من ثمرات وآثار قوة العلاقة بين الأخوة:
المساهمة في تحقيق أهداف الأسرة في الإسلام:
"من أهداف الأسرة المسلمة: تنمية قدرات الإنسان العقليَّة ومواهبه الذِّهْنية، وتوجيهها نحو الخير العام، ومن الوسائل المعينة على تحقيق هذا الهدف: الأخوَّة الصَّالحة الدَّافعة إلى الخير، الأخوَّة في الأسرة تورث المحبَّة والإيثار، وتبعد الحسد والشَّحناء والغل والقطيعة، وقد رأينا[17] كيف فعل الحسد في أسرة يعقوب - عليه السلام - حيث قضى الحسد والبغضاء على استقرار الأسرة الكريمة"[18]، فإذا تحقَّق الاستقرار وتوفَّرت المحبَّة والإيثار، تهيَّأ الجو المناسب والأسباب المعينة على تحقيق الهدف السابق.
التكاتف والاستقرار الأسري:
الأسرة هي الدرع الحصينة[19]، وفي ذلك دلالة على الشدَّة والقوَّة؛ حيث إنَّ كلَّ فرد فيها يشد عضد أخيه ويقويه، فيحصل التَّآلف بين الإخوة والتكاتُف فيما بينهم، يفرح الأخ لفرَح أخيه، ويغضب لغضبه، ويألَم لألمه، فتغدو الأسرة كالجسد الواحد، الَّذي إن اشتكى منه عضوٌ، تداعى له سائر الأعْضاء بالحمَّى والسَّهر، وبذلك تتميَّز الأسرة ذات العلاقات الأخويَّة القويَّة دون غيرها من الأسر.
إرضاء الوالدين وإدْخال السَّعادة على قلبيْهما:
من المعلوم أنَّ الوالدين يفرحان بمحبَّة الأبناء لبعضهم، وصفح أحدهم وتجاوزه عن إساءة أخيه عند حصول النِّزاع بينهما؛ وذلك كما فعل يوسف - عليه السَّلام - مع إخوتِه في آخر قصَّته التي حكاها القُرآن الكريم؛ فإنَّه لمَّا حضر أبواه وإخوتُه مجلسَه، تحدَّث عن نعم الله عليه، وحرص على ألاَّ يذكِّر إخوته بما يسوءهم؛ لئلا يدخل الحزْن على قلب أبويه إذا سمعا منه ما يدل على بقاء العداوة بينهم؛ فقال: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [يوسف: ١٠٠]، و "لَم يقل: من الجُبِّ، مع كوْنِه أشدَّ بلاء من السجن؛ استعمالاً للكرم؛ لكيلا يُخجل إخوته بعدما قال لهم[20]: {قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف: ٩٢]، وأحال ذنب إخوته على الشَّيطان تكرُّمًا منه وتأدُّبًا[21]، بقوله: {مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي}.
أسباب ضعف العلاقة بين الإخوة:
عدم العدْل بين الأبناء:
ففقدانه سبب لحصول الحقْد والبغضاء بين الإخوان، ويترتَّب عليه التفرُّق، وضعف أو انعدام العلاقة الحسنة فيما بينهم، ومن صور فقدان العدْل: اختلاف العطايا والهبات، واختلاف المعاملة، واختلاف أساليب الثَّواب أو العقاب، دون حاجةٍ تدْعو لاختلافها؛ كاعتبار العمر، والحاجة النفسيَّة لكل منهم.
سوء المعاملة الوالدية:
كالمقارنة الخاطئة بينهم، والاستخدام الخاطئ للسلطة، والقسوة عليهم، والغلظة في المعاملة معهم، وعدم اتفاق الوالدين في هذه المعاملة.
إهمال الوالدين تعليم أبنائهم مكانة الأخوَّة من الدين:
كالتقصير في تعليمهم معنى الأخوة بمفهومها الواسع والضيق، وتعليمهم فضل صلة الرحم ومكانتها من الدين، وأهمية الأخ وفضله.
