أسباب الإسراف والتبذير:
Ÿ الجهل بحرمة الإسراف، والاعتِقاد بأنَّ من حقِّ المرْء التصرُّف في ماله كيفما شاء، متجاوزًا الحدّ مسرفًا في تناوُل المباحات، ناسيًا قول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، وقول النَّبيِّ - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((كلوا وتصدَّقوا والبَسوا في غير إسرافٍ ولا مخيلة))؛ أخرجه النَّسائي، وحسَّنه الألباني.
فهو منهيّ عنْه حتَّى في الصَّدقة، فكيف بما لا يحلُّه الله؟!
Ÿ الجهل بعظيم الأجْر المترتِّب على البذْل والإنفاق في الأوجُه التي شرَعها الله، فالمال الباقي هو ما يقدِّمُه المرء لنفسِه بعطاء وبذْل في سبيل الله، يحفظ له عنده، وليس ما يَجمعه ليقتسمَه ورثتُه بعده.
Ÿ التَّجاهُل بأنَّه سيُسأل عن هذا المال؛ قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربِّه حتَّى يُسأل عن خمس: عن عُمره: فيمَ أفناه؟ وعن شبابه: فيم أبلاه؟ وماله: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقَه؟ وماذا عمل فيما علم))؛ صحَّحه الألباني.
Ÿ التَّربية الاستهلاكية، فالفرد الذي ينشأ في أُسرة حالها الإسْراف والبذخ، يتربَّى على الإسراف عبر الاقتِداء والتَّقليد لسلوك الأبوين، ممَّا ينشئ الطفل الاستهلاكي المسرف.
Ÿ العادات الشِّرائيَّة الخاطئة، وتتبُّع الإعلانات التي تدفع الفرد إلى المزيد من الشراء لأشياء ليس بحاجة إليها.
Ÿ الغفلة عن طبيعة الحياة التي لا تدوم على حال، ولا تثبُت على وتيرة واحدة، فالغنيّ قد يمسي فقيرًا، والفقير قد يُصبح غنيًّا:
مَا بَيْنَ طَرْفَةِ عَيْنٍ وَانْتِبَاهَتِهَا يُغَيِّرُ اللَّهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالِ
لذا؛ فالواجب أن تأخُذ من غناك لفقرك، وتدَّخر ما يَفيض عن حاجتك من مالٍ إلى وقتٍ أنت فيه أحوج.
Ÿ اليسر بعد العسر، فكثيرٌ من النَّاس قد يعيشون في عسر وعوز ثمَّ تتبدَّل أحوالُه بفضل الله إلى الثَّراء، فيصعب عليْه التوسُّط أو الاعتِدال، فينقلب على النَّقيض تمامًا، فيكون الإسراف والتَّبذير، محاولاً تعْويض ما يرى بأنَّه قد فاته من التَّنعُّم وما حرم منْه.
Ÿ محاكاة الصحبة، فصُحبة المسرفين تدعو إلى محاكاة فعلِهم، "فكلّ قرينٍ بالمُقارن يقتدي"؛ قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((المرءُ على دين خليله، فلينظُر أحدُكم مَن يخالل))؛ أخرجَه الإمام أحمد.
Ÿ حبّ الظُّهور والتَّباهي والتَّعالي على النَّاس، فيظهر لهم غناه وثراءَه، أو لينال إعجابهم فينفق مالَه دون اكتراث.
Ÿ اتّباع العادات، فالبعض ينفق حتَّى في حال فقْرِه كي لا يُوصف بالبخل؛ تقليدًا لغيره ومجاراة للعادات والأعراف.
Ÿ غفلة البعض عن نتائج وعواقب الإسراف المهلكة.
Ÿ ارتفاع مستوى الدَّخل، فأحيانًا تؤدِّي زيادة دخل الأسرة لزيادة الإنفاق.
صور التبذير والإسراف:
ذكر الإمام محمد بن الحسن - رحمه الله -: "من الإسراف الأكْل فوق الشبع، ومن الإسراف الاستِكْثار من المباحات والألوان، وأن يضَعَ على المائدة من ألوان الطَّعام ما لا يحتاج إليْه للأكل، ومن الإسراف أن يأكُل وسط الخبز ويدَع حواشيه".
ذكر الماوردي - رحِمه الله -: "من التَّبذير أن ينفق مالَه فيما لا يجدي عليْه نفعًا في دنياه، ولا يكسبه أجرًا في أخراه، بل يكسبه في دنياه ذمًّا ويحمل إلى آخرته إثمًا، كإنفاقه في المحرَّمات وشرْب الخمر وإتيان الفواحش، وإعطائه السُّفهاء من المغنِّين والملهين والمساخر والمضحكين، ومن التبذير أن يشغل المال بفضول الدُّور التي لا يحتاج إليْها، وعساه لا يسكنها، أو يبنيها لأعدائِه ولخراب الدَّهر الذي هو قاتلُه وسالبه، ومن التَّبذير أن يجعل المال في الفُرش الوثيرة والأواني الكثيرة الفضّيَّة والذهبيَّة الَّتي تقلّ أيَّامه ولا تتَّسع للارتِفاق بها".
ومنه الإفراط في الطَّعام في الولائم وغيرها ما يؤدّي إلى التخمة والبدانة، ويجلب الأمراض والعلل.
