وهذا الكلام في ظاهرِه يُناقض الرَّأفة والرَّحمة، ولكن تأمَّل معي وهو يأمُر بالحرْب، والحرب دمار وخراب وقتل وتشْريد، يقول لمَّا بعث تلك الجيوش إلى الشَّام لقائد الجيوش: "ولا تعرقن - تقطعن - نَخلاً، ولا تحرقَنها، ولا تعقروا البهيمة، ولا شجرة ثمر، ولا تهدِموا بِيعة - معبد النصارى واليهود - ولا تقتلوا الوِلْدان، ولا الشُّيوخ، ولا النِّساء، وستجِدون أقوامًا حبسوا أنفُسَهم في الصَّوامع، فدعوهم وما حبسوا أنفُسَهم له، وستجِدون آخرين اتَّخذوا للشَّيطان في أوسط رؤوسِهم أفحاصًا – أي: حلقوا رؤوسهم وكان هذا شعارًا لهم - فإذا وجدتُم أولئِك فاضربوا أعناقَهم إن شاء الله".
وفي رواية الطَّبري، قال الصدّيق للجيش: "قِفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عنّي، لا تخونوا، ولا تغلّوا، ولا تغْدروا، ولا تمثِّلوا، .."، والباقي مثله.
وتظهر شدَّة أبي بكر في أمرٍ آخَر حين أتاه عمر - رضِي الله عنْه - مبعوثًا من قِبَل الأنصار، مقدِّمًا اقتِراحًا بتغْيير أسامة وتقديم آخرَ أسنَّ منه، بعدما رأى الصَّحابة موقفَ أبي بكر "المتشدِّد" لإنفاذ البعث، فوثب أبو بكر وكان جالسًا، آخِذًا بلِحية عمر، موبخًا إيَّاه قائلاً له: "ثكلتْك أمُّك وعدمتك يا ابن الخطَّاب، استَعْمَله رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتأْمُرني أن أنزعه!".
فخرج عمر إلى النَّاس، فقالوا: ما صنعت؟ فقال: "امضوا ثكِلَتْكم أمَّهاتُكم، ما لقيت في سببِكم من خليفة رسولِ الله"، فتأمَّل شدَّة عمر وقوَّته وموقفه هذا.
فكانت رحمة أبي بكر في قتال أهل الردَّة حفظًا للدين وسلامة للأعراض، وإظهارًا لقوَّة المسلمين وإثباتَ أنَّ لهم كيانًا موجودًا لا يُسْتهان به.
قالت الروم في بعْث أسامة: ما بال هؤلاء يَموت صاحبهم ثمَّ أغاروا على أرضِنا؟!
وقال العرب: لو لَم يكُن لهم قوَّة لما أرسلوا هذا الجيْش، فكفُّوا عن كثيرٍ ممَّا كانوا يريدون أن يفعلوا، فرضِي الله عن الصدِّيق صاحب رسول الله وخيْر الأنام بعده.
وهنا تظهر بركة اتِّباع السنة، ولو خالف أبو بكر أمرَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لهلكتِ الأمَّة ووقعت في الفِتْنة؛ قال الله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63].
وقد فقه الصدّيق هذا المعنى وعلَّم الأمَّة جمعاء قيمة الحِفاظ على السنَّة والتمسُّك بها، وهذا يدل على أنَّ الصدّيق كان أعْلم الأمَّة.
لقد كانت الردَّة حنينًا جارفًا إلى الجاهليَّة، وعشقًا لعادات الكفْر؛ لذلك كان أبو بكر - رضي الله عنه - حازمًا قاطعًا لكل طريق موصِّل إليْها، ولعلَّ هذه الرَّحمة الواردة في الحديث هي استعمال الحزم في محلِّه، والعفو عند الحاجة إليْه، فحارب المرتدِّين بقوَّة وصلابة لا هوادة فيها.
فها هو يقول لخالد بن الوليدِ - رضي الله عنه -: "ولا تظفَر بأحدٍ من المُشْركين قتَلَ من المسلمين إلاَّ نكَّلت به"[5].
