الموضوع: الذكاء المالي
عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 3  ]
قديم 2009-10-10, 6:25 PM
@@بدر البدور@@
عضو متميز بالمنتدى
رقم العضوية : 88514
تاريخ التسجيل : 26 - 9 - 2009
عدد المشاركات : 1,135

غير متواجد
 
افتراضي
إنَّ تَوْسيع دائرة الفَهْم، ومناقَشة القناعات، ومُطارحة الأفكار هي - في نظرنا - المدْخلُ الصحيح، والمرحَلة المتقَدِّمة اللازِمة لتناوُل مثل هذا الموضوع، ومُحاولة إيجاد ثغْرة في هذا الطريق المسْدود، وإعمال شرْخٍ في حلقات الدورة الخبيثة المذكورةِ سابقًا؛ دورة ازدياد الغنيِّ غنًى على حساب زيادة فقْر الفقير.

إرثٌ مكتسب:
ما أشبه إرثًا باكتساب! وما أقرب ذاتيًّا باجتماعي! وما أكثر تداخُل بيولوجيٍّ ببيئي في موضوع مثْل تشكُّل وتنمية وتواصُل الذكاء المالي، بين الأفراد والجماعات والأجيال.

لقد أثْمَرَت الدراسات الكثيرةُ والطويلة والممْتَدَّة - فيما أثْمَرَتْ - مدرسةً، تَتَبَّعَتْ كيف تنشأ مفردات هذا الذكاء المالي، وتبَيَّن أنَّ البيت والوالدين والاحتكاك في ميدان العمَل - هي أكبر مصادر هذا التشكُّل والتواصُل.

تَظهر الاستعداداتُ، ويسهل بُروزُها، في هذه الأوساط الثلاثة: (البيت، الوالدين، العمل)، تَتَحَدَّد الاهتمامات، وتُشجَّع الميول، وتَتَقَوَّى الرغبات، وتُنمَّى القدرات، وتُصقل المواهِب، وتُكتسب المهارات، في مثل هذه الأجواء الراعية، إذا صادفتْ تجاوُبًا وتفاعُلاً، من طرف المَعْنِيِّ (ابنًا، مُلازِمًا، زميلاً، أجيرًا).

إنه ذكاء مَوْروث، أو اجتماعيٌّ، أو بيولوجي، باعتبار ضِيق الدائرة، التي ينشَأ فيها هذا الذكاءُ ويَبْرُز، فكأنَّ دور الوالدين، وبيئة البيت أو العمل، ينْحصر في استثارة شيء مَوْجُود سلَفًا في نفْس المتلقِّي أو المستفيد، ويبقى التحْفيزُ، والرِّعاية، والتَّوْجيه، هو غاية ما يُمكن أن يفعلَه المحيط.

لكن باعتبار كِبَر دَوْر المتدرِّب والمدرِّب، الحاسِمَيْن في بَلْوَرَة وارتياد آفاق ذلكم الذكاء، يُمكن النظَر إليه أنه اكتساب، ورغبة، ومهارة، قابلة للتعلُّم والتعليم، يظهر ذلك واضحًا في سِيَر الناجحين اللامِعِين في هذا الميدان، وما ضرَبُوه من أمثلة مثيرةٍ في التأبِّي على واقعِهِمْ، واستلهام طُمُوحهم في شقِّ طريقهم نحو القمَم، مهما كانتْ صعوبةُ ظروفهم، بل وما ضَرَبَهُ مَنْ وراءهم من الرُّعاة، والمشجِّعين، والمرافقين من دَعْم، وسَنَد، وكيف كان دَوْرُ البيئة حاسمًا في جميع مراحِل تَشَكُّل وتجلِّي هذا الذكاء.

إن مساحة ودور البيئة - في نظرنا - في بلْورة واستنبات، وتنمية وتفعيل وتطوير، هذا النوع من الذكاء - كبيران، بالقَدْر الذي يسمح لنا بشيءٍ من التفاؤل المشروع، بإمكانية التعْويل على جُهُود التوعية والتأهيل، والقدْرة على تأسيس منظومات برامج مُتَنَوِّعة، تستهدف تعليم وتدْريب أكبر قدْر منَ المواطنين، والشباب بالخصوص، الراغبين في الاستفادة مِن هذا الذكاء، وجَني ثماره.

المدرسة لا تجعلك غنيًّا يا وَلَدي:
"جِد واجتهدْ تَحصُل على نتائج جيدة، وعلامات ممتازة، تُؤَهِّلك لدخول كليات مَرْموقة، تضمن لك شهادةً معتَبَرةً، تفتكّ بها وظيفة سامية، في هذا الزمن الصعب: هذا مقال ولسان حال غالب الآباء والأمَّهات، وهم يوجِّهون، وينْصَحُون فلذات أكبادهم، ويحثونهم للتحصيل، والمواظَبة على الدروس، والتفَوُّق في مسارهم الدراسي.

هذه المقولة تُلخِّص - بصِدْقٍ كبيرٍ - فلْسَفَة ورسالة المدرسة الحديثة، التي تكاد تنْحصر في أحْسَن حالاتها ومآلاتها في تخريج أفواجٍ من حمَلَة الشهادات سنويًّا؛ لتُضاف إلى الجماهير الباحِثة عن فُرْصة توظيف في سوق عمَل، أقل ما يُقال عنها: إنها في أزمة هيكليَّة حقيقيَّةٍ، مما يزيد الطينة بِِلَّة ونَقْعًا.

