12- تعظيم القبور واتخاذها مساجدَ، والصلاة إليها، وإضاءَتُها وإيقاد السُّرج عليها، والبناء عليها والكتابة عليها، وتعليتها ورفعها، واتخاذها عِيدًا: كلُّ ذلك منافذُ إلى الشِّرْك، بل الشرك الأكبر؛ وقد ورد عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - جملةُ أحاديثَ في هذا الباب؛ منها:
• عن عائشةَ وابن عباس قالاَ: لَمَّا نُزِل برسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؛ أي: في حالة الاحتضار - طَفِق يطرح خميصةً له على وجهه، فإذا اغتَمَّ كشَفَها، فقال وهو كذلك: ((لَعْنةُ الله على اليهود والنصارى، اتَّخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ))، يحذر ممَّا فعلوا؛ متفق عليه.
• وفي الحديث الصحيح: ((لا تجلسوا على القبورِ، ولا تُصلُّوا إليها))؛ رواه مسلم.
• وعن جابر قال: ((نَهى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يُجصَّص القَبرُ، وأن يُقعدَ عليه، وأن يُبنَى عليه"؛ رواه مسلم.
• وعن علي: "أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – بَعثَه، وأمره ألاَّ يَدعَ قبرًا مُشرِفًا إلاَّ سوَّاه"؛ رواه مسلم.
• وعن أبي هريرة مرفوعًا: ((لا تجعلوا بيوتَكم قبورًا، ولا تجعلوا قَبري عِيدًا، وصَلُّوا عليَّ، فإنَّ صلاتَكم تبلغُني حيث كنتم))؛ رواه أبو داود.
13- التبرُّك بالأشجار والأحجار: وذلك أنَّ أصنام العرب الكُبرى كانتْ من الأحجار والصُّخور، وكانوا يتبرَّكون بها؛ ولذا حَذَّر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - من التبرُّك بمثل هذه الأشياء؛ فعن أبي واقدٍ الليثي، قال: خرجْنا مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى حُنين، ونحن حديثو عهْد بكفر، وللمشركين سِدْرَة - شجرة - يَعكفونَ عندها، ويَنوطون بها أسلحتَهم، يقال لها: ذات أنواط، فمرَرْنا بسِدْرة، فقلنا: يا رسولَ الله، اجعلْ لنا ذاتَ أنواط كما لهم ذاتُ أنواط، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الله أكبر، إنَّها السُّنن، قلتُم كما قال بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهة، قال: إنَّكم قوم تجهلون، لتَركبُنَّ سننَ مَن كان قبلكم))؛ رواه الترمذي وصحَّحه.
فقد نَهى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن مِثل هذا العمل؛ لأنَّه من الشِّرْك الأصغر، ومنفذ إلى الشِّرْك الأكبر، وقد قطع أميرُ المؤمنين الفاروق عمرُ الشجرةَ التي كانت عندها بيعةُ الرِّضوان في الحديبية؛ وذلك لَمَّا رأى نفرًا من المسلمين يُعظِّمونها ويتبرَّكون بها.
14- الشِّرْك الذي يقع في الألفاظ والأسماء: كذلك يَسدُّ الإسلامُ المنافذَ إلى الشِّرك، حتى مما قد يمرُّ على لسان الإنسان من الكلام والألفاظ التي تُوهِم الشِّرك مثل: "ما شاء الله وشِئتَ"؛ فعن حذيفةَ عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تقولوا: ما شاء الله وشاءَ فلان، ولكن قولوا: ما شاء الله، ثم شاء فلان))؛ رواه أبو داود بسند صحيح.
ومن ذلك التسمِّي بأسماء الله - تعالى - أو بما لا يَنبغي إلاَّ لله، عن أبي شُريح أنَّه كان يُكنى أبا الحَكم، فقال له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله هو الحَكَم، وإليه الحُكْم))؛ رواه أبو داود، ثم كناه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بولدِه شُرَيح أكبرِ أولاده.
ومن ذلك التسمِّي بملك الأملاك؛ لحديث أبي هريرة عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ أخنعَ اسم عندَ الله - تعالى - رجلٌ تسمَّى ملكَ الأملاك، لا مالكَ إلاَّ الله))؛ رواه البخاري ومسلم.
ومن ذلك من يتسمَّى باسمٍ مُعبَّد لغير الله، كمَن يتسمَّى عبدَ الكعبة، أو عبدَ النبي، أو عبد المسيح.
ومن ذلك سبُّ الدَّهْر عندَ الشدائد والمِحَن؛ لأنَّ الله هو مُقلِّبُه؛ ولذا رُوي في الحديث الصحيح: ((قال الله - تعالى -: يُؤذِيني ابنُ آدم، يسبُّ الدهرَ، وأنا الدهر أُقلِّب اللَّيلَ والنهار))؛ رواه البخاري ومسلم.
