ألاَ ما أعجبَ الأمر! وما أشدَّ حيرةَ المرء في مثل أولئك التائهين المخدوعين! إذ يتنكَّرون لدينٍ هو خير الأديان وأعظمها والمهيمن عليها، دين ارتضاه الله لعباده بعد أن أكمله لهم، وأتمَّ به عليهم نعمته، ويلتحقون بركب الأعداء المتحلِّلين من كل دين، لا لشيء إلاَّ لينطلقوا من إِسَارِ كلِّ قيد، ويتحلَّلوا من كل رابط يربطهم بالله، أَجَلْ، والله إنَّ أمر أولئك الفارِّين من دين الله الحق لعجيب، وإنَّ وضعهم لغريب، ومصدر العجب.
وأصل الغرابة أن يفضِّلوا حياةَ القلق على حياة السَّكينة والاطمئنان في ظلِّ الإيمان، وأن يختاروا مناهجَ الأهواء المتقلبة على المنهج الربَّاني الواحد الثابت الأصيل، وأن يتشبَّهوا بالأنعام حين يُلغُون من وجودهم فكرة الهدف، وفكرة المصير، فلا يعيشون إلا ليومهم ولحظتهم، يعيشون ليأكلوا، ويأكلون ليعيشوا، وليس بعد ذلك من شيء إنَّما هي المتعة مُتعة الجسد لا غير، واللذَّة الحرام، وعبادة الدِّينار والدرهم، والسَّعي المتواصل للمزيد من الجَمْع في ركضٍ لاهثٍ وسعيٍ حثيث، وما أصدقَ وصفَ الله للكافرين بقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12].
وليت ببغاوات المسلمين من المبهورين بالغرب والشَّرق يفيقون من سَكْرتهم، التي هم فيها يعمهون، فيسمعوا صيحاتِ عقلاء وعاقلات الغرب والشَّرق، التي ارتفعت تنادي بالعَوْدة إلى المنابع، منابع الدِّين والعِفَّة والحياء والاحتشام، لَيْتَهم يسمعون رئيس وزراء فرنسا، وهو يقول عقب الهزيمة السَّاحقة لبلاده أمام ألمانيا خلال أسبوع واحد: "إنَّ فرنسا هزمها الانحلالُ قبل الاحتلال"[1].
وليتهم يسمعون مارلين مونرو الممثلة الأمريكيَّة التي طبقت شهرتُها الآفاق، والتي انتحرت فجأةً في لحظةِ إحساس مرير بالتَّعاسة، كأنثى طبيعيَّة وكأم، ليتهم يسمعونها وهي توجه نصيحَتَها لإحدى الفتيات التي طلبت نصيحتها، ليتهم يسمعونها إذ تقول لتلك الفتاة: "احذري المجد، احذري كلَّ من يَخدعك بالأضواء، إنِّي أتعسُ امرأة على هذه الأرض، لم أستطع أن أكون أمًّا، لقد كنت أفضلُ البيت والحياة العائليَّة الشَّريفة على كلِّ شيء، إنَّ سعادة المرأة الحقيقية في الحياة الزوجيَّة الطاهرة التي هي رمزُ سعادة الأنثى بل الإنسانيَّة، لقد ظلمني كل الناس، وجعل العمل والسينما منِّي سلعة رخيصة، مهما نلت من السُّمعة والشهرة الزائفة"[2].
سبحان الله! لكأنَّها تدعو إلى الإسلام، وإلى نهج الإسلام في أمور الأسرة والمرأة، فالحياة العائليَّة الشريفة وسعادة المرأة الحقيقية في ظلِّ الحياة الزوجية الطاهرة إنَّما يضمنها الإسلام، ويكفلها شرعه الطاهر المنَزَّه عن كل عيب، الخالي من كلِّ نقص أو شائبة، كيفَ لا وهو شرع الله ومنهجه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؟! إنه تنزيل من حكيم حميد.
أفيُعقَل - يا قوم - أنْ تنادي عاقلات تلك المجتمعات إلى هذه المبادئ السامية والآداب الرَّفيعة والأخلاق العالية، بينما تسعى إلى التحلُّل منها بعضُ نساء المسلمين؟
أفيُعقل أن تثوبَ المرأة الغربيَّة إلى رُشدها، فتدركَ كَمًّا من الويلات جرَّها عليها ركضها اللاَّهث في سراديب المفسدين في الأرض من اليهود وأضرابهم، في حُقُول الفساد والإفساد تبرجًا وسفورًا واختلاطًا بهيميًّا، وتنكُّرًا للأسرة وثورة على الأعراف والتقاليد المرعيَّة في مُجتمعها، فتعلن نَدَمَها على ذلك الانسياق الأعمى، وتَحسُّرَها على انخداعها بذئاب البشر، ولكن بعد فوات الأوان؟!
أقول: أيُعقل أن يحدث ذلك من المرأة الغربيَّة، فلا تتعظ بها المرأة المسلمة التي تريد أن تبدأ من حيثُ انتهت تلك المرأة الغربية؟!
ليس من العقل في شيء أن أسلك طريقًا رجع عنه صاحبه، وليس من الحكمة في شيء تجربة ما سبق للغير تجربته، فثبت فساده وضرره، إنَّ إعادة التجربة إضاعة للوقت، وتبديدٌ للجهد، وهو من قبيل تحصيل الحاصل، فكيف إذا كان الأمرُ متعلِّقًا بسلوك طريق مناهض لطريق الإسلام، مغاير له، مختلفٍ عنه، مناقضٍ له تمام المناقضة؟! إنَّ الأمر حينذاك يتعدَّى مجرد العقل وعدم الحكمة إلى موت القلب، وعمى البصيرة، واستبدال الأدنى بالذي هو خير، والويل كل الويل لمن كان كذلك، يا قوم، عَضُّوا على إسلامكم بالنَّواجذ، وتَمسكوا به، وحافظوا عليه؛ فهو - والذي نفسي بيده - سرُّ وجودكم ومنبعُ عزَّتكم، وإنَّكم عليه لمحسودون، فهل يعي بعضُ المخدوعين من قومنا ذلك؟! ليتهم يَعُون، وليتَ قومي يعلمون؛ {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].
ـــــــــــــــــ
[1] "أسباب الغزو الفكري"، للدكتور علي جريشة وزميله، (ص: 87).
[2] "مكانك تحمدي"، لأحمد جمال، (ص: 129).