سأحكي لك أيها الشاب وكلي حسرة...
عن أُناس كان صيام أحدهم صيامًا بكل معاني الصيام... أُناس كانوا يعلمون العلم ويعملون به، كانوا يعلمون قول النبي الأمين: "إن الصيام جُنة.......".
كانوا يعلمون قوله: "فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب ولا يفسق؛ فإن سابه أحد فليقل إني امرؤ صائم".
أُناس كانوا يحفظون صيامهم ولا يضيع وقتهم في قيل وقال وغِيبة ونميمة ولهو وسهو، حتى كان بعضهم إذا صام -ولو تطوعًا- مكث في بيته يقولون: نخشى أن نلوث الصيام، نحب أن نحفظ صيامنا....
أُناس يصومون لله حقا لا رياء ولا سمعة، ولا بصورة آلية كما يصوم الناس أو يفعلون كما يفعل الناس.
أما اليوم فتلفت حولك أيها الشاب لتر العجب...
ترى الذين ما صاموا أصلا بل استمرت حياتهم كما هي قبل الصيام فيُفطرون صباحًا ويتغدون ظهرًا ويتعشون ليلا..
لا يبالون بحرمة صوم أو حتى نظر أُناس وإنكارهم..
وترى الذين إذا صاموا فليس لهم من صيامهم إلا الجوع والعطش وصح فيهم قول نبيهم الناصح الأمين: "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش...".
وترى الذين تراكمت لديهم الأطعمة والأشربة تلالا بل جبالا..
وكل همهم بعد أذان الفطر اغتنام اللحظات والساعات في أكبر قدر من الطعام والشراب واللذات...
وترى أيضًا – وأبثها فيك والحسرةُ والألم يكادان يمنعانني الكلام– المعطلين المبطلين الذين سعد بهم الشيطان فهم عوائق وسدود بين الناس وبين ربهم وطاعتهم، ترى الذين حشدوا عبر هذه الأجهزة الفضية ألوان السموم وأصناف المهلكات، وما رعوا حرمة الله ولا حرمة هذا الزمان الخاص الكريم...
وكأنهم يقصدون –وهم يقصدون– أن يصرفوا الناس صرفًا عن ربهم في هذا الزمان المبارك بما تفننوا فيه من الغثاء من مسلسلات وأفلام وفوازير وبرامج وفساد كبير، ولسان حالهم يقول: (يا باغي الخير أقصر، ويا باغي الشر أقبل)! وانقلبت العبارة، وأصبح لها وقع غريب في القلب والأذن، وأقول صوابها مشتاقًا إليه: (يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر)
· · ·
ترى أيها الشاب كل ذلك....
تــراه، ولكن أنى لك أن تدرك ما أدركت، وأنى لك أن تُعاصر وتُشاهد ما عاصرت وشاهدت، وأنى لك أن تقاسي ما قاسيت وتتألم مثلما تألمت، أنا الذي عاصرتُ النبي صلى الله عليه وسلم تسعَ سنين، ومررت كما قلت من قبل بمشاهد ومواقع وأزمنة وأمكنة ما أظن أحدًا علم عنها أو بلغها...
........
لا أريد أن أملأ قلبك بالأسى والألم..
ولكنها نفثات أحاول أن أفرج بها شيئا من هذه الهموم المتطاولة.....
أعود معك إلى الذكريات الجميلة ولا أريد للرسالة أن تطول..
تذكر معي أُناسًا مضوا..
كان الخير فيهم هو الغالب يتعاهدون بعضهم وكأنهم إخوة، بل كانوا أفضل من إخوة الدم.. وكان أحدهم يضن على أولاده بالمال والطعام؛ لأن أخاه جائع أو عريان أو محتاج... وكيف لا يكونون كذلك وقد مدحهم الله عز وجل في قرآنه فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
وكيف لا يكونون كذلك وقد كان سيدهم وسيد ولد آدم أجمعين أجود من الريح المرسلة بالخير، وما رد سائلا، ولا منع عطاءً حتى قال الأعرابي فيه: "إنه يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة".
كذلك كان متبعوه -رضوان الله عليهم- متمسكين بهديه صلى الله عليه وسلم...
