إنَّ هذا الواقِع التعليمي والدراسي "الغريب" يفْرض استنفارًا عاجلاً، وتضافُرًا قويًّا لِجُهُود كافة الشركاء الاجتماعيين، والمهْتَمين بالشأن التربوي والاقتصادي للأمة؛ لإمعان النظر، وتقويم الوضْع، ووضع اليد على أصل الداء، وإعمال مبضع الجراحة لإزالة شأفته من خلال دراسةٍ جادَّة عميقة، متَخَصِّصَة متأنِّية، متعدِّدة الجوانب، مُنَوَّعة المنهَجِيَّات، متقابلة التقْييمات، متكامِلة الفرضيات، متَباينة التقْويمات، ثريَّة المشاهد، حافلة بالبدائل والاستدراكات؛ للخُرُوج بمنظومة متكامِلة، تتدَرَّجُ بجدية كافية لتأهيل وإقحام المدرسة في ميدان تنمية وإشاعة، وتمليك الأجيال القادمة أبجديات هذا الذكاء اللازم لتفتيق الأذهان والعقول والنفوس، عن عالم الأعمال الجالبة للمال، والثروة، والغنى.
قناعتان مُقَوِّضَتان:
لا تكتمل الصورة دون الإشارة إلى عامِلَيْن حاسِمَيْن، يقفان في وجْه أيَّة محاولةٍ جادَّة لإشاعة ثقافة الغِنى والاغتناء، وتحفيز كوامن طاقات الذَّكاء المالي لدى الأفراد والجماعات، يتَعَلَّق الأولُ بالثقافة الشعبيَّة الجماعية المَوْرُوثة والمشاعة بـ: أن طريقَ الغنى والرغبة في اليسار، وظهور بوادر أثر ذلك على مَن لَم يكن من وارثي الأموال، ولا سليلاً لبُيوتات الثراء - أمرٌ مَشْبوه، لا يُمكن تصوُّر حصولِه إلا مِن خلال أفانين الخداع، والغش، والرِّشوة، والاحتيال، والنصب، وبَيْع الذِّمَم.
إن معاني الغيرة والغبطة - وربما الحسَد - المبطنة والممزوجة بشيءٍ من الاحتقار والمؤاخَذة، والتشكيك والإشاعة، وتعميم التجريح، وربما حتى المكايدة، وحب الوقيعة بهؤلاء "الأغنياء الجُدُد" - هي بعْضُ ثِمار تلك الثقافة والنتائج الحتمية لِمِثْل هذه القناعة، التي لا تقبل ضمانًا ولا دليلاً على الأمانة والعفَّة، بل وحتى مجرد براءة الذمة، دون قلَّة ذات اليد، وضيق الحال، وشظَف العيش، وما أصدق ما أُثر عن أحد السلَف، وهو يوصي أحد أبنائِه، محذِّرًا من مثل هؤلاء: "إنهم لا يرضون منك إلا أن تكون فقيرًا مثلهم"!
العامل الثاني المتداخل والمتعاضد مع الأول: يَتَمَثَّل في قناعة متَّصلة بالدِّين والثقافة الشرعية المشاعَة أيضًا، (ثقافة العوام) مفادها: أنَّ الغنى وطلبه واستهدافه مُنافٍ للتقوى، وإيثار الآخرة عنِ الدنيا، إنَّ مُجَرَّد الكلام عن المال، وطُرُق تحصيله وصَرْفه وتنميته وتكثيره - يُعتبَر في ضَوْء هذه القناعة دليلاً صارخًا على رقَّة دين الرجُل، وشرهه وحبِّه الدنيا، وارتكاسًا كافيًا للتوَجُّس منه، وسقوطه من أعين المتدينين الزاهدين في الدنيا وأهلها.
لا شك أن هذا الأمر شاعَ مع موجات التديُّن المغْشوش، الوافدة علينا من ثقافات الزُّهد الأعجمي، الوارد من الشَّرق والغرب، لكن هذا لَم يَمْنَعْ مِن تَغَلْغُل هذه القناعة في أوساط أغلب الناس، وتَسَلُّلها إلى قناعاتهم الدِّينية العميقة، مِما كَرَّس ومَكَّن للعامل الأول أن يعملَ عمَله في نُفُوس الناس وواقعهم.
