الموضوع: رمضان والشكر
عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 1  ]
قديم 2009-08-28, 9:59 AM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي رمضان والشكر
رمضان والشكر
الشيخ إبراهيم بن محمد الحقيل



الحمد لله الغفور الشكور، قسم عباده إلى أهل هدًى، وأصحاب ضلالة، فالمهتدون هم الشاكرون، والضالون هم الكافرون؛ {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، نحمده على ما هدانا واجتبانا، ونشكرُه على ما أعطانا وأولانا، فلم يعطنا من حاجة إلينا، ولم يمنعْنا من عجز عن كفايتنا؛ بل هو مالك الملك، ومدبِّر الأمر، وبيده خزائن كل شيء، يُعطِي لحكمة، ويمنع لحكمة، وهو العليم الحكيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يرضى الشكرَ من عباده، وهو - سبحانه - غنيٌّ عن الكافرين منهم؛ {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزُّمر: 7]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أعلمُ الناسِ بالله - تعالى - وأكثرهم رضًا عنه وشكرًا له، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.



أما بعد:

فاتقوا الله - تعالى - وأطيعوه، وخُذوا من دنياكم لآخرتكم، ومن صحَّتِكم لمرضِكم، ومن فراغكم لشغلكم، ومن حياتكم لموتكم؛ فإن العبد لا يدري ما ينزل به، وإن الشيطان يَعِدُه ويُمنِّيه، فيؤخر التوبة حتى يدهمه الموتُ؛ {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [النساء: 120].



أيها الناس:

مقام الشكر أجلُّ مقامٍ وأعلاه؛ إذ تندرج تحته العبوديةُ والرضا، ويزيد هو عليها، فلا يكون الإنسان شكورًا لله - تعالى - إلا وقد أذعن بالعبودية له، ورضي به - جل جلاله - ورضي عنه، وزاد على ذلك شكرًا له.



ومن تأمَّل آياتِ الشكر في القرآن عجِبَ من كثرتِها، ومن تعدُّدِ موضوعاتها، ومن تنوُّع أساليب الحض على الشكر فيها؛ مما يدل على مكانته في الدين، وعظيمِ منزلته عند رب العالمين؛ فالشكرُ من صفات الله - تعالى - وُصف به في القرآن؛ {وَكَانَ اللهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} [النساء: 147]، وتكرر اسمُه الشكور في أربع آيات أخرى.



لقد جاء في القرآن ذِكرُ الهداية والمغفرة والتوبة، والرزق والغنى وكشف الكرب، وعُلِّقتْ جميعها بمشيئة الله - تعالى - ففي الهداية: {وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النور: 46]، وفي المغفرة: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [آل عمران: 129]، وفي التوبة: {وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التوبة: 15]، وفي الرزق: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} [الشُّورى: 19]، وفي الغنى: {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ} [التوبة: 28]؛ إلا الشكر؛ فإن الله - تعالى - أخبر أنه يجازي به دون أن يعلِّقه بالمشيئة: {وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، وفي آية أخرى: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 145]، وجزاءُ الله - تعالى - للشاكرين يكون في الدنيا وفي الآخرة.



وكثيرًا ما تُعَلَّل الأحكامُ الشرعية، أو يُعلَّلُ بيانُها للناس، أو التيسيرُ عليهم فيها بالشكر، وكثيرًا ما يُعلِّل الله - تعالى - نِعَمَه على الناس في أنفسهم، وما سخَّر لهم في الأرض والسموات بالشكر؛ ولذا نجد في القرآن متكررًا قول الله - تعالى -: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123] {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 35].



ووصف اللهُ - سبحانه - بالشكر نوحًا وإبراهيمَ - عليهما السلام - وهما من أولي العزم، فقال - سبحانه - في نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} [الإسراء: 3]، وقال في الخليل: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} [النحل: 121]، وأمر - تعالى - بالشكر أخصَّ أوليائه، وأفضلَ أصفيائه؛ فخاطب كليمَه موسى - عليه السلام – بقوله: {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف: 144]، وأمر به داودَ وذريته من النبيين والصالحين - عليهم السلام -: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13]، ولما آتى الله - تعالى – سليمانَ - عليه السلام - المُلْك، وعلَّمه الحكمة ومنطق الطير، نظر إلى عظيم نعمة الله - تعالى - عليه، فسأله أن يرزقه شكرها: {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [النمل: 19].



كما أمر - سبحانه - بالشكر لقمانَ لما آتاه الحكمة: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لله} [لقمان: 12]، وخاطب - سبحانه - نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم – بقوله: {بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزُّمر: 66]، كما أمر المؤمنين بالشكر وحضَّهم عليه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152]، ومن أهم وصاياه - سبحانه - لعباده وصيتُهم بشكره - سبحانه -: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} [لقمان: 14].



