فهل الفؤاد هو القلب؟ أم جزء منه؟ أم القلب جزء منه؟
من استِقْراء آي القرآن وكلام العلماء حولهما، يظهر أنَّ الفؤاد جزءٌ من القلب؛ لأسباب هي:
1- وصف الفؤاد بقوى إدراكية وفقط، بينما وصف القلب بذلك وبقوى إرادية من طباع وشهوات ومشاعر.
2- أن القلب أُثبت في القرآن للبهائم، وأجمع النَّاس على أنَّها لا تعقل؛ فدلَّ على أنَّها لا تملك قوى العقل ولا محلّه وهو الفؤاد.
3- اقتران لفظ القلْب دائمًا بآلات الإحساس الجارحة: الأذن والعين، بينما يقترن الفؤاد بقواها الحسية والإدراكية: السمع والبصر.
4- تقليب الفؤاد – أي: آرائه - كان جزاء عن عدم الإيمان، والإيمان نسب إلى القلب، وهو يشمل التَّصديق والإقرار والطَّاعة بعد الفهم ثمَّ العمل، وهذا كلّه ليس للفؤاد منْه إلاَّ الفهم وآلياته.
5- التَّمكين من العلم يكون بالسَّمع والبصر والفؤاد، لكن إذا اجتمع ذلك مع الجحود كان كمال القوة العلمية مع نقص القوة الإرادية الإيمانية، وكلاهما جزء من أعمال القلب.
6- الختم والطبع والقفل والوقر والأكنَّة، كلها لصور العقاب الذي وقع على قوى الأعضاء الجارحة، بدليل أن المعاقب أدوات المعرفة فيه سليمة، والمسؤولية لم تسقط عنه حتَّى بعد العقاب، لزم حتمًا أنَّ آليات الإدراك وقواها تعمل، فما الذي طبع وأقفل إذًا؟ ما طبع جزء من كلّ؛ أي: إنَّه هو والقوى الأصلية (الفؤاد، السمع، البصر) محتوى ضمن كلّ؛ هو القلب، ولما انتفت الغاية الأخروية وهي علَّة خلقه، نُفِيَت عنه الغاية البشرية وهي وسيلة خلافته، وصارت له غاية بهيميَّة وهي وسيلة بقائه.
7- البهائم ذات سمع وبصر وقلب، وذا نصيبها، لكن لم تمنح الفؤاد، وهو من القلب.
فتأمَّلْ تشبيه الله تعالى للكفَّار بالأنعام، بأنَّ لكل واحد منها قلبًا وأذنًا وعينًا، غير أنَّها معطَّلة عن الفقه والسَّمع والبصر، فقلب البهيمة ينقُصه فؤاد، وقلب الكافِر يلزمه إعماله ليكتمل، والنَّاقص جزء من كل.
ب- اللُّبّ:
العقل الخالص من الشَّوائب، وقيل: ما ذكا من العقل، فكلّ لبٍّ عقل ولا عكس؛ ولهذا علَّق الله الأحكام التي لا تُدركها إلاَّ العقول الذكيَّة بأولي الألباب[47].
واللب هو القلب الخالص، وخالص القلب، ويكنى به عن العقل لأنه خالص القلب والخطاب موجه له، واللبيب العاقل، وألبَّ به لبَّا، إذا أقام به، والملبوب: الموصوف بالعقل[48].
فأصل اللُبّ من أَلَبَّ، وهو كاللَّب - بالفتح - بمعنى الملازم، وبالضم بمعنى الخالص من كل شيء، وهو قلب كل شيء وعقله[49].
فخالص كل مادة قلبها، وخالص القلب في الإنسان عقله، لذا فُهم اللب في الإنسان على أنه عقله، فسمي العقل لُبًّا؛ وذلك لأن الخطاب يوجه لقوَّة واحدة من بين قوى القلب، وهي القوَّة العاقلة – أي: العقل - فاللبّ أصل يدور على معاني اللزوم والثبات وعلى خلوص وجَوْدَة[50].
