الناس على مفترق طرق:
عصرنا الذي نعيش فيه هو عصر التناقضات، وعصر الازدواجية في المعايير، عصر تغيَّرتْ فيه كثير من المفاهيم الواضحات، والثوابت المبينات، في أذهان الكثير من أصحاب العقول، فضلاً عن غيرهم من أصحاب الترف والفضول، فالصادق يُهان ويُطْرد ويُحرَم، والكذاب يُكرَّم ويقرَّب، سواء كان ذلك على مستوى الأفراد والجماعات، وهذا يترتب عليه آثارٌ في الأنفس، وآثارٌ في الواقع، فالبعض يحمله معاملةُ الناس له على عكس ما يتوقعه، إلى سلوك طرق تخالف الشرع في التعامل؛ بما يجده من كبت، وألم نفسي، فيدْعوه إلى التنازل عن كثير مما تربَّى عليه من الأخلاق الحميدة، والصفات الحسنة، من قول الصدْق، وسلوك طريق الجادة، والأمانة والوفاء، والعفة والشجاعة؛ لأنه يجد مِن حوله من لا يستوعبه ولا يتقبله؛ بل يرفضه ويطرده، فيغير ما في نفسه من طبائعَ وأخلاقٍ، وصفات وأحوال، إلى ما لم يكن تعوده وتربى عليه، ويردد المقولة التي تقول: (حشر مع الناس عيد).
وعلى مستوى الجماعات، فبعد أن أصبحتْ سياسة الكذب المقرونة بالظلم هي المعتمدةَ في سياسات دول العالم، وخاصة الغربية؛ بل أصبح الشعار: "أنْ لا علاقة للأخلاق في العلاقات بين الدول، وأن الخداع والتضليل، والغدر والكذب من البراعة في السياسة"[8]، يجد الكثير من المتمسكين من بعض الجماعات الإسلامية من الضيق والتضييق، والكبت والحرمان، على بعض ما يمارسونه من شعائرَ وعباداتٍ، ودعوة وإرشادات، من قبل الدول والمجتمعات التي يعيشون فيها، وخاصة المجتمعات الغربية التي لا تدين بالإسلام، تحت مظلة ما يسمَّى محاربة الإرهاب والمتطرفين، ويسمع منهم الكذب والخيانة، والدجل والحماقة، بشكل يثير الاستغراب، ويبعث على القلق والارتياب، مما لا يجد له أي سبب من الأسباب؛ بل يجد القتل والتخريب في الممتلكات، والتعذيب في السجون والمعتقلات، فيحمله ذلك - بسبب الفراغ الديني والروحي ربما، ولعدم الرصيد الإيماني القوي، أو لعدم الفهم الصحيح لمعاني الإسلام - على التشدُّد والغلو، وسلوك طرق في التغيير تنتهي به إلى ما لا يحمد عقباه، مما نسمع ونرى، والكثير منه يحمل ما لم يحتمله، ويبالغ فيه أكثر مما يستحقه، مِن قتْل مَن لم يستحقَّ القتل، من كبار السنِّ، والنساء، وفلذات الأكباد، وفي بلاد الإسلام[9]، التي هي تحت أوامر أولي الأمر، مما له أبلغ الأثر في تشويه صورة الدين الإسلامي الناصعة الواضحة، والتي تنهَى حتى عن قتل النساء في الحروب، فضلاً عن غيرهن.