أساليب ووسائل تربوية مُعينة على تقوية علاقة الأخوة:
القدوة:
بأن يكون الأب - أو الأم - قدْوة لأبنائه في صلة إخوانه وأقربائه، وأن يفعل هذا أمامهم، فتكون الصلة بزيارتِهم، وإدخال السُّرور على قلوبهم عن طريق الهدايا، والتَّهنئة بالأفراح، والوقوف إلى جانبهم في الأحزان، ومساعدتهم وقت الحاجة، وقد يحصل ذلك بطريقة غير مباشرة، كأن يسمع الأبناء أحد الوالدين يتحدَّث عن منزلة أخيه أو أخته في نفسه، وحبّه له ورغبته في صلته أو صلتها، فيقع في نفسه بالإيحاء أهميَّة صلة إخوانه ومحبَّتهم.
التلقين المباشر:
ويبدأ ذلك في سن التمييز، فيبدأ الوالدان بتعليم الأبناء معنى كلمة الرحم، ومنزلتها في القرآن الكريم؛ كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: ٧٥]، وأنَّها مشتقة من اسم الرَّحمن؛ كما قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((إن الرحم شجنة من الرَّحمن، فقال الله: مَن وصلك وصلتُه، ومن قطعك قطعته))[22].
وأنَّها – أي: الرَّحم - تشمل كلَّ الأقرباء ومنهم الإخوة، ويُذَكِّرُهم بحديث النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الَّذي يقول فيه لرجل سأله: من أحقُّ النَّاس بحسن الصُّحبة؟ قال: ((أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك، ثم أدناك أدناك))[23]، ويبيِّنون لهم ثواب صلة الرَّحِم وفوائدها؛ كحديث الرَّسول - عليْه الصَّلاة والسَّلام -: ((مَن سرَّه أن يُبسط عليْه رزقه، أو يُنسأ في أثره، فليصِل رحمه))[24]، مع شرح معنى الأحاديث والثَّواب المترتب على من عَمِل بها.
ومن المهمِّ تذكيرهم بأهمية تقويتهم لعلاقتهم معًا، وانعكاس ذلك على مجتمعهم وأمتهم فيما بعد.
العدل بين الأبناء:
العدل بينهم وعدَم تفضيل أحدٍ على الآخر هو الأصل في صفاء قلوب الإخوة مع بعضهم، فمن حُسْن التربية: مراعاة العدْل في المعاملة والعطاء بين الأبناء، حيث حرص الإسلام أن يكون العدْل هو الأساسَ الذي تبنى عليه العلاقات داخل الأسرة؛ فأمر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الآباء أن يسوُّوا بين أبنائهم في العطايا وفي المعاملات؛ وذلك عملاً على نقاء نفسية الأبناء، وسلامة صدورهم من الضِّيق والبغض والحسد[25]، التي تؤدِّي لحصول الفرقة وضعف العلاقة بين الإخوة، فيجتنبوا تفضيل بعضهم على بعض بما يعُده المفضول إهانةً له ومحاباة لأخيه بالهوى، أمَّا ما كان من ناحية قلبية، فهذا أمر لا يملكه إلا الله[26].
تربية الأبناء على التَّسامُح بين الإخوة:
فالتَّنازل والاعتِذار، وأن يحبَّ الأخ لأخيه ما يحبُّ لنفسه، والعفْو - من أهم ما يَجب غرْسُه في الأبناء، ويساعد على ذلك ضرب المثل بيوسف - عليْه السَّلام - حين عفا عن إخوته وسامَحَهم، على شدَّة وقسْوة ما فعلوه به، وقد كان في يوسف - عليه السلام - قدوة حسنة لكل أخٍ وجد الإساءة من أخيه، بأن يتعامل معه بالعفْو والصَّفح، بل بعدم ذكر ما يسوءُه، وتذكيره بما فعل حفظًا للأدَب، كما مرَّ سابقًا.
الثناء على ترابط علاقتهم معًا:
خاصَّة على مَن يُبادِر بأعمال تنمُّ عن الحب والودّ والإيثار؛ تشجيعًا له على ذلك.
تعْويدهم على التَّعبير عن المشاعِر والإفصاح عنْها:
فتصبح عبارة "أنا أحبُّك يا أخي" متداولة بينهم، تعتادها ألسنتهم، وتألَفُها أسماعهم.