عندنا في البلاد العربية قلَّةُ تواؤُم الشهادات الممنوحة مع مُتطلبات سُوق العمَل، فتَغْدُو المأْسَاةُ ماثلَةً في المزيد منَ الطلَب على وظائف وفُرَص عمل شحيحة، أكثر فأكثر، وتتوالَدُ البطالَةُ سرَطانيًّا من الآلاف إلى الملايين، بل وعشرات الملايين العاطلين.

إنه التأهيلُ للتوظيف والعمَل عند الآخر؛ سواء كان دائرةً حكوميةً، أو مؤسسة أهليَّة، أو شركة أجنبية، أو غيرها، إنها نفسيَّة الأجير، وعقليَّة الدَّوام، وتسلُّم الراتب دَوْريًّا، الذي يُسْتَهْلَكُ مُعْظمُه قبل قُدُومه، وانتظار التَّرقيات، حتى الإحالة على التقاعُد والمعاش، هي المآلاتُ التي يصبو ويؤُول إليها كلُّ محظوظٍ من هؤلاء المتخرِّجين.

وتدور الأفلاك، وتنقضي الأزمنة، ليجدَ هؤلاءِ أنفسهم آباءً ينْصَحُون، ويُوَجِّهون لأبنائِهم نفس النصيحة والتوجيه الذي تلقَّوه مِن آبائِهم وأمهاتهم: الجِد والاجتهاد، فالعلاماتُ والمجاميع، فالكليات والشهادات، فالوظيفة والاستهلاك، فالتقاعُد والمعاشات، وهكذا دواليك من جيلٍ إلى جيل، المدْرَسة إذًا لا تؤهِّل للغِنى، وتكوين الثروة، وليس هذا مِن واجبها، ولا مِن رسالتها، على ما يبدُو؛ إنها تُخرِّج - في أحسن حالاتِها - موظفينَ أُجَراء بنفسيَّة وعقلية الموظَّف الأجير، الذي يبيع وقْتَه وجهده ومهارته لأرباب الأعمال، مقابل راتبٍ شهريٍّ مُعين، وشيء منَ العلاوات، والرِّعاية الصحية والاجتماعية، حتى يُحال على التقاعُد.

الوظيفةُ - كما هو معْرُوف - هي مِن أضيق أبواب الرِّزْق، ومن النادر الشاذِّ حقًّا ما ترى مُوَظَّفًا أمينًا اغتنى، وحَسُنَت أحوالُه المالية، بصفةٍ مَحْسوسة، مِن مجرَّد إيرادات راتبِه، بل الشائع والمعلوم منَ الواقع ضرورة مرارة الشَّكْوى من غَلاء المعيشة، وقلة ذات اليد التي تصنع يَوْمِيَّات الموظفين والأُجَراء.

إن شِبْه الغياب الكاملِ للحدِّ الأدنى مِن تعليم وتعلُّم المهارات الأساسيَّة في التعامُل مع المال، تحصيلاً وصرفًا، وتوفيرًا واستثمارًا، وتنميةً ورعاية، مِن برامج ومناهج المدارس عمومًا - يُعتبَر من المفارقات الكبرى، والثغرات الواسعة في واقع التعليم المعاصر.

إنَّ وُجُودَ بعْضِ الاختصاصات المُحاسبيَّة، التي تَتَطَرَّق إلى المال وأحواله، واستحداث بعض الفُرُوع والأقسام، وحتى بعض الكليَّات المهتمَّة بفُنُون إدارة المال والأعمال في مختلف الجامعات، ومؤسسات التكوين - لا تكاد تفِي بالغرَض، ولا تسدُّ هذا الخَلَل؛ ذلك أنَّ الاتجاه التعليمي العامَّ - حتى في تلك التخصُّصات والكليات - لَم يسْتَطِع الانفكاك - إلا ما نَدَر - من الفلسفة الكبرى الطاغية التي تَبَنَّاها، وشبَّ وشَابَ عليها التعليمُ، والمتَمَثِّلة في استهداف تخْريج موظفين قبل كل شيء، فترى الطلاب الحائزين على شهادات كبْرى في إدارة الأعمال مثلاً، يتباهون - بدل التفكير في الدُّخول في مشاريع خاصَّةٍ بهم - أنهم لَم ولن يَجِدُوا صعوبةً في إيجاد وظيفة مغرية مُدِرَّة.

مِن تداعيات هذا الخَلَل اللافت أنَّ عامة المتخرِّجين المتوجِّهين إلى ميادين الأعمال الحرة، تجدهم في الغالب ممن يَئِس واستَيْئَس من إمكانية التوَظُّف، واضْطُرَّ إلى هذا الاتجاه؛ هرَبًا من البطالة، وليس بناء على قرار واعٍ، واختيار مسؤول، واستِعْداد كافٍ، ورغبة متمَكِّنة، مُدركة لأهمية وحيويَّة هذا الميدان وأبعاده ومُتطلباته، فلا عجبَ إذًا أن تكونَ النتائجُ هزيلةً ضحْلة، ونِسَب الفشَل والتعثُّر عالية، مما يعطي انطباعًا إضافيًّا لدى الشباب بصعوبةِ التعاطي مع هذا الميدان، وخُطُورة خَوض غِمَاره، وهذا بدَوْره يُكرِّس القناعات السائدة، ويُشوِّش الصورة أكثر، ويقدِّم مَزِيدًا منَ التبْرير والمشروعية والواقعية؛ لرُجُوع الفُلُول المحُبَطَة إلى جُمُوع وجماهير الباحثين؛ بل والمنتظرين في طوابير عنْ وظيفةٍ مُنقِذةٍ، واعِدة بأمْنٍ واستقرار مهنيٍّ ومالي مَوْهُوم.


توقيع @@بدر البدور@@