَرَقة. قال: وأصلها بالفارسية "سَرَهْ" أي: جيد فعربوه. انتهى.
ومن ذلك رؤيا النبي دار الهجرة. وقد جاء ذلك في حديثين عن النبي ، أحدهما: عن أبي موسى رضي الله عنه عن النبي قال: «رأيت في المنام أني أهاجر من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وَهَلي إلى أنها اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب» رواه البخاري ومسلم وابن ماجه وابن حبان في "صحيحه".
قوله: «فذهب وَهَلي» قال النووي في "شرح مسلم": الوَهَل بفتح الهاء ومعناه وهمي واعتقادي. قال: وهجر مدينة معروفة وهي قاعدة البحرين، وأما يثرب فهو اسمها في الجاهلية فسماها الله تعالى المدينة وسماها رسول الله طيبة وطابة. انتهى.
وقال ابن حجر في "فتح الباري": يقال وَهَل بالفتح إذا ظن شيئًا فتبين الأمر بخلافه. قال: وهجر بفتح الهاء والجيم بلد معروف من البحرين وهي من مساكن عبد القيس.
قلت: وهو الذي يسمى في زماننا الأحساء. ولا يزال اسم هجر باقيًا على هذه البلاد زماننا.
الحديث الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله للمسلمين: «قد رأيت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما حرتان» فخرج من كان مهاجرًا قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين. رواه الإمام أحمد والبخاري وابن حبان في أثناء حديث طويل في الهجرة، وهذا لفظ أحمد، ونحوه عند ابن حبان ورواه البيهقي بمثل رواية أحمد.
ومن ذلك رؤيا الأذان، وقد جاء ذلك في عدة أحاديث. منها ما رواه أبو داود والبيهقي عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قال:اهتم النبي للصلاة كيف يجمع الناس لها فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها آذن بعضهم بعضًا فلم يعجبه ذلك. قال: فذكر له القُنْع -يعني الشَّبُّور- شَبُّور اليهود فلم يعجبه ذلك وقال: «هو من أمر اليهود» قال: فذكر له الناقوس فقال: «هو من أمر النصارى» فانصرف عبد الله بن زيد وهو مهتم لِهَمّ رسول الله فأري الأذان في منامه قال: فغدا على رسول الله فأخبره فقال: يا رسول الله، إني لبين نائم ويقظان إذ أتاني آت فأراني الأذان، قال: وكان عمر بن الخطاب قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يومًا ثم أخبر النبي فقال له: «ما منعك أن تخبرني؟» فقال: سبقني عبد الله بن زيد فاستحييت، فقال رسول الله : «يا بلال قم فانظر ما يأمرك به عبد الله بن زيد فافعله»، قال: فأذن بلال.
ومنها ما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: حدثنا أصحاب رسول الله أن عبد الله بن زيد الأنصاري جاء إلى النبي فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كأن رجلاً قام وعليه بردان أخضران على جذمة حائط فأذن مثنى وأقام مثنى وقعد قعدة. قال فسمع ذلك بلال فقام فأذن مثنى وأقام مثنى وقعد قعدة.
ومنها ما رواه الإمام أحمد والدارمي وأبو داود وابن ماجه وابن حبان