ورد لفظ اللبّ في القرآن الكريم في صيغة الجمع المضاف لاسم الإشارة؛ دلالة على الاختصاص والاستحقاق، مثل ذاك قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} [يوسف: 68]؛ أي: صاحب علم، وهذا أرفع من لفظ "عالم"؛ لاختصاصه بالعلم دون غيره.
وفي ورود اللبّ بصيغة الجمع نكتة بلاغية - ذكرت في الفصل الأوَّل - فائدتها انتفاء الثقل في النطق.
باستقراء آيات اللبّ في القرآن نلاحظ تخصيصه بأمور منها:
1- منح أولي الألباب صفات خاصَّة بهم دون غيرهم، وأخرى شرط في انتسابهم لهذه الخاصية، منها الإيمان والهداية، والتقوى والعلم، والتفكر في خلق الله تعالى، والتدبر في وحيه.
{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]، {هُدًى وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [غافر: 54]، {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52]، {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 100]، {لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [ص: 29].
2- التذكر والعبرة صفة خاصَّة خالصة لأولي الألباب؛ {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة: 269]، وفي [آل عمران: 7]، وقوله: {وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [ص: 43]، و [غافر: 54].
أمَّا الاعتبار: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111]، وإن لم تكن خاصًّا بهم وحدهم فهي كذلك لأولي الأبصار.
والتذكُّر كان في جميع الآيات أعلى من درجة التفكر، وهذه عملية تكون في الآيات الكونية، يليه التدبر في الآيات المتلوَّة، كما أنَّ التذكّر من أعلى مراتب العلم، وهو من أعلى مراتب الإيمان؛ لقوله تعالى: {وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، بعدها: {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [إبراهيم: 52].
فليس كلّ مَن علِم يتذكَّر، غير أنَّ كلَّ متذكِّر ضمنًا هو عالم بما تذكَّر.
وقوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]؛ فليس كل مَن آمن يتذكَّر؛ لأنَّ التذكّر مرتبة لاحقة تدلّ على زيادة الإيمان عن درجته الأولى.
فالقلْب خصَّ بالفقه والعقل، واللّبّ خصَّ بالتذكّر، والفؤاد بالرؤية.
فاللّبّ يمثّل خالص القلْب، بل خالص العقل، والتذكّر أعْلى من الفقه والتعقّل والرؤية، ومن التفكّر؛ لذا نجد في آية القصاص: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ} [البقرة: 178]، فكان هنا لا بدَّ من طرح سؤال، وهو: كيف يليق بكمال رحمتِه إيلام العبد الضعيف؟
لأجل دفع هذا السؤال؛ ذكَرَ عقب بيان أحكام القصاص حكمةَ تشريعه، وهي ضمان بقاء الحياة للذين يقيمون حدود الله، وهذه ما يعقِلُها إلاَّ أولو الألباب؛ لإبصارهم العواقب من تَجاربهم في الدنيا، وفهمِهِم لسلوك النَّاس وعادات مجتمعاتِهم، ويعلمون أثر الخوف من العقاب، والرَّدع الناتج من ذاك، فإذا أراد أحدٌ الإقدام على قتل آخر عدوٍّ له، وعلم أنَّ القصاص سيقع عليه، صار ذاك رادعًا؛ لأنَّ العاقل لا يريد إتْلاف نفسه بإتلاف غيره، فإنْ خاف ذلك كان خوفه سببًا للكف ودوام الحياة له ولغيره، وقطعًا للثأر، فمن لا عقل له يهديه إلى هذا لا يخاف ولا يدرك سرَّ الأحكام؛ لذا خصَّ الله تعالى أولي الألباب بإدْراك الحكمة من تشريعِه.
فالتذكّر والتفكّر منزلان يثمِران أنواع المعارف، وحقائق الإيمان والإحسان، والعارف لا يزال يعود بتفكره على تذكُّره والعكس؛ حتَّى يفتح عليه.