بث روح التعاون والعمل الجماعي بين الأبناء:
فعلى الوالدين أن يعملا في بيتهم على "بث روح التعاون والثِّقة والمودة بين أفراده جميعًا، فيشعر الولد بأنَّ إخوانه أصدقاء له يتبادل معهم الحب والاحترام، ومن ثم يشع داخل البيت أنهم كلهم أفراد متفاهمون متعاضدون"[27]، يعملون معًا في أسرتهم الصغيرة، من أجل تحقيق أهدافهم جميعًا.
التَّأكيد على أهمِّيَّة دور الأخ الأكبر في تقْوية العلاقة بين الإخوان:
من خلال التَّأكد من فهْمِه لدوْرِه في الأسرة، وإشعاره بمنزلته وحقوقه، مع ما تتطلَّبه هذه المنزلة من واجبات، فله الاحترام والتقدير من بقية الإخوة، وعليه الرحْمة والعطف عليهم؛ لأنَّه "يقوم بدوْر المعلِّم بالنسبة لأخيه الأصْغر، ويساعِدُه في التكيُّف، وفي تطوير قدُراته المختلفة"[28].
ـــــــــــــــــــــــ
[1] محمد السيد يوسف، منهج القرآن الكريم في إصلاح المجتمع، ط2، دار السلام، القاهرة، 1424هـ - 2004م، ص351.
[2] عبدالرحمن بن ناصر السعدي، تيسير الكريم الرَّحمن في تفسير كلام المنان، مؤسَّسة الرسالة، بيروت، 1423هـ - 2002م، ص 163.
[3] محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، دار سحنون، تونس، الجزء السادس عشر، ص 212.
[4] الراغب الأصفهاني، مفردات غريب القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داودي، دار القلم، دمشق، 1412هـ -1992م، ص 68.
[5] شهاب الدين العسقلاني، الإصابة في تمييز الصحابة، دار الكتب العلمية، بيروت، د.ت، الجزء الثامن، ص123.
[6] فاروق حمادة، آباء وأبناء ملامح تربويَّة في القرآن الكريم، دار القلم، دمشق، 1418هـ - 1997م، ص 195.
[7] الراغب الأصفهاني، مفردات غريب القرآن، مرجع سابق، ص68.
[8] ابن منظور، لسان العرب، دار صادر بيروت، 2000م، مادة أخا، المجلد الأول، ص 68.
[9] أبو عبدالله محمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، دار الكتاب العربي، بيروت، 1426هـ - 2005م، الجزء السادس عشر، ص 274.
[10] فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، ط2، دار الكتب العلمية، بيروت، 1425هـ - 2004م، الجزء التاسع، ص 44.
[11] أبو عبدالله محمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق، الجزء التاسع، ص 46.
[12] الراغب الأصفهاني، مفردات غريب القرآن، مرجع سابق، ص 68.
[13] أبو عبدالله محمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق، الجزء التَّاسع، ص 46.
[14] فخر الدين الرازي، التفسير الكبير، مرجع سابق، الجزء العشرون، ص 155.
[15] المرجع السابق، الجزء الرابع عشر، ص 60.
[16] أبو عبدالله محمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، مرجع سابق، الجزء السادس عشر، ص 85.
[17] أي: في قصة يوسف - عليه السَّلام - وما حصل بين الإخْوة كما حكتْه الآيات.
[18] لجنة البحوث والدراسات، استراتيجيات التربية الأسرية، إشراف: توفيق يوسف الواعي، دار البحوث العلميَّة، الكويت، 1424هـ - 2004م، ص 101/ 116.
[19] إبراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، تحقيق: مجمع اللغة العربية، باب الهمزة، الجزء الأول، ص36.
[20] أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، معالم التنزيل، تحقيق: محمد عبدالله النمر، عثمان جمعة ضُمرية، سليمان مسلم الحرش، ط2، دار طيبة، الرياض، 1423هـ - 2002م، الجزء الثالث عشر، ص 500.
[21] محمد بن علي الشوكاني، فتح القدير، دار الخير، بيروت، 1412هـ - 1