خلق السماوات والأرض في القرآن الكريم:
من قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة, لخص لنا ربنا( تبارك وتعالي) في صياغة كلية شاملة عملية خلق السماوات والأرض, وإفنائهما وإعادة خلقهما من جديد, في خمس آيات من القرآن الكريم علي النحو التالي:
(1) والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون( الذاريات:47)
(2) أو لم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون( الأنبياء:30)
(3) ثم استوي الي السماء وهي دخان فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين( فصلت:11)
(4) يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين( الأنبياء:104)
(5) يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار( إبراهيم:48)
وهذه الآيات الكريمات تشير الي أن الكون الذي نحيا فيه يتسع باستمرار, وإذا عدنا بهذا الاتساع الي الوراء مع الزمن فلابد أن يتكدس علي هيئة جرم واحد( مرحلة الرتق), وهذا الجرم الابتدائي انفجر بأمر من الله( مرحلة الفتق), فتحول الي غلالة من الدخان( مرحلة الدخان), خلقت منه الأرض والسماوات( مرحلة الإتيان), وأن الكون منذ لحظة انفجاره في توسع مستمر, وأن هذا التوسع سوف يتوقف في المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله, بأمر منه( تعالي), فيبدأ الكون في الانطواء علي ذاته, والتكدس في جرم واحد كهيئة الجرم الابتدائي الأول, الذي بدأ منه خلق السماوات والأرض, فتتكرر عملية الانفجار والتحول الي الدخان الذي تخلق منه أرض غير أرضنا الحالية, وسماوات غير السماوات التي تظللنا في الحياة الدنيا, وهنا تنتهي رحلة الحياة الدنيا وتبدأ رحلة الآخرة, ومراحل الرتق والفتق والدخان, والاتيان بالسماوات والأرض, وتوسع السماء ثم طيها تعطينا كليات مراحل الخلق والإفناء والبعث دون الدخول في التفاصيل.
وهذه الحقائق القرآنية لم يستطع الإنسان إدراك شيء منها إلا في أواخر القرن العشرين, مما يؤكد سبق القرآن الكريم للمعارف الإنسانية بأكثر من أربعة عشر قرنا, وهذا وحده مما يشهد للقرآن بأنه لايمكن إلا أن يكون كلام الله الخالق, كما يشهد لخاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين), بأنه كان موصولا بالوحي, معلما من قبل خالق السماوات والأرض, حيث إنه لم يكن لأحد علم بهذه الحقائق الكونية في زمن الوحي, ولا لقرون متطاولة من بعد نزوله, وتشهد هذه الآيات الخمس بدقة الإشارات الكونية الواردة في كتاب الله, وشمولها, وكمالها, وصياغتها صياغة معجزة يفهم منها أهل كل عصر معني من المعاني يتناسب مع المستوي العلمي للعصر, وتظل هذه المعاني تتسع باستمرار مع توسع دائرة المعرفة الإنسانية في تكامل لا يعرف التضاد, وهو من أبلغ صور الإعجاز العلمي في كتاب الله.
بدايات تعرف الإنسان علي ظاهرة توسع الكون
الي مطلع العقد الثاني من القرن العشرين, ظل علماء الفلك ينادون بثبات الكون وعدم تغيره, في محاولة يائسة لنفي الخلق والتنكر للخالق( سبحانه وتعالي) حتي ثبت عكس ذلك بتطبيق ظاهرة دوبلر علي حركة المجرات الخارجة عن مجرتنا, ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر, كان العالم النمساوي دوبلر
قد لاحظ أنه عند مرور قطار سريع يطلق صفارته فإن الراصد للقطار يسمع صوتا متصلا ذا طبقة صوتية ثابتة, ولكن هذه الطبقة الصوتية ترتفع كلما اقترب القطار من الراصد, وتهبط كلما ابتعد عنه, وفسر دوبلر السبب في ذلك بأن صفارة القطار تطلق عددا من الموجات الصوتية المتلاحقة في الهواء, وأن هذه الموجات تتضاغط تضاغطا شديدا كلما اقترب مصدر الصوت, فترتفع بذلك طبقة الصوت, وعلي النقيض من ذلك, فإنه كلما ابتعد مصدر الصوت تمددت تلك الموجات الصوتية حتي تصل الي سمع الراصد, فتنخفض بذلك طبقة الصوت.