أحدهم يأخذ لبيته ضيفًا للنبي صلى الله عليه وسلم ليطعمه فيقول لامرأته: هل عندك من طعام، فتقول ما عندي إلا عشاء صبيتي، فيقول لها: نوميهم إذا طلبوا الطعام، ثم إذا جاء ضيفنا وبدأ يطعَم فأطفئي السراج وأوهميه أنا نأكل، فقدموا له عشاءهم وعشاء صبيتهم ثم أصبحوا وقد نزلت هذه الآية: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
هكذا عاش القوم في مثل هذا الزمان وفي كل زمانهم.
عاشوا على الحقيقة، وحيوا على الحقيقة لا كعيش الناس اليوم ولا كحياة الناس اليوم قبور في أجسام..
بل عاشوا قلوبا..
عاشوا الآخرة وهو يخطون فوق تراب هذه الدنيا.
· · ·
ثم أخيرا أيها الشاب حتى لا أطيل عليك الرسالة..
أبثك هذه النفثة الأخيرة، ما دمنا تكلمنا عن العيش الحقيقي..
ولا عيش إلا بذكر الله..
أذكر القوم – وهم القوم – لا يفتأون يذكرون ربهم سبحانه وتعالى، لا يفتر لسانهم ومن قبله قلوبهم عن ذكر ربهم سبحانه بما علموا من قدره عز وجل وقدر ذكره وفضل ذلك، ومنزلة الذكر والذاكرين.
كانت أيامهم عامرة بالكلمات الطيبات..
وتالله إنها منزلة عالية يبدأ يومهم بـ(الحمد لله الذي أحيانا....) فهي أشرف المنازل ثم (اللهم بك أصبحنا...) وهي أرفع المقامات (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت...) وهي روح المتعبدين (اللهم عافني في بدني اللهم عافني في سمعي.....) ونسيم المتهجدين (حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم...) ورحيق الصالحين (ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا..) بها تعمر القلوب (بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء...) وتنير الوجوه (سبحان الله وبحمده...) وتخشع النفوس (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد....) ويعظم الإيمان في القلب (أستغفر الله.. أستغفر الله) بها تُنار الطرق وتؤمن (بسم الله توكلت على الله...)، (اللهم اجعل في قلبي نورا...) به يبعد الشيطان وتسكن نفس الإنسان (أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم) بل وبه يأتي أهله (اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) وبه يقوم وينام (باسمك ربي وضعت جنبي..) بل وبه يحيا الإنسان ويعمل ويكدح ويموت {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ...} [الأنعام: 162].
أدركت أُناسًا -أيها الشاب- كان عيشهم عيشا طيبا..
وأتلفّت الآن فأجد الغفلة والنسيان..
أجد الإنسان..
وقد نسي الله الرحمن..
نسي الإيمان..
نسي أمانة هذا الدين..
نسي كتاب الله..
وتاهت منه الطرق..
وتاه......
· · ·
أيها الشاب هل عرفت الآن من أنا؟
هل عرفت من أكون؟
(إن شئت أن تعرفني فأنا قطعة من الزمان)
(أنا الذي عاصرت النبي تسع سنين)
نعم
أنا رمضان
أنا هذا الشهر الذي جعله الله عز وجل نفحة وسط وعورة أيام العام..
أنا هذا الشهر الذي كان يبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بمقدمه..
أنا شهر رمضان بثثتكم آلامي وآمالي وأحلامي..
وجئت إليكم..
وأنا شهيد عليكم وعلى أعمالكم..
وقصدتك أنت أيها الشاب لتبلغ عني رسالتي لكل بني البشر..
وأنا أعلم أنك جدير بذلك..
والسلام.....
مشى الشاب وقد قبضت يده بقوة على الرسالة..
أحس بحفيف الأوراق بين يديه..
ولكن اكتسب الصوت قوة وأملا..
وسبح بفكره فوق مياه الواقع الأليم إلى جزر الزهور والجمال والقوة..
وأخذ يدب برجليه على الأرض..
حتى كادت تهتز..
وأحس بأن الأرض تستمع إليه..
وهو يقرأ الرسالة.