فالتفكر التماس الغاية من مبادئها، وهو تلمّس البصيرة لاستدراك البغية، أمَّا التذكّر فوجود، فهو تفعل من الذكْر ضد النسيان؛ أي: حضور المذكور من الصور العلميَّة في القلب، واختير بناء التفعّل لحصوله بعد مهلة وتدرّج كالتصبر والتفهّم والتعلّم[51].
فيكون بذلك أولو الألباب هم خلاصة ذوي العقول، فهم من يستحضرون العلوم بعد التفكر والتبصّر فيها وحفظها، فيتجلى لهم ما لا يطلع عليه غيرهم.
3- أولو الألباب هم خاصَّة عباد الرحمن الذين أقبلوا على طاعته، وتزوَّدوا بالتقْوى، وآمنوا وعلموا، ثمَّ تفكَّروا وتدبَّروا، فخصَّهم الرحمن بإدراك أسرار التَّشريع، وحِكم الأحكام دون غيرهم؛ {وَلَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179]، وقال {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ}[52] [البقرة: 197]، {يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
فهُم ذوُو الحكمة والرسوخ في العلم؛ لذا ناط بهم خاصيَّة التذكّر؛ لأنَّهم اختصُّوا دون غيرهم باللّبّ، وإذا قيل: إنَّ اللُّبَّ هو العقل، فهنا إشكال وهو: إذا كان لا يصح خطاب إلا العقلاء، فما الفائدة في قوله "أولي الألباب"؟ هنا يعلم أنَّ اللب هو العقل الخالِص من الشوائب، وليس كل صاحب عقل صاحب لب، كما أنَّ الخطاب في الآية كان المراد منه التَّنبيه على أولي الألباب بأنَّهم تلحقهم لمكانتهم العلميَّة تبعة المحاسبة والرّقابة، فهم أعْلم النَّاس بمراد الله تعالى، فكان لا بدَّ لهم أن يكونوا أسبق النَّاس عملاً بذاك العلْم، وإعراضهم أقْبح من إعراضِ غيرِهم؛ لعظم الحجَّة القائمة عليْهِم مقارنة بغيرهم.
ج- الأبصار:
وهي البصيرة، وقد وردت بصيغة الجمع في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13]، قال الراغب: يقال لقوَّة القلب المدركة: بصيرة، ولا يكاد يقال للجارحة: بصيرة، وقلَّما يقال: بَصُرت في الحاسَّة، إذا لم تضامّه رؤية القلب[53].
ولأنَّ البصيرة كانت بمعنى قوى الإدراك نجد تفسيرها لا يتجاوز ذلك، قال الطبري في معنى "لأولي الأبصار": ممَّن له فهم وعقل[54].
والبصيرة فعلها ووظيفتها التبصر، وهذه درجة قبل التذكر؛ فهي نور في القلب يبصر به، فيقوم في قلبه شواهد الحق، ويرى حقيقة ما يبلغه ويخبر به عن طريق الرسل، فالبصيرة ما خلصك من الحيرة، إما بإيمان أو عيان.
قال ابن القيم عن صاحب "المنازل": "البصيرة ما يخلصك من الحيرة، وهي على ثلاث درجات:
الأولى: أن تعلم أنَّ الخبر القائم بتمْهيد الشَّريعة يصدر عن عين لا يخاف عواقبها، فترى من حقِّه أن تؤديه يقينًا، وتغضب له غيرة.
والدَّرجة الثانية: أن تشهد في هداية الحقّ وإضلاله إصابة العدل.
والدَّرجة الثَّالثة: تفجر المعرِفة، وتثبت الإشارة وتنبت الفراسة[55].
والله جعل العمى للعَين عدم إدراك المرئيات واستقبال الصور، والجهْل عمى القلب؛ أي: فقدان لبصيرته؛ {وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46]؛ أي: الإدراك التام إنَّما يكون بالقلب وتعطّله بعمى القلب، والعمى لا يطلق إلا على البصر، فكانت الأبصار في "أولي الأبصار"، فهي إحدى قوى القلب لرؤية الحق وفهم الحجة؛ فالعمى هنا أصاب بصيرة القلب.