كذلك لاحظ دوبلر أن تلك الظاهرة تنطبق أيضا علي الموجات الضوئية, فعندما يصل الي عين الراصد ضوء منبعث من مصدر متحرك بسرعة كافية, يحدث تغير في تردد ذلك الضوء, فإذا كان المصدر يتحرك مقتربا من الراصد فإن الموجات الضوئية تتضاغط وينزاح الضوء المدرك نحو التردد العالي( أي نحو الطيف الأزرق), وتعرف هذه الظاهرة باسم الزحزحة الزرقاء, وإذا كان المصدر يتحرك مبتعدا عن الراصد, فإن الموجات الضوئية تتمدد وينزاح الضوء المدرك نحو التردد المنخفض( أي نحو الطرف الأحمر من الطيف), وتعرف هذه الظاهرة باسم الزحزحة الحمراء, وقد اتضحت أهمية تلك الظاهرة عندما بدأ الفلكيون في استخدام أسلوب التحليل الطيفي للضوء القادم من النجوم الخارجة عن مجرتنا في دراسة تلك الأجرام السماوية البعيدة جدا عنا.
ففي سنة1914 م أدرك الفلكي الأمريكي سلايفر
أنه بتطبيق ظاهرة دوبلر علي الضوء القادم الينا من النجوم, في عدد من المجرات البعيدة عنا, ثبت له أن معظم المجرات التي قام برصدها تتباعد عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة, وبدأ الفلكيون في مناقشة دلالة ذلك, وهل يمكن أن يشير الي تمدد الكون المدرك بمعني تباعد مجراته عنا وعن بعضها البعض بسرعات كبيرة؟
وبحلول سنة1925, تمكن هذا الفلكي نفسه
من إثبات أن أربعين مجرة قام برصدها تتحرك فعلا في معظمها بسرعات فائقة متباعدة عن مجرتنا( سكة التبانة), وعن بعضها البعض.
وفي سنة1929 م تمكن الفلكي الأمريكي الشهير إدوين هبل
من الوصول الي الاستنتاج الفلكي الدقيق الذي مؤداه: أن سرعة تباعد المجرات عنا تتناسب تناسبا طرديا مع بعدها عنا, والذي عرف من بعد باسم قانون هبل
وبتطبيق هذا القانون تمكن هبل من قياس أبعاد العديد من المجرات, وسرعة تباعدها عنا, وذلك بمشاركة من مساعده ملتون هيوماسون
الذي كان يعمل معه في مرصد جبل ولسون بولاية كاليفورنيا, وذلك في بحث نشراه معا في سنة1934 م.
وقد أشار تباعد المجرات عنا وعن بعضها البعض, الي حقيقة توسع الكون المدرك, التي أثارت جدلا واسعا بين علماء الفلك, الذين انقسموا فيها بين مؤيد ومعارض حتي ثبتت ثبوتا قاطعا بالعديد من المعادلات الرياضية والقراءات الفلكية في صفحة السماء.
ففي سنة1917 م أطلق ألبرت أينشتاين
نظريته عن النسبية العامة لشرح طبيعة الجاذبية, وأشارت النظرية الي أن الكون الذي نحيا فيه غير ثابت, فهو إما أن يتمدد أو ينكمش وفقا لعدد من القوانين المحددة له, وجاء ذلك علي عكس ما كان أينشتاين وجميع معاصريه من الفلكيين وعلماء الفيزياء النظرية يعتقدون, انطلاقا من محاولاتهم اليائسة لمعارضة الخلق, وقد أصاب أينشتاين الذعر عندما اكتشف أن معادلاته تنبيء, رغم أنفه, بأن الكون في حالة تمدد مستمر, ولذلك عمد الي إدخال معامل من عنده أطلق عليه اسم الثابت الكوني, ليلغي حقيقة تمدد الكون من أجل الادعاء بثباته واستقراره, ثم عاد ليعترف بأن تصرفه هذا كان أكبر خطأ علمي اقترفه في حياته.
وقد قام العالم الهولندي وليام دي سيتر
بنشر بحث في نفس السنة(1917 م) استنتج فيه تمدد الكون انطلاقا من النظرية النسبية ذاتها.
ومنذ ذلك التاريخ بدأ الاعتقاد في تمدد الكون يلقي القبول من أعداد كبيرة من العلماء, فقد أجبرت ملاحظات كل من سلايفر(1914 م), ودي سيتر(1917 م), وهبل ومساعده هيوماسون(1934 م) جميع الفلكيين الممارسين, وعددا من المشتغلين بالفيزياء النظرية, وفي مقدمتهم ألبرت أينشتاين, ومجموعة البحث العلمي بجامعة كمبردج, والمكونة من كل من هيرمان بونديوتوماس جولدوفريد هويل
والتي ظلت الي مشارف الخمسينيات من القرن العشرين تنادي بثبات الكون, أملي الاعتراف بحقيقة توسع الكون المدرك.
وسبحان الله الخالق الذي أنزل في محكم كتابه قبل أكثر من ألف وأربعمائة من السنين قوله الحق:
والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون( الذاريات:47).
وتشير هذه الآية الكريمة الي عدد من الحقائق الكونية التي لم تكن معروفة لأحد من الخلق, وقت تنزل القرآن الكريم, ولا لقرون متطاولة من بعد تنزله, منها: