بعد أن صعقوا جميعًا أصبح سيدنا موسى في حرج، لأنه انتقي السبعين رجلًا فإذا عاد لبني إسرائيل بدونهم قد يتهمونه أو يتعرض لأشياءٍ رهيبة، ويالصبر سيدنا موسى! وكم كانت حساسيته كبيرة لأخذه سبعين رجلًا ليعتذروا إلى الله ! كما أنه لا يريد أن يُحرج أمام بني إسرائيل فدعا الله: {... رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء ... } (الأعراف:155) وفتنتك معناها اختبارك وليس أن الله فتنهم، فالله الكريم! {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (البقرة:56)، ألهذا القدر موسى غالٍ عند الله! وإذا لم يوجد غير هذا الدليل على حُب الله لسيدنا موسى في قصته كلها لكان يكفي، فالله لم يشأ أن يجعله في حرج، رغم أنهم لا يستحقون.
ويكمل معهم سيدنا موسى، وبعد أن عاقبهم الله بشدةٍ وحزم، سنرى نوع آخر من إصلاح الأخطاء، وهنا ليتعلم الآباء كيف يتعاملون مع أبنائهم عند الخطأ فتارة يكون بالشدة والحزم وتارة بالعطاء، وسيعالج الله أخطاء بني إسرائيل هنا بالحياة العملية وليس بالدروس، فحياتهم كانت غير مستقرة والمكان الذي هم فيه بدون طعام ولا شراب ولا ظل، فذهبوا إلى سيدنا موسى وأخبروه أنهم يريدون أن يشربوا في هذا التيه ولا يجدون ماءً وسيموتون عطشًا، فجمعهم سيدنا موسى ووقف ليدعو صلاة الاستسقاء: يا رب اسقنا، يا رب اسقنا، يا رب اسقنا، وطوال دعاء سيدنا موسى لا ينزل المطر، فقال موسى: يا رب عودتني الإجابة، فأوحى الله إليه: يا موسى لن ينزلَ المطر، بينكم عبدٌ يعصيني منذ أربعين عامًا، لن ينزل المطر يا موسى بمعصية هذا العبد، أرأيتم شؤم المعصية! فليتب الذي يعصي منذ سنوات اليوم من أجل هذه القصة، فوقف سيدنا موسى في بني إسرائيل وقال: ( أقسمت عليكم بيننا عبدٌ يعصي الله منذ أربعين سنة فبشؤم معصيته مُنعنا المطر من السماء، أمرني الله أن يخرج من بيننا لينزل المطر)، فعرف هذا العبد نفسه فقال: "يا رب أنا الآن إذا خرجت فُضحت وإذا بقيت لم ينزل المطر، ماذا أفعل؟ يا رب أتوب إليك وأُعاهدك ألا أُذنب أبدًا"، فنزل المطر من السماء فقال موسى: ( يا رب نزل المطر ولم يخرج أحد )، فأوحى الله إليه: يا موسى نزل المطر لفرحتي بتوبة عبدي الذي عصاني منذ أربعين سنة!، رب كريم رحيم! أُنزل المطر من أجل هذا العبد وليس من أجل الباقيين!
فيا أصحاب البيوت إذا كان لديكم ابن عاصٍ ورزقكم قليل، ويا شاب ويا فتاة ربما لا ينزل بشؤم معصيتك، لماذا لا تتوب الآن وترى كيف سيأتي لك كل خير، وعندما نزل المطر قال سيدنا موسى: (يا رب دُلَني عليه لأفرح به)، فقال له الله : (( يا موسى يعصاني أربعين سنة أيوم يتوب إليّ أفضحه؟!))، فيا مستورين لسنواتٍ عديدة عودوا إلى الله قبل أن تُفضحوا، ويا كل مستور هو يحبك لكنه يريدك أن تعود إليه، فبالله عليكم لنتُب اليوم، ودروس اليوم كثيرةٌ جدًا فبالله عليكم اكتبوها وعلقوها في بيوتكم وهذا ما تعلمناه من موسى في التيه.
اليقين في الله:
وشرب بنو إسرائيل لكن نفد المطر فكيف سيشربون! فبدأ موسى يدعو مرةً أخرى ويستسقي ويدعو الله بالمطر، فلم ينزل المطر، وسيدنا موسى منتظر مطرًا ينزل من السماء لكن الله أوحى إليه أن يذهب لمكانٍ آخر ويضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتي عشرة عينًا، وموسى ضرب بعصاه البحر فأصبح صلبًا أما هنا فالعكس! وأصبح لكل سِبط عينٌ يشربون منه، والمطر الذي كان سينزل أقل من الماء الذي انفجر من الصخر! آمنت بالله ولا إله إلا الله! فسيدنا موسى منتظر المطر من السماء فأخرج الله له المطر من قلب الصخر! وبضربة واحدة يتحول البحر لصخر فيعبروا عليه! وضربة واحدة للصخر تحوله لماء فيشربون منه!