وهو هو - رضي الله عنه - الَّذي رفق فرفع العقوبة عن زُعماء بعض قبائل اليمن، فرفق بقيس بن يغوث المرادي، وعمرو بن معديكرب، وكانا من فرسان العرب وشجعانِهم، كما رفق بالأشْعث بن قيس، وهذا من لين جانبه وحكمتِه - رضي الله عنْه.
وبنفس هذا الرِّفْق خطَب خليفةُ رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فقال في أوَّل خُطْبة خطبها: "وأنَّ أقواكم عندي الضَّعيف حتى آخُذَ له بحقِّه، وأنَّ أضعفكم عندي القويّ حتَّى آخُذ منه الحقَّ".
أخرج ابن سعد عن أُنَيْسة قالت: كنَّ جواري الحيّ يأتين بغنمهنَّ إلى أبي بكر الصديق - رضِي الله عنْه - فيقول لهن: أتحبُّون أن أحْلب لكنَّ حلب ابن عفران؟"، وكان يفعل ذلك وهو خليفة رسولِ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم.
أخرج البزَّار عن عليٍّ - رضي الله عنْه - أنَّه قال: "أيُّها النَّاس، أخْبِروني مَن أشْجع النَّاس؟" قالوا: أنت يا أمير المؤمنين.
قال: "أمَا إنِّي ما بارزت أحدًا إلاَّ انتصفتُ منه، ولكن أخبروني بأشْجع النَّاس"، قالوا: لا نعلم، فمن؟
قال: "أبو بكر؛ إنَّه كان يوم بدْر جعلنا لرسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عريشًا، فقُلنا: مَن يكون مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لئلاَّ يهوي إليه أحدٌ من المشركين؟ فوالله ما دنا منه أحدٌ إلاَّ أبو بكر شاهرًا بالسَّيف على رأس رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يهوِي إليْه أحد إلاَّ أهوى إليْه، فهذا أشجع النَّاس".
فقوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((أرْحم أمَّتي))؛ أي: أكثرهم رحمة[6].
فصدق رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ورضي الله عن الصدّيق أبي بكر والصَّحابة.
نهاية:
إنَّ حياة أبي بكر - رضي الله عنه - صفحة مشرِقة من التَّاريخ الإسلامي، الَّذي بهر كلَّ تاريخ وفَاقَه، والذي لم تحوِ تواريخ الأمم مجتمعةً بعْض ما حوى من الشَّرف والمجد، والإخلاص والجهاد والدعوة لأجل المبادئ السامية[7].
إنَّ أبا بكر - رضي الله عنْه - من الأئمَّة الذين يرسمون للنَّاس خطَّ سيرِهم، ويتأسَّى النَّاس بأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة، فسِيرته من أقوى مصادر الإيمان والعاطفة الإسلاميَّة الصَّحيحة، والفهم السَّليم لهذا الدين"[8].
أسأل الله أن يُلْحِقنا بهم على خير، وأن يَجمعنا بهم في جنَّته، فما أحبَّ إلينا بعد رؤية ربِّنا ونبيِّنا محمَّد إلاَّ رؤية هؤلاء الأطْهار الأبْرار، وعلى رأسِهم سيِّدهم وسيِّدنا أبو بكر الصدّيق، كما قال عمر بن الخطَّاب، فهؤلاء هم الَّذين اختارهم الله لصُحْبَة نبيِّه - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــ
[1] - الجامع لأحكام القرآن: 4/ 233 - 234.
[2] - حديث صحيح، أخرجه الترمذي رقم 3799، قال الألباني في السلسلة الصحيحة: صحيح.
[3] - متفق عليه.
[4] - مشكاة المصابيح، كتاب المناقب رقم 6034.
[5] - البداية والنهاية 2/233.
[6] - تحفة الأحوذي 9/286.
[7] - سيرة أبي بكر الصدّيق شخصيَّته وعصره، د: علي محمد الصلابي، ص10.
[8] - السابق ص12.