إن الإسلام يرفض مثل هذا النظر السقيم؛ بل يوجه أنظار الجميع إلى الالتزام بمعاني الأخلاق مع الفرد والجماعة والدول، حتى مع الأعداء، وأن دائرة الأخلاق في الإسلام تشمل ما ذكرناه، وهو مما لا نجد له نظيرًا في الشرائع السابقة، ولا في النظم الوضعية الحاضرة، والبعض علم أن ذلك هو طريق الأنبياء والعلماء والصالحين، وأنهم أصيبوا أشد مما أصيب به هو في دِينه وعِرضه، وعقيدته وإيمانه، فزادهم ذلك تمسكًا واعتصامًا بالله، وأنه يرغب في حصول الأجر والثواب، وإن اعتزل عن الدعوة لم يمنعه ذلك من ممارستها في حدود ما يقدر ويتمكن منه، من الكلمة الطيبة الصادقة، ولو بين أهله وأحبائه، وأصدقائه وأقربائه، وهو المطلوب المرغوب فيه؛ بل هو ما دعا إليه القرآن، وحض عليه أهل الإيمان، فهؤلاء في وادٍ، والناس في وادٍ آخر، لا تسأل عن عيشهم الرغيد، وما يتمتعون به من الانشراح والسرور، والبهجة والحبور، برغم ما يعانونه من التضييق والتشريد، أحدهم إن عاش عاش حميدًا، وإن مات مات مكرمًا، له العاقبة الحسنة الحميدة، حتى قال قائلهم: "ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتْلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة"[10]، وإن مما يعين على ضبط انفعالات النفس في تلك المواطن الصعبة الحرجة، وتوجيهها التوجيه النافع، ما يلي:
أولاً: أن يعلم أن سنة الله في الحياة هي الابتلاء والامتحان، وأنه لو شاء الله لجعل دار الدنيا ليس فيها من تلك المنغصات والمزعجات؛ بل مزج بين هذا وذاك؛ ليبتلي عبادَه، ويختبر أصفياءه.
ثانيًا: أن يعلم أن الابتلاء أصاب أحبَّ العبادِ إلى الله، وأكْرمَهم عنده، وهم الأنبياء، وهم صادقون؛ قال - تعالى -: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110]، ولم يحملهم ذلك على التهور أو الاستعجال، أو الطيش والعجلة، ومقابلة الإساءة بإساءة أو أشد منها؛ بل قابلوها بالإحسان والصبر تارة، وبدفع أعظم الشرين باحتمال أدناهما، وتحصيل أعظم الخيرين بتفويت أدناهما، كما هو مقرر عند أهل العلم والبصيرة.
ثالثًا: أن يديم النظر في تلاوة كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار؛ فهو خير رصيد، وهو البلسم الشافي لأهل البلاء، وخاصة سورة يوسف - عليه السلام - ففيها من العبر والعظات، والمواعظ والإرشادات، ما يزيد على ألف عظة وموعظة[11]، وعلم وتذكرة، حيث ابتلي في العشق وهو بريء، واتُّهم بالفاحشة وهو من أنقى خلْق الله، وهو بريء مما رمي به، حتى جعل الله له مخرجًا؛ بل مكَّنه الله في الأرض يتبوَّأ منها حيث يشاء، وهذا يفند قول من يقول: إن الصادق لا يمكنه أن يعيش بين أهل الباطل.
رابعًا: أن يعلم المسلم أن الخلْق لا ينفعونه ولا يضرونه، ولا يملكون له من الأمر شيئًا، ولا يحمله ذلك على مجافاتهم؛ بل عليه التعامل بالحكمة والموعظة الحسنة.
خامسًا: أن يعلم أن ملازمته للصدق دليلٌ على الفلاح والنجاح، وأن العاقبة لا بد أن تكون له ولو بعد حين، قال الرسول الأكرم: ((إن الصدق يهدي إلى البِر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل لَيصدقُ حتى يكتب عند الله صديقًا، وإن الكذبَ يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل لَيكذبُ، حتى يكتب عند الله كذابًا))[12].
سادسًا: ألاَّ يكون إمَّعة؛ إن أحسن الناسُ أحسن، وإن أساؤوا أساء، وألاَّ يغتر بمن حوله مِن الهالكين، ولْيعلم أن انفراده في سلوك طريق الحق دليلٌ على الفلاح والنجاح، قال أحد الصالحين: عليك بلزوم طريق أهل الحق، ولا تستوحش من قلة السالكين[13].