وكذا شراء الألعاب والملهيات ووسائل التَّسلية والتَّرفيه، وإهدار الثَّروات المائيَّة والكهربائيَّة، وشراء الأرْقام المميزة للجوالات ولوْحات السيَّارات والقمار وأسفار المعصية، والسّياحات الَّتي لا منفعة فيها، وإنفاق الأموال على ترْبية الحيوانات التي لا فائدة منها، أو على الكلاب المحرَّم اقتناؤُها إلاَّ لضرورة، أو تتبُّع الأزياء وما يستجدّ بها، والبحث عن التَّميُّز والشهرة؛ ((مَن لبس ثوب شهرة ألبسَه الله ثوبَ مذلَّة يوم القيامة))؛ أخرجه أحمد وأبو داود والنَّسائي وابن ماجه، وحسَّنه الألباني.
وغيرها كثير من الأموال التي كانت ستُصرف على الضروريات لو لم تُصْرَف على الكماليَّات أو التَّحسينات والتَّرفيه.
مفاسد الإسراف:
الإسراف يَجلب غضَب الله تعالى وسخطه وربَّما عذابه؛ {إنَّهُ لاَ يُحِبُ المسْرِفِينْ} [الأنعام: 141]، {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
يعوِّد الإنسان التَّرف المذْموم الذي يبعد المرْء عن الاجتهاد والجدّ والسَّعي والكدّ، ويعوده التَّراخي والخمول، خصوصًا من تربَّوا على هذا السَّرف.
الإسراف ينزع البركة من المال، ويسوقُ صاحبَه إلى الفقْر، ويجلب عليه الحسْرة والنَّدم، وكم ممَّن أسرفوا على أنفُسِهم فذاقوا وبال ذلك حسرةً وندامةً في الدّنيا؛ لضياع مالِه ووقوعه في الديون، وفي الآخرة العقاب الأليم والعذاب الشَّديد؛ {إنّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينْ} [الواقعة: 45].
السَّرف يؤدّي إلى استنزاف موارد البيئة ومنتجاتها واستهلاك معطياتها.
الإسراف يبعد الإنسان عن الشُّعور بما يشعر به الآخرون من المعوزين والمحتاجين، فالمسرف محاطٌ بالنِّعم متقلِّب فيها، لا يشعر أو يهتمّ بغيره.
ورد في الأثر عن يوسف - عليه السلام - أنَّه سُئل: لم لا نراك تشبع أبدًا؟
قال: "أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع".
تعوُّد الإسراف قد يحْدو بالمرْء إن ضاقت ذاتُ يده إلى أن تمتدَّ إلى ما لا يَجوز له، وما ليس من حقِّه؛ حفاظًا على حياة التَّرف والصَّرف والسَّرف التي تعوَّد عليها، فيقع في الحرام.
والتوسُّط دائمًا مطلوب؛ {ولاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةٌ إلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَ البَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوَماً مَحْسُورَاً} [الإسراء: 29].
وقال - عزَّ وجلَّ -: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67].
لربَّما قال قائل: إنَّ الله يحبّ أن يرى آثارَ نعمته على عبادِه.
نعم، ولكن آثار النِّعمة لا تَعني التَّرف الزَّائد وصرْف المال فيما لا فائدة منه ولا عائد، ومَن استعمل النعم في غير ما أمر المنعم فقد بطر.
ومَن شكره عليْها زاده، وشُكْر النِّعْمة حفظُها وإيتاء حقِّها ببذلِها فيما أمر المنعم من وجوه الإنفاق والعطاء، فمَن فعل ذلك تحقَّق له الخير في دنياه وآخرته، ومَن شكر النِّعَم أبدله خيرًا منها، وضاعفها له، وأسبغ عليه غيرها؛ {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، {وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً} [المزمل: 20].
سُئِل الحسن بن علي - رضِي الله عنْه -: لِمَ تُعْطي كلَّ ما تملك؟
قال: عوَّدتُ ربِّي على هذا، وعوَّدني أن يضاعف لي ما أنفقت، وأخشى إن غيَّرت عادتي أن يغيّر الله عادته.
ولابدَّ للمؤمن أن يعرف وجوه الإنفاق التي شرعها الله في ماله؛ فإذا كان لديْك قرشٌ يُحيِّرك، فلم لا تنفقُه حيث أمرك الله ورسولُه، وبالصورة التي تؤجر عليها، بدلاً من إضاعته في لذَّة ساعة بعيدًا عن الطَّاعة؟!
عن أبي هريرة - رضي الله عنْه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ الله تعالى يرْضَي لكم ثلاثًا ويكْرَهُ لكم ثلاثًا، فيرضى لكم: أن تَعبدوه، ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبْل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، ويكره لكم: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال))؛ رواه مسلم.
وإضاعة المال: تبْذيره وعدم حِفْظه، وصرفه في غيْر فائدة، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
فالمالُ قيام للناس تقوم به أمور حياتهم ومصالحهم؛ {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5].
يَجب أن يحافظ الإنسان عليه ولا يضيِّعه، فإذا بذله في غير وجهه أضاعه، والأسوأ أن يبذلَه في محرَّم، وأسوأ منه أن يفاخر بفعله وبذخه، فإن أضاف التفاخُر إلى صرفه فقد جمع شرًّا إلى شرّ، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7].
فالمال أصلاً مال الله إذًا، فأنفقه حيثُ أمرك الله واستعِنْ بما أعطاك على طاعته.
إنَّ المال الَّذي لا تنفقه ستترُكُه خلفَك لِمن ينفقه ولن ترحل بشيء منه؛ قال تعالى: {وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94].
عن عبدالله بن مسعود - رضِي الله عنْه -: أنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آلِه وسلَّم - قال: ((أيّكم مالُ وارثه أحبّ إليه من مالهِ؟)) قالوا: يا رسولَ الله، ما منَّا أحدٌ إلاَّ ماله أحبّ إليْه، قال: ((فإنَّ ماله ما قدَّم ومال وارثه ما أخَّر))؛ رواه البخاري.
.