إن أيَّ جُهد إصلاحي في هذا السياق يَتَجاوَز ويغفل عن مُعالَجة هذَيْن العاملَيْن، لا يمكن في رأْينا أن يؤتِي ثماره، ولا أن يبلغَ مداه، أو يحقِّق شيئًا ذا بال.
مباضع الجراحة:
هل مِن سبيلٍ إلى استثمار ما توصَّلت إليه جُهُود الإنسان في علوم إدارة الأعمال والمال، وتثمين ما تملكه الأمةُ من طاقات بشرية شابَّة، هائلة ومتميزة، واستلهام مشاريع حُلُول لاستنبات واستثارة القدرات الكامنة لدى الأفراد والمجموعات، مما تَمَخضت عنه جهود المبدعين والرواد، من نماذجَ واعدةٍ على طريق ترويج وإشاعة مادة التربية الاستثمارية، والذكاء المالي، وإتاحة تعلُّم مبادئه وفنونه لأكبر عددٍ من المواطنين الراغبين في مَحْو أميَّتِهم في هذا المجال، والواعين بضَرُورة تطوير مهاراتهم في هذا المَيْدان؟
نزعم أنَّ هناك مجالاً للإجابة بالإيجاب، وإنَّ قدْحَ زناد الفِكْر الإبداعي الشجاع كفيلٌ بإقحام وإثارة الموضوعِ في دوائر الوعي والنقاش، وتقليب وجهات النظر لدى الأفراد والجماعات والمؤسسات، وكافة المعْنِيِّين في المجتمَع للتداوُل حول الموضوع.
والتفكير في مشروع منظومةٍ متكاملة تستهدف رعاية الاستعدادات الشابة والقابليات الواعِدة للتَّمَلُّك والتمَكُّن من هذا الذكاء المالي، ورفع مَرْدُوديته وثماره على المستوى الشخصي، وكذا الشأن العام.
من هنا، وفي ضوء ذلك، يُمكننا الإشارةُ إلى المفردات التالية:
1- بلْورة ومباشَرة عمَل عميق هادئ، ومتدَرج منوَّع، لا يكل ولا يمل لإزالة القناعات السلبية الخاطئة حول المال والاغتناء، وإرجاع الفَهْم الفرْدي والوعي الجماعي إلى المفهوم الصَّحيح المنضبط بالكتاب وصحيح السنَّة النبوية، في النظْرة إلى المال والثراء، الذي جعلتْ شريعتنا الغرَّاء مِن حفْظِه مقْصِدًا من مقاصدها الكبرى، إلى جانب حفْظ الدين والنفْس، والعقْل والعِرْض، واشترطتْ حصوله لوُجُوب تأدية ركنَيْن من أركانها الخمسة: الزكاة والحج، ولَم تَتَحَرَّج في وصْف صدَقة المؤمن إقراضًا حسنًا لله الغني، واعتبرتْ جهادَ المال بيعًا اشْتَراه الله مِنْ عبده، وتجارةً رابحة في الدنيا والآخرة، وسُمَّت الجنَّة - أسْمى مكان ومقام في الآخرة - سلعةَ الله الغالية، ووَصَف الحبيبُ الدنيا كلها بسوق قامتْ وانفضَّتْ، ربح فيها من ربح، وخسر فيها من خسر.
2- بلْوَرة وإشاعة ثَقافة المشْرُوعات المتوَسِّطة والصغيرة ومتناهية الصِّغَر، التي تدلُّ الدِّراسات المسحيَّة والاستشرافية على أنها ستكون المصدرَ الأول والأساس في توليد العمالة، وتحريك الاقتصاد.