لا إله إلا الله واليقين في الله! فسبحان من رفع الجبل! سبحان من صعقهم ثم أفاقهم وأيقظهم بعدما أماتهم! سبحان من أخرج الماء من قلب الصخر! سبحان من أخرج الإيمان (موسى) من قلب بيت الكُفر (فرعون)، سبحان من يخرج الحي من الميت! سبحانه القادر! وكلها أشياء وعكسها غير منطقية لكي يعرِّفك أن كلَّ الكون بيديه سبحانه وتعالى، فالجبل يُرفع ضد قانون الجاذبية، والسكين لا تذبح إسماعيل ضد نواميس الكون، النار التي تحرق تتحول بردًا وسلامًا على إبراهيم، الحوت الذي يبلع بلع يونس حتى أنزله على الشاطئ مثل السفينة، من الملك؟! من المهيمن؟! من الذي بيده الجبال والصخر والماء! اليقين في الله، فافعلوا الحق من أجل اليقين ولا تخشوا شيئًا. بنو إسرائيل كانوا جبناء وخائفين وخافوا من دخول الأرض المقدسة (فلسطين) لأنهم جبناء وليس لديهم يقين في الله، ودرس اليوم هو اليقين في الله وهو درسٌ كبيرٌ جدًا.
وعيون موسى ليست مكانًا واحدًا بل كلما انتقل موسى بقومه لمكان فهناك عيون، ولم يشرب الصخر مرة واحدة بل أكثر من مرة، فمرة ضرب الصخر في سيناء وهناك عيون موسى في سيناء، وهناك عيون موسى بجانب جبل نيبو الذي سيدخل منه سيدنا موسى إلى القدس وهذه أماكن المعجزة واليقين في الله، وأقسمت على كل من عرف عيون موسى اليوم إياك أن تخاف على رزقك بعد اليقين في الله.
الرضا عن الله:
وفي أحد عيون موسى يأتي الماء من قلب الصخر، فالذي يخرج رزقك من قلب الصخر كيف تخاف على رزقك بعدها! وأين اليقين في الله! تخيل أن الماء الخارج من عيون موسى من ثلاثة آلاف عامٍ، وكان أول تدريب لبني إسرائيل بهذه العيون على اليقين، ولكن لازال بني إسرائيل يريدون أن يأكلوا، وهنا بدأ المن والسلوى، والمن هو سائلٌ يشبه العسل غير موجود في الدنيا فإذا أكلته وحده يكون سائل وإذا وضعته على أشياء أخرى يكون طعام، والسلوى يشبه طائر السِّمان، وهم في كل يوم صباحًا يستيقظون ليجدوا طيور السمان المهاجرة تأتي حتى أماكن المياه الخاصة ببني إسرائيل فيأكلون ثم يجدون المن ينزل من السماء فيشربون، وهم قد تعلموا اليقين في الله، لكن المن والسلوى يأتي يوم ويوم على قدر عددهم تمامًا ولا يستطيعون تخزينها وإلا فسدت، فلماذا! يريد الله أن يعلمهم الرضا، دروس متتالية لكن هذه المرة بالعطاء، ودروس الشدة مثل الجبل والصاعقة ثم دروس العطاء.
بنو إسرائيل يحتاجون إلى إصلاحٍ كثير، وليس بالمواعظ والكلام والدروس النظرية بل بالتدريب العملي مدى الحياة فهذا الذي يُعلِّم اليقين، والمن والسلوى يعلمان الرضا، فمن أرسل لك رزق اليوم سيرسل لك رزق غدٍ، وإذا كانت روحك باليوم لماذا تريد أن يكون رزقك بالسنة؟ فروحك باليومية ورزقك باليومية فارضَ عن الله، والله تعالى يقول لك إذا كان عندك قوت يومك فافرح.
{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} (البقرة:60)، أرأيت هذه الآية وهذه المعجزة! أوثقت في الله وراضٍ عنه؟ أرأيت الدروس التي تعلمناها اليوم؟ ماذا بقى؟ حرارة الجو لأنها صحراء مكشوفة، ورغم هذا فوجئنا ونحن الآن في يوليو ونعاني من شدة الحر بوجود غمام في السماء وقمنا بتصويره، وهذا هو العطاء الثالث: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} (البقرة:57) فأعطاهم الله الماء لكل قبيلة عين ماء ولكل قبيلة عدد من المن والسلوى ولكل قبيلة سحابة تظللها.
