عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 6  ]
قديم 2009-12-13, 11:22 AM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
ورد الصَّدر في القرآن الكريم "44" مرَّة، نسبت له فيها أفعال وصفات يكتسبها، دلَّت على أنَّ له دورًا في الجانب المعرفي، وأنَّه ذو علاقة مع القلب مركز الإدراك، بل بعض الصِّفات التي نسبت للصدْر هي من صفات القلب؛ لذا قال بعض الحكماء: حيثما ذكر الله تعالى القلب فإشارة إلى العقل والعلم، وحيثما ذكر الصَّدر فإشارة إلى ذلك وإلى سائر القُوى من الشَّهوة والهوى والغضب[61].

فالصَّدر حاوٍ للقلب، والقلب حاوٍ للفؤاد، والفؤاد حاوٍ للُّب، "فالصدر بالنسبة للقلب بمنزلة بياض العين في العين، ومثل صحن الدار في الدار، ومثل الذي يحوط بمكة.. فهذا الصدر موضع دخول الوسواس والآفات كما يعيب بياض العين آفة البثور وسائر علل الرمد"[62].

وهو موضع الشهوات، والحاجات، والأماني، وولاية النفس الأمارة بالسوء، والوساوس، وهو موضع الإسلام، وحفظ العلم المسموع من أحكام وأخبار.

عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا ينزع الله العلم من صدور الرجال، ولكن ينزع العلم بموت العلماء، فإذا لم يُبق عالمًا اتَّخذ الناس رؤساء جهالاً، فقالوا بالرأي فضلّوا وأضلّوا))[63].

فلا انفِكاك بين الصَّدْرِ والقلب، غير أنَّ لكلّ واحد صفات مغايرة مع الاشتراك في أخرى، فهو مقدّمة القلب، ومنْه يصدر الوسواس والخواطر نحو القلب.

من صفات الصدر في القرآن ما يأتي:
1- الانشراح: {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل: 106]، والانشراح هو التوسعة والفتح والفهْم والكشف[64]، وفي القرآن سورة باسم الانشراح، أو الشَّرح: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الانشراح: 1]؛ أي: ببسطِه لقبول ما سيوحى إليه من العلوم، وقد ورد في القُرآن خمسُ آيات، كلها حوْل شرْح الصدْر بالهداية والنور الإلهي، ومعرِفة الحقّ، وجعْل الصدْر وعاء للحكمة أو وعاء للكفر.

ولم يقرن الشَّرْح بالقلب قطّ؛ وذلك "لأنَّ محلَّ الوسوسة هو الصدر، على ما قال في [الناس: 5]: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ}؛ فالصدور بحاجة إلى القوَّة والتوسعة لتكون حصنًا للقلب من أهواء الشياطين"[65].

أمَّا القلب فوصف بالهداية، والإنابة، والكتابة عليه، والتطهير، والتزيين وغيرها مما يقارب الشرح.

2- الإسلام: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام: 125]، قال ابن كثير: بأن ييسِّره وينشطه ويسهله عليه[66]، وقال السَّعدي: من انشرح صدره للإسلام اتسع وانفسح، فاستنار بنور الإيمان؛ فاطمأنَّت نفسه بذلك وأحبَّ الخير، وطوّعت له نفسه فعله متلذذًا غير مستثقل[67].

فالإسلام محلّه الصدر، أمَّا الإيمان فمحلّه القلب؛ {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7]، وهناك آيةٌ فاصلة بيْنهما وهي: {وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]، فأُثْبِت لهم الإسلام ومحله الصدر، ونُفي عنهم الإيمان في القلب، فالإسلام والإيمان نور الصدر والقلب، وبداية النور علامات الخير والفلاح؛ لذا نجد الرَّازي يقول: فشرح الصدر مقدمة لسطوع الأنوار الإلهيَّة في القلب[68].

كما أن الآية: {فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ} ماذا يكون؟ في بداية الأمر: {يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ}، بعدها الهداية، ولكن لأي شيء؟ {وَمَن يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]؛ فالهداية للقلب، والشَّرح كان للصدر، فدلَّ على أنَّ شرْح الصدر بدايته بالإسلام، وهداية القلب يكون بالإيمان، وهو خلاصة الهداية، وبداية الترقِّي في سبُل السَّلام ودرجات النَّجاة.

3- الكفر: {وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ} [النحل: 106]؛ أي: أتى الكفر عن اختيار واستحباب منه[69] واتِّساع للصدر له؛ فالكفر يقابله الإسلام وكلاهما بالصَّدْر، أمَّا القلب فوصف بالنّفاق والمرض والإثم.

4- الضيق: وهو يصاحب الضَّلال: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125]، قبلها ذكر تعالى أنَّ من يُرِد له الهداية يشرح صدره للإسلام، فكان المقابل: من يرد له الضلال يضيِّق عليه صدره، والضيق ضد الاتساع؛ فهو ضدّ الانشراح، كما أنَّ من معانيه الشَّكّ والبخل والحسرة[70].

قال ابن كثير في معنى الضيق للصدر: هو الذي لا يتَّسع لشيء من الهدى، ولا يخلص إليْه شيء ممَّا ينفعه من الإيمان، ولا ينفذ فيه[71].

وهذا للكافر، أمَّا للمؤمن فهو انقِباض الصدْر وغم ممَّا يشهد من المنكرات، {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل: 127]، والإضلال إنَّما يكون للقلب؛ لأنَّه محلّ الهداية؛ لذا وصف الله تعالى عقابه للقلْب بالطَّبع والختْم والإقفال والزَّيغ والصَّرْف.