3- ربْء صدْع منظومة التعليم والبرامج المدْرسية، ورتْق فتْقها بتوجيه الشباب إلى التفكير أثناء فترة الدراسة والتحصيل، بضرورة التزوُّد بكافة المستلْزَمات والتحضيرات اللازمة لتأسيس وإدارة مشاريع خاصة بهم قبيل التخرُّج، وبعده مباشرة، وتركيز الاهتمام حول ذلك، وجعل الوظيفة آخر اختيار وأدْناه، والانتقال بذلك من كونِه جزءًا منَ المشكلة - متَخرج لا بدَّ للمجتمع أن يبحثَ له عن منصب شغل - إلى أن يصبح جزءًا من الحل بمُحاولة تأسيس عمَل يفتح له - وربما لغَيْره - باب العمَل والنشاط.
يمكن الإشارة في هذا المقام إلى تَجْربة تركيا في جامعاتها التقنية؛ حيث تشترط إلى جانب الدراسة النظرية والتقنية مباشرَة مشروع الانطلاق في تأسيس عمل حر - تجاري، خدمي، إنتاجي، استثماري - ولا يُسلَّم الطالبُ شهادة مهندسٍ مثلاً، حتى يثبت أنه انطلق فعلاً في ميدان في التأسيس والمباشرة.
4- إطلاق المبادَرات، وتبنِّي التجارب، وتحفيز النشاطات الهادفة لصُنع أجواء مُوَاتية لتحريك واحتضان العقلية الاستثمارية والمقاولاتية، وتنْمية رُوح المخاطَرة المحسوبة والثِّقَة بالنَّفْس، والمُسَاهَمَة في تَرْقية المجتمع، وتوسيع خدماته ومنتوجاته الصالحة المُفِيدَة.
5- تنمية المهارات، وصقل القدرات، وتَمْكين الشباب منَ التَّقنيات والأدوات المسْتَحْدَثة واللازمة لتفعيل الذكاء المالي، والتربية الاستثمارية.
6- التَّفْكير الإبداعي صِنْو الذكاء المالي، ومنجمه الثري، التفكير الذي يتأبَّى على المألوف بقوَّة وحكمة، ويسبر أغوار المشكلات بعين جديدة، ويسيح في كون ومكنون الأفكار صائدًا شواردها، جامعًا شتاتها، غائصًا في أعماقها، مستلْهمًا أشباهها ونظائرها، يمتلك نظرًا جامعًا وتأثيرًا مَوْضعيًّا محددًا؛ تنمية هذا الفكر والتمَكُّن من ممارسته قَمين بتفتيق الأذهان عن طرُق متجَدِّدة ووسائل غير مسبوقة؛ لِجَمْع الثروة، واستثمار المال وتدويره في مشاريع وبرامج واعدة مفيدة ماليًّا واجتماعيًّا.
7- تنمية الحس الجماعي، والترغيب في التكافُل الاجتماعي، من خلال تَحْفيز الأغنياء وأهل اليسار نحو الجهاد المالي، وتحريك قوة المال في تنمية المجتمع.
إننا نكاد نجزم بأنَّ أكبر أنواع الجهاد المالي، وذروة سنامه، تكون أول ما تكون - وقبل أي شيء آخر - في رعاية وتدعيم كل المشاريع الخيرة الجادة - بدون منٍّ ولا أذى - الهادفة لتنمية الذكاء المالي والتربية الاستثمارية، لدى أكبر قطاع من الناس والشباب على الخصوص.
جميل أن تعطي أحدًا سمكة، فتسد جوعته، وتكفيه قوت يومه ذاك، لكن الأجمل أن تعلِّمَه صيد السمك، فتعطيه بذلك قوت عمره، وتذيقه حلاوة الأكل مِن كَسْب يدِه، والاعتزاز بخدمة أمته، لكن الأروع حقًّا أن تأخذَ بيده، وتشد أزره، وتكون حاديه في الطريق، حتى يُتقن فنّ صناعة صنارة الصيد، فيصنعها، ويبيعها التجار والصيادين، فيُفتح له بابٌ للغنى والثراء المشروع، فينفع نفسه وأمته، ضاربًا في الأرض، يبتغي فضلاً منَ الله ورضوانًا، ثم يدخل هو في الدَّوْرة مِن جديد، فيأخذ بِيَد آخر ليغدو غنيًّا هو الآخر، وهكذا دواليك.
