أولا: أن السماء بناء محكم التشييد, دقيق التماسك والترابط, وليست فراغا كما كان يعتقد الي عهد قريب, وقد ثبت علميا أن المسافات بين أجرام السماء مليئة بغلالة رقيقة جدا من الغازات التي يغلب عليها غاز الإيدروجين, وينتشر في هذه الغلالة الغازية بعض الجسيمات المتناهية في الصغر من المواد الصلبة, علي هيئة غبار دقيق الحبيبات, يغلب علي تركيبه ذرات من الكالسيوم, والصوديوم, والبوتاسيوم, والتيتانيوم, والحديد, بالإضافة الي جزيئات من بخار الماء, والأمونيا, والفورمالدهايد, وغيرها من المركبات الكيميائية.
وبالإضافة الي المادة التي تملأ المسافات بين النجوم, فإن المجالات المغناطيسية تنتشر بين كل أجرام السماء لتربط بينها في بناء محكم التشييد, متماسك الأطراف, وهذه حقيقة لم يدركها العلماء إلا في القرن العشرين, بل في العقود المتأخرة منه.
وعلي الرغم من رقة كثافة المادة في المسافات بين النجوم, والتي تصل الي ذرة واحدة من الغاز في كل سنتيمتر مكعب تقريبا من المسافات البينية للنجوم, والي أقل من ذلك بالنسبة للمواد الصلبة( الغبار الكوني), إذا ما قورن بحوالي مليون مليون مليون جزئ(1810) في كل سنتيمتر مكعب من الهواء عند سطح الأرض, فإن كمية المادة في المسافات بين النجوم تبلغ قدرا مذهلا للغاية, فهي تقدر في مجرتنا( سكة التبانة) وحدها بعشرة بلايين ضعف ما في شمسنا من مادة, مما يمثل حوالي5% من مجموع كتلة تلك المجرة.
ثانيا: إن في الإشارة القرآنية الكريمة والسماء بنيناها بأيد أي بقوة وحكمة واقتدار, تلميحا الي ضخامة الكون المذهلة, وإحكام صنعه, وانضباط حركاته, ودقة كل أمر من أموره, وثبات سننه, وتماسك أجزائه, وحفظه من التصدع أو الانهيار, فالسماء لغة هي كل ما علاك فأظلك, ومضمونا هي كل ما حول الأرض من أجرام ومادة وطاقة السماء, التي لايدرك العلم إلا جزءا يسيرا منها, ويحصي العلماء أن بالجزء المدرك من السماء الدنيا مائتي بليون من المجرات, بعضها أكبر كثيرا من مجرتنا( درب اللبانة أو سكة التبانة), وبعضها أصغر قليلا منها, وتتراوح أعداد النجوم في المجرات بين المليون والعشرة ملايين الملايين, وتمر هذه النجوم في مراحل من النمو مختلفة( الميلاد, الطفولة, الشباب, الكهولة, الشيخوخة ثم الوفاة), وكما أن لأقرب النجوم إلينا( وهي شمسنا) توابع من الكواكب والكويكبات, والأقمار, وغيرها فإن القياس يقتضي أن للنجوم الأخري توابع قد اكتشف عدد منها بالفعل, ويبقي الكثير مما لم يتم اكتشافه بعد.
ثالثا: تشير هذه الآية الكريمة الي أن الكون الشاسع الاتساع, الدقيق البناء, المحكم الحركة, والمنضبط في كل أمر من أموره, والثابت في سننه وقوانينه, قد خلقه الله( تعالي) بعلمه وحكمته وقدرته, وهو( سبحانه) الذي يحفظه من الزوال والانهيار, وهو القادر علي كل شيء. والجزء المدرك لنا من هذا الكون شاسع الاتساع بصورة لايكاد عقل الإنسان إدراكها( إذ المسافات فيه تقدر ببلايين السنين الضوئية), وهو مستمر في الاتساع اليوم والي ما شاء الله, والتعبير القرآني وإنا لموسعون يشير الي تلك السعة المذهلة, كما يشير الي حقيقة توسع هذا الكون باستمرار الي ما شاء الله, وهي حقيقة لم يدركها الإنسان إلا في العقود الثلاثة الأولي من القرن العشرين, حين ثبت لعلماء كل من الفيزياء النظرية والفلك أن المجرات تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات تتزايد بتزايد بعدها عن مجرتنا, وتقترب أحيانا من سرعة الضوء( المقدرة بحوالي ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية).