وهكذا يتبيَّن أنَّ الشرك بالله - تعالى - يتناقض تمامًا مع العبودية الحقَّة لله - تبارك وتعالى - ولذا حذَّر منه الإسلام، وحَمَل عليه القرآن، وحذَّر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - من الوقوع في أدنى شيء منه.
رابعًا: صلة الرحم:
ذَكَر النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ صلة الرحم من الأعمال التي تُدخِل صاحبَها الجنة، وصلةُ الرحم من الأمور التي اعتنَى بها الإسلام، وشدَّد عليها القرآن، وأوصتْ بها السنة المطهَّرة.
قال – تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1].
فذَكَر الحقُّ - جلَّ وعلا - الأرحامَ - وهي منصوبةٌ على الاختصاص - أي: وأخصُّ الأرحامَ بالوصية.
والقول الآخر في تفسير الآية: واتقوا الأرحامَ أن تقطعوها، فتَهلِكوا بسبب قطعكم لها، ويقول - جلَّ وعلا -: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22]، فقَطْع الأرحام جاء مقرونًا في الآية بالإفساد في الأرْض للدلالة على شناعته عندَ الله - تعالى - كما جاء نتيجةً لهذا الإفساد، وللتولِّي عن الحقِّ وتركه قولاً أو عملاً.
وكذلك بيَّنت السُّنَّة عِظمَ حقِّ الرحم؛ روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله - تعالى - خَلَق الخَلْق، حتى إذا فرغَ منهم، قامتِ الرَّحم فقالت: هذا مقامُ العائذ بك مِن القطيعة؟ قال: نعم، أَمَا تَرْضَينَ أن أَصِلَ مَن وصلك، وأقطعَ مَن قَطعَك، قالت: بَلى))؛ رواه الشيخان.
وأخرج الإمام أحمد بإسناد صحيح: ((إنَّ مِن أَرْبَى الرِّبا الاستطالةَ بغير حق، وإنَّ هذه الرَّحِم شجنةٌ من الرحمن، فمَن قَطعَها حَرَّم الله عليه الجَنَّة))؛ رواه أحمد بإسناد صحيح.
والشِّجْنة - بكسر الشين وضمها - القَرابة المشتبكة اشتباكَ العُروق.
روى البزَّار: ((الرَّحِمُ حَجَنة متسكة بالعَرْش، تَكلَّم بلسان ذَلْق: اللهمَّ صِلْ مَن وصلني، واقطع مَن قطعني، فيقول الله – تعالى -: أنا الرحمن، أنا الرحيم، فإنِّي شققتُ الرحم مِنَ اسمي، فمَن وصَلَها وصلتُه، ومَن بَتَكَها بتَكْتُه))؛ رواه البزار بإسناد حسن.
والحَجَنة - بفتح الحاء والجيم - صنارة المغزل التي يُعلَّق بها الخيط، ثم يفتل الغزل، والرَّحِم يُراد بها الأقارب، وكلُّ مَن بينه وبين الإنسان نَسَبٌ، وخصوصًا من جهة الأم.
وصِلة الرَّحِم سبب من أسباب سَعَة الرِّزْق وبسطته، ومِن أسباب حُسْن الذِّكْر والأحدوثة بعدَ الموت؛ روى البخاري عن أبي هريرة: ((مَن سرَّه أن يُبسطَ في رِزْقه، وأن يُنسأَ له في أثره، فلْيَصلْ رَحِمَه))؛ رواه البخاري.
وتوعَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم - قاطِعَ الرحم بعدم دخول الجنَّة؛ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يَدخلُ الجنةَ قاطعٌ))؛ أي: قاطع رحم؛ رواه الشيخان.
وليس مَن يَصِل الرحم هو من يَردُّ على الصِّلة بمثلها، فذلك من المعروف بين الناس، إنَّما واصل الرَّحِم هو مَن يصل رحمه، حتى وإن كانوا له من القاطعين؛ فعن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ليس الواصلُ بالمكافئ، ولكن الواصل مَن إذا قُطِعت رَحِمُه وَصَلَها))؛ رواه البخاري، ويروي أبو هريرة أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله: إنَّ لي قرابةً أَصِلُهم ويقطعونني، وأُحسِن إليهم ويُسيئون إليَّ، وأحْلُم عنهم ويجهلون عليَّ، قال: ((لئن كنتَ كما قلتَ فكأنَّما تسفهم الملَّ، ولن يزالَ معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دُمتَ على ذلك))؛ رواه مسلم.
وفي مجال المعاملات يجعل الإسلامُ الأرحامَ أَوْلَى بالبرِّ والصِّلة والصدقة؛ قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((الصدقةُ على المسكين صدقةٌ، وعلى الرَّحِم ثِنتان: صَدقةٌ، وصِلة))؛ أخرجه النسائي.
ــــــــــــــــــ
[1] "المصطلحات الأربعة في القرآن"؛ أبو الأعلى المودودي، (ص:97).
[2] "تهذيب مدارج السالكين"؛ عبدالمنعم صالح العلي العزي، (ص:71).