إننا نميل في هذا المقام إلى استلهام ما أُثر عن سيدنا عمر - رضي الله عنه - من إعطاء الفُقراء من الزكاة ما يكفيهم، ويجعلهم مزكِّين في قابل قريب، وهذا لعَمْري من عبقريات عمر ونفائسه؛ ذلك أنَّ إعطاء هذا الفقير كفايته التي تؤهِّله حتى يكون مزكِّيًا في المستقبل، لا يعني أن هذا الانتقال في وضْع الفقير إلى تلك الحال سيكون أمرًا تلقائيًّا يَتَحَقَّق بِمُجَرَّد توفُّر المال، بل لا يمكن ذلك ما لم يكن هناك جو مساعد يدفع بهذا الفقير أن يفجر طاقاته في استثمار ذلك المال وتدويره، حتى يدر عليه إيرادًا كافيًا ينقله من كونِه وعاء من أوعية الزكاة إلى مزكٍّ مكتفٍ.
8- ضوابط ومحاذير ومضاعفات جانبية:
لعل أول ما يتبادر إلى الذهن - ونحن نَتَكَلَّم عنْ هذا الموضوع بمثل هذه الحماسة الملحوظة، وفرط التفاؤل، وحشد الذهن لتأكيد هذا الاتجاه في التعامل مع المال، والدعوة إلى الاغتناء، وفتح شهية الناس نحو شيءٍ حبُّه الشديد مركوزٌ في النفوس، محبوب إلى القلوب، مشوب بكثير من التهالك على الدنيا، والتنافُس المذموم فيها، على نحو ما ذكرناه صدر هذا المقال - كثيرٌ منَ المحاذير المشْروعة، والضوابط اللازمة لتأطير وترْشيد هذه الدعوة، والنأْي بها عن مُضاعفات جانبيَّة، قد تُحوِّل الدواءَ داءً، والترياق سُمًّا زعافًا، وتقلب ما توهَّمناه تأبِّيًا على أخطبوط العولمة، فيغدو سقوطًا في أحابيلها، ورضوخًا لمنطقها، وجريًا في ركابها.
يُمكننا جرْد بعضًا مِن معالِم تلك الضوابط في المفردات التالية:
1- لا مناص من التأكيد في هذا المقام على ضرورة مُواكَبة الإجراءات سالفة الذكر؛ لعملٍ تربوي تأهيلي عميق دائم، يعمل على غرْس روح التديُّن الصحيح في النفس، وإشاعة معاني الاستقامة على منْهَج الله - عز وعلا - وترسيخ أهمية التعبُّد، والتبَتُّل بين يدي الله الخالق - سبحانه - وتجريد القَصْد، وتصحيح النية في التعامل مع المال وأحواله.
2- تَوْسيع وتَيْسير وحسن صياغة ونشر الفقه الشرعي في شؤون المعاملات المالية، وتعميم استيعاب فلسفة المال في الإسلام، وخصوصية التعاطي معه، وكيف أن الإنسان إنْ هو إلا مستخلَفٌ لله في مال الله، ويتحمل مسؤولية شرعية كبيرة في حُسْن التعامل معه، وحُسن تدبيره.
3- بلْورة رؤية إسلامية أصيلة معاصِرة، تُعنىَ بشُؤون المال والأعمال، وتساهِم في طرْح بدائل لما تُعاني منه البشريَّة في هذا المجال، وما خبَر الأزْمة المالية والاقتصادية الراهنة عنَّا بخافٍ ولا بعيد؛ حيث تتلفَّتُ البشرية بهلع، تبحث عن مخرج، وتتنادَى لتجريب كلِّ شيء سوى منهج الله، وحتى لو اضطرت إليه، سمَّته بغير مسماه، فغدونا نسمع عن قرض ربوي بنسبة صفر بالمائة.