سابعًا: أن يتأمل سرعة زوال الدنيا، وأنها دار فناء وزوال، لا دار بقاء، وأنه على قدر تعظيمك لها في قلبك، يعظم عليك فواتُ شيء منها، وتتحسر وتتألم من فوات شيء من متاعها، وأنت ترى أهل الكذب والباطل يتمتَّعون وينعمون بها، بينما أنت محروم بسبب صدْقك، وتأمَّل جواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قال له الخليفة الراشد عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقد رأى الرسولَ يجلس على حصير وقد أثَّر فيه، فبكى، فقال له الرسول الأعظم: ((ما يبكيك يا ابن الخطاب؟))، فقال: يا رسول الله، ألا أبكي وهذا الحصير قد أثَّر في جسدك، وهذه خزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وقيصر وكسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول الله وصفوته، وهذه خزانتك؟! قال: ((ألا ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟!))[14].
والبحث يحتاج إلى مزيد إضافة وتفصيل؛ لأهميته وصلته بواقع اليوم، ومن الله التوفيق والسداد والعون، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ونبيه محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
ـــــــــــــــــــــ
[1] "رياض الصالحين"، باب ما يجوز من الكذب، ص377، وأورد حديث أم كلثوم، والذي فيه: "ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس، إلا في ثلاث؛ تعني: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، وحديث المرأة زوجها"؛ متفق عليه، رواه البخاري 5 - 220، ومسلم 2605، وغيرهما.
[2] المصدر: "صحيح ابن ماجه"، الصفحة أو الرقم: 3277، صحيح.
[3] "إذا كان للداعي المسلم مندوحةٌ من الأذى - أي: يستطيع أن يتوقاه ولا يجب عليه مواجهته - فله أو عليه أن يتوقاه حسب الظروف والأحوال، فقد يباح له الابتعاد عنه وعدم مباشرة ما يستدعيه، وقد يجب عليه الابتعاد وعدم مباشرة ما يستدعيه؛ لأن الابتلاء صعب على النفس"؛ "أصول الدعوة"، للدكتور عبدالكريم زيدان، ص352.
[4] بعض ما تعرض له رسولنا الحبيب في "الرحيق المختوم"، للشيخ المباركفوري، ص76، مكتبة قرطبة، سنة 1998، وما بعدها من الصفحات، و"السيرة النبوية عرض وقائع"، ج1، للأستاذ علي الصلابي.
[5] "تفسير ابن كثير"، ج2، ص124.
[6] من أفضل مَن كتب عن سيرة الإمام أحمدَ العلامةُ ابن الجوزي في كتابه القيم "مناقب الإمام أحمد بن حنبل - رضي الله عنه".
[7] "الأعلام العلية"، ج1، ص67.
[8] "أصول الدعوة"، للدكتور عبدالكريم زيدان، ص90، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1987.
[9] من أفضل ما قرأت في هذا المعنى كتاب "نازلة العراق"، لشيخنا الفاضل فتحي سلطان؛ فقد أوضح كل ما من شأنه أن يزيل الإشكال، ويوضح المبهم، وخاصة في مثل ذلك الموضوع الحساس الخطير.
[10] راجع في مناقب الإمام ابن تيمية كتاب "العقود الدرية"، ص377، وما بعدها.
[11] لفضيلة الشيخ محمد صالح المنجد كتاب سرد ما بهذه السورة من فوائد وعبر، ما بين فوائد تربوية، وأخرى تتعلق بالأحكام، وقد عدها مائة فائدة، جمع أحاديثها وخرجها هاني فاروق، وفي الموضع نشر كتاب للشيخ سليم الهلالي بعنوان "إتحاف الألف في فوائد سورة يوسف".
[12] المصدر: "الجامع الصحيح"، الصفحة أو الرقم: 6094، خلاصة الدرجة: صحيح.
[13] قال ابن القيم - رحمه الله -: "وهذه حال أكثر الخلق، وهي التي أهلكتهم، فالبصير الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق، ولا من فقْدِه، إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول، الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا"؛ "إغاثة اللهفان"، ج1، ص12، تحقيق حامد الفقي، دار الكتب العلمية، سنة 1966م.
[14] المصدر: "البحر الزخار"، الصفحة أو الرقم: 1/303، روي بإسناد آخر، وهذا الإسناد أحسن منه، وأتم كلامًا.