وظلل الله عليهم بالغمام لأنه رحيمٌ وهم قلوبهم قاسية، والقلوب القاسية تُعَالَج بظلالٍ من الغمام، وعدم التوكل واليقين في الله يُعالَج بماء يخرج من قلب الحجر، وعدم الرضا وزيادة الجشع يعالج بالمن والسلوى يأتيهم كل يوم على عددهم، فعلاج الله لعباده كما هو بالشدة فهو بالعطاء، ربٌّ رحيمٌ كريمٌ ودود علمهم اليقين والرضا، علمهم الرحمة وعدم القسوة بالعطاء، والعين الأولى كان الماء يخرج من وسط الصخر أما الثانية فالماء ينزل من الجبل كأنه مطر، فكما هناك مطر من السماء فهناك مطر ينزله الله من الصخر! لا إله إلا الله! وكأن الله تعالى يقول انظروا معي لتنوع عطائي وبذلي، أتحب الله بعد كل هذا أم لا؟ قل لا إله إلا الله بكل قلبك وبكل يقين وثقة، قل بكل عزمك آمنت بالله، وعاتب نفسك أنك لم تثق في عطائه، وعاتب نفسك إن كذبت أو غششت أو سرقت أو ارتشيت أو تركت مظلومين لخوفك على رزقك، بعد أن عرفت الآن أن شلالًا من الماء يخرج من قلب الجبل، لا إله إلا الله اللهم لك الحمد كله أن عرفتنا على عظمتك وعلى ما حدث مع بني إسرائيل لكي نفيق حين نعرف ما رأوه من معجزات.
فنحن أُمة مُحمدٍ أُمة الإيمان بالغيب ولذة الإيمان بالغيب، ومع ذلك ترك لنا الله اثنين أو ثلاث عيون لنراها بأعيننا، فما شكل حبك لله الآن؟ وهل ستقول له أنك تحبه من قلبك؟ وإذا أردت أن تسجد له فلتسجد له الآن وقل له لن أشك في عطائك بعد اليوم، ولن أكون ماديًا بعد اليوم ولن أجترئ عليك بعد اليوم، ولن آخذ أمرًا وأترك أمرًا، قولي له سأرتدي اليوم الحجاب، قل له سأطيعك ولن أفعل الحرام، اسجد بين يديه وقل له رأيت ملكك وعظمتك، اشعر بحبه كما نشعر الآن، وأنا أكلمك من قلبي لأني أرى آياتًا ومعجزاتًا من الله سبحانه وتعالى، أما العين الثالثة فمنظرها عجيب وسبحان الذي جعل لكل من الاثنتى عشرة سبط عين بها نفس كمية الماء.
أحبوا الله من كل قلوبكم وهذه أول كلمة قالها النبي وهو يدخل المدينة: ((أيها الناس أحبوا الله من كل قلوبكم، أحبوا الله لما يغزوكم به من النعم)) فقولوا رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولًا، وانظروا لآيات الله ومعجزات الله وتعلقوا بها، اللهم لك الحمد أن عرفنا عيون موسى والجبال التي تُنزل مطرًا، حين ضرب العصا الصخر تفجر منه هذا الماء، لا إله إلا الله يقيننا بالله توكلنا على الله ولم نعُد خائفين من الدنيا بما عليها بل واثقين من عظمة الله وقدرة الله، فالله لن يضيعنا ولن يضيعك وللأرامل والمطلقات والضعفاء ويا كل من تعاني في هذه الدنيا، اجعل توكلك على الله وثق به، فنحن الآن في مشهد تاريخي فتوكلوا على الله واحيوا من أجل الله وربنا ينصرنا ويفتح علينا.
التيه دروسٌ رائعة وغير عادية، انظر حلم الله عليهم على الرغم مما فعلوا، وغفرانه لهم، ونحن نحتاج أن نحيا مع القرآن وسورة البقرة، اكتبوا دروس اليوم وضعوها في بيوتكم وأسمعوها لكل الناس، اسجدوا له وقولوا له يا رب يقيني بك عظيمٌ ولن أُضيع حقًا بعد اليوم، ولن أخشى سواك بعد اليوم، ولن أقبل أن أُظلم أو أرى مظلومًا بعد اليوم، بعد كل هذا اليقين والحب، اجلسوا مع أنفسكم واحضروا ورقة وقلم واكتبوا نِعم الله عليكم، وفي صفحة أخرى اكتبوا ذنوبكم، وضعوهم أمام بعضهم وابكوا واعتذروا واستغفروا.
ملخص الدروس المستفادة:
1. استسلم لأوامر الله.
2. الإيمان بالغيب.
3. احذر المجاهرة بالمعصية.
4. اليقين في الله.
5. الرضا عن الله.
قام بتحريرها: قافلة تفريغ الصوتيات – دار الترجمة
Amrkhaled.net© جميع حقوق النشر محفوظة