ومن بَلَغَ الأربعين من عمره، قُطعت عنه المعذرة، وتأكَّد في حقه شكرُ الله - تعالى - على الإمهال والإمداد؛ {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [الأحقاف: 15].



ولعظيم مقام الشكر، وشدةِ القيام به، وعسْره على الناس؛ لكثرة النعم، وغلبة الهوى؛ كان الشكرُ قليلاً فيهم؛ {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وفي القرآن أربع آيات أخرى ختمتْ بقوله - سبحانه -: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10، وفي سور: المؤمنون والسجدة والملك]، وتعدَّدت الآيات التي تنفي الشكر عن أكثر الناس؛ {إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [البقرة: 243]، وفي آيات أخرى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ} [يونس: 60]، ووظيفة إبليس هي صرف الناس عن شكر الله - تعالى - كما قال - أعاذنا الله تعالى منه -: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17].



ولذا؛ كان من عون الله - تعالى - للعبد أن يُعينه على الشكر، ومن التوفيق أن يوفِّقه له، ومن إلهامه - سبحانه - أن يلهمه الدعاء به، وكان من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((اللهم اجْعَلْنِي لك شَاكِرًا))، وفي رواية: ((رَبِّ اجْعَلْنِي لك شَكَّارًا))؛ رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.



وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب معاذَ بن جبل - رضي الله عنه - فأوصاه فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أُوصِيكَ يا مُعَاذُ، لاَ تَدَعَنَّ في دُبُرِ كل صَلاَةٍ تَقُولُ: اللهم أَعِنِّي على ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ))؛ رواه أبو داود.



والشكر هو أعظم عطاء يُعطى العبد؛ لأن قانون الله - تعالى - أن الشكر يزيد النِّعم؛ {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، يقول الحسن البصري - رحمه الله تعالى -: "الخير الذي لا شرَّ فيه، العافية مع الشكر، فكم من منعَمٍ عليه غير شاكر"، وقال الفضيل بن عياض - رحمه الله تعالى -: "عليكم بملازمة الشكر على النعم، فقلَّ نعمةٌ زالتْ عن قوم فعادتْ إليهم".



وأعظم شرف استحقَّه المؤمنون أن الله - تعالى - لما ذبَّ عنهم سخريةَ المشركين، نَعَتَهم بالشكر؛ ذلك أن الإيمان من الشكر، قال المشركون: {أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} يعنون المؤمنين؛ تصغيرًا لهم، وتحقيرًا لشأنهم، فأجابهم الله - تعالى – بقوله: {أَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53]، وواجب على أهل الإيمان أن يكونوا أهلاً لهذا الشرفِ العظيم الذي بوَّأهم الله - تعالى - إياه حين وَصَفَهم بالشاكرين، وذلك بتحقيق الإيمان والسعي إلى كماله، وإتْباع القول بالعمل، والدوام على الشكر ظاهرًا وباطنًا؛ فإن الشكر هو ظهور أثر نعمة الله - تعالى - على لسان عبده ثناءً واعترافًا، وعلى قلبه شهودًا ومحبةً، وعلى جوارحه انقيادًا وطاعة.



إن أكثر الناس يلحظ النعم الدنيوية، مِن توافرِ الأمن، وتمامِ الصحة، وسَعةِ الرزق، وكثرةِ الولد، ورغدِ العيش، ويشكرون الله - تعالى - على ما أعطاهم، وفعلُهم حسنٌ جدًّا، ويجازيهم الله - تعالى - زيادة على شكرهم، لكنهم يغفلون عما هو أعظم وأجلُّ وأكبر، ألا وهي نعمة الهداية للدين، والانتظام في سلك المؤمنين الطائعين، تلك النعمة العظيمة التي من حازها حاز سعادةَ الدارين، وفاز بالحسنتين، ولما منَّ قوم على النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلامهم بيَّن الله - تعالى - أن المنَّة له - سبحانه - في هدايتهم؛ {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17].



وأهل الجنة يوم القيامة يقولون: {الحَمْدُ لله الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللهُ} [الأعراف: 43]، وهي النعمة التي أمر الله - تعالى - بالفرح بها: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58]، فما أعظمَها من نعمة! يَذكر كثير من الناس غيرها وينسونها، ويشكرون سواها ويتركونها، وقليلٌ منهم من يقدرها حقَّ قدرها، ويعطيها مستحقَّها، ويشكرها حق شكرها، فاللهم لك الحمد على ما هديتنا وعلمتنا، اللهم ارزقنا شكر نعمتك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا من الذاكرين الشاكرين.



وأقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.


توقيع يمامة الوادي




هل جربت يوماً اصطياد فكرة رائعة !؟
لـتـصوغـهـا فـي داخـلـك
وتـشحـنهـا بنبض قـلـبـك
وتعـطرهـا بطيب بروحك
وتسقـيـهـا بمـاء عـرقـك
حتى تنضج وتصنع منك إنساناً مبدعاً ؟