5- الحرج: {كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} [الأعراف: 2]، قال القرطبي: أي: لا يضيق صدرك بالإبلاغ[72]، والحرج هو المكان الضيِّق الكثير الشجر، فهو بمعنى شدة الضيق، أو سبب للضّيق نفسه.

وقال الزجَّاج: الحرج في اللغة: أضيق الضيق[73]، وهو وليد الشك والخوف، وينتج الهم والغم.

أمَّا القلب فنجده وُصِف بالإثم والقسوة والغلف والقفل، وهذه كلّها تمنع وصول الهدى له.

ووصف الصَّدر بالحصر، وهو من معاني الضّيق: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} [النساء: 90]، والحصر حبس مع تضْييق[74].

6- وصف الصدر بأنَّه حاوٍ للقلب ولكلّ ما عُلم وللآيات والأخبار؛ قال تعالى: {وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]، دلَّت الآية على أنَّ الصدر حاوٍ للقلب، وقال تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ} [العنكبوت: 49]، {أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العَالَمِينَ} [العنكبوت: 10]، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال: 43]، [هود: 5]، [فاطر: 38]، [الزمر: 7]، [الشورى: 24]، [الملك: 13].

نلاحظ تكْرار لفظ "ذات" مع الصدور، وهي بمعنى الملكيَّة، وتدل هنا على الاشتمال والاحتواء، بدليل قوله تعالى في آية أخرى: {بِمَا فِي صُدُورِ العَالَمِينَ} [العنكبوت: 10] فاسم الصلة دال على الملكية، وحرف الجر على الظرفية.

قال الكفوي: بذات الصدور؛ أي: بواطنها، والذَّات هو ما يصلح أن يعلم ويخبر عنه، وقد يطلق ويراد به الحقيقة، وما قام بالشيء[75].

أما صيغة "عليم" فهي للمبالغة، وأعلى درجة من قولنا "عالم" أو "ذو علم"؛ لقوله تعالى: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76].

فاقترن ما في الصدور بلفظين: "ذات" للدلالة على البواطن والخفايا، و"عليم" وهو دالّ على علم الأسرار، وما خفِي عن الظَّاهر، فنجد قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5]، فالعلن والجهر معلوم للكلّ بالسَّمع، لكن الله استوى عنده السر والجهر، {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ} هذا سواء عند الله؛ لأنه {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور} [الملك: 13]، فالتحدّي قائم حول ما أُسِرَّ لا ما جهر به؛ لأنه متمكن منه للكل.
نخلص إلى أنَّ "عليم" خصّ بالبواطن والخفايا، ولأنَّ الله تعالى صدَّر تلك الآيات بـ "عليم" و"يعلم" و"أعلم"، فدل قطعًا على وجود معلوم، هو "ذات"، وهذا المعلوم ذكر محله وهو "الصدر"، فالصدر بئر الأسرار والمكتوم، ومحلّ آيات الله تعالى المحفوظة، ومورد الأخبار والعلم، فهو محلّ الذَّاكرة والحافظة، فهو محلّ ما يستَحْفظ ويكتم وهو مقرّ الأسرار، وطبيعة السّرّ أن يحصن ولا يُفْشَى، فكان مَن يصل إليه أكثر من عالم وذي علم، بل هو عليم، حيث علم الظَّاهر والمعلن والمسموع، ثمَّ نفذ إلى ما هو باطن محفوظ ومحصن.

وحصر معنى العليم بما خفي؛ لقوله تعالى: {قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران: 29]، ووصفت الصدور بالإكنان وهو الإخفاء؛ {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69].
7- وصف الصدر بأنه محل الوساوس: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5]، والوسوسة حديث النَّفس والشَّيطان بما لا ينفع، أو هو الخواطر الرَّديئة، وأصلُها من الوسواس وهو الصوت الخفي والهمس[76]، ووصف القلب بإنزال الوحي والإلقاء والتَّزْيين.

8- الصدر محل الحوائج: {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} [غافر: 80]، {وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9]، أمَّا القلب فوصف بالميل والصغْو والتعمُّد والحبّ والكسْب.

9- وصف الصَّدر بالكبر والغلّ: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56]، والكِبْر الإثم الكبير، والتجبُّر، وردّ الحقّ، والاستعلاء؛ لمرض القلب وقسوته.

والكبر يصدُر عنه الغلّ؛ لذا كان الغلُّ بالقلب والصدْر؛ {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ} [الأعراف: 42]، فالنَّزع كان لما في القلب وهو داخل الصدر، أمَّا الكبر فاختصَّ بالصَّدر دون القلب، فلا نجِد داعي الكبر، وهو الغل في صفات الصدر، بل في القلب وحده؛ لأنَّ الكبر صفة مرَضيَّة، والقلْب هو الموصوف بالمرَض في القرآن، والغلُّ من صفات مرَض القلب لا الصَّدْر - والله أعلم.


توقيع يمامة الوادي




هل جربت يوماً اصطياد فكرة رائعة !؟
لـتـصوغـهـا فـي داخـلـك
وتـشحـنهـا بنبض قـلـبـك
وتعـطرهـا بطيب بروحك
وتسقـيـهـا بمـاء عـرقـك
حتى تنضج وتصنع منك إنساناً مبدعاً ؟