والمجرات من حولنا تتراجع متباعدة عنا, وقد أدرك العلماء تلك الحقيقة من ظاهرة انزياح الموجات الطيفية للضوء الصادر عن نجوم المجرات الخارجة عنا في اتجاه الطيف الأحمر( الزحزحة الي الطيف الأحمر, أو حتي دون الطيف الأحمر أحيانا), وقد أمكن قياس سرعة تحرك تلك المجرات في تراجعها عنا من خلال قياس خطوط الطيف لعدد من النجوم في تلك المجرات, وثبت أنها تتراوح بين60,000 كيلومتر في الثانية, و272,000 كيلومتر في الثانية.
وقد وجد العلماء أن مقدار الحيود في أطياف النجوم الي الطيف الأحمر( أو حتي دون الأحمر في بعض الأحيان), يعبر عن سرعة ابتعاد تلك النجوم عنا, وأن هذه السرعة ذاتها يمكن استخدامها مقياسا لأبعاد تلك النجوم عنا.
رابعا: تشير ظاهرة توسع الكون الي تخلق كل من المادة والطاقة, لتملآ المساحات الناتجة عن هذا التوسع, وذلك لأن كوننا تنتشر المادة فيه بكثافات متفاوتة, ولكنها متصلة بغير انقطاع, فلايوجد فيه مكان بلا زمان, كما لايوجد فيه مكان وزمان بغير مادة وطاقة, ولا يستطيع العلم حتي يومنا هذا, أن يحدد مصدر كل من المادة والطاقة اللتين تملآن المساحات الناتجة عن تمدد الكون, بتلك السرعات المذهلة, ولا تأويل لها إلا الخلق من العدم.
خامسا: أدي إثبات توسع الكون الي التصور الصحيح بأننا اذا عدنا بهذا التوسع الي الوراء مع الزمن, فلابد أن تلتقي كل صور المادة والطاقة كما يلتقي كل من المكان والزمان في نقطة واحدة, وأدي ذلك الي الاستنتاج الصحيح بأن الكون قد بدأ من نقطة واحدة بعملية انفجار عظيم, وهو مما يؤكد أن الكون مخلوق له بداية, وكل ما له بداية فلابد أن ستكون له في يوم من الأيام نهاية, كما يؤكد حقيقة الخلق من العدم, لأن عملية تمدد الكون تقتضي خلق كل من المادة والطاقة بطريقة مستمرة ـ من حيث لايدرك العلماء ـ وذلك ليملآ( في التو والحال) المسافات الناشئة عن عملية تباعد المجرات عن بعضها البعض بسرعات مذهلة, وذلك لكي يحتفظ الكون بمستوي متوسط لكثافته التي نراه بها اليوم, وقد أجبرت هذه الملاحظات علماء الغرب علي هجر معتقداتهم الخاطئة عن ثبات الكون, والتي دافعوا طويلا عنها, انطلاقا من ظنهم الباطل بأزلية الكون وأبديته, لكي يبالغوا في كفرهم بالخلق وجحودهم للخالق( سبحانه وتعالي).
هذه الاستنتاجات الكلية المهمة عن أصل الكون, وكيفية خلقه, وإبداع صنعه, وحتمية نهايته, أمكن الوصول اليها من ملاحظة توسع الكون, وهي حقيقة لم يتمكن الإنسان من إدراكها إلا في الثلث الأول من القرن العشرين, ودار حولها الجدل حتي سلم بها أهل العلم أخيرا, وقد سبق القرآن الكريم بإقرارها قبل أربعة عشر قرنا أو يزيد, ولا يمكن لعاقل أن يتصور مصدرا لتلك الإشارة القرآنية الباهرة غير الله الخالق( تبارك وتعالي), فسبحان خالق الكون الذي أبدعه بعلمه وحكمته وقدرته, والذي أنزل لنا في خاتم كتبه, وعلي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم) عددا من حقائق الكون الثابتة, ومنها تمدد الكون وتوسعه فقال( عز من قائل):
والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون
( الذاريات:47)
لتبقي هذه الومضة القرآنية الباهرة مع غيرها من الآيات القرآنية, شهادة صدق بأن القرآن الكريم كلام الله, وأن سيدنا ونبينا محمدا( صلي الله عليه وسلم) كان موصولا بالوحي, معلما من قبل خالق السماوات والأرض, وأن القرآن الكريم هو معجزته الخالدة الي قيام الساعة.
من اراد ان لت يتوسع اكثر يدخل هذا الموقع موقع الشيخ زغلول النجار:
http://www.islamiyyat.com/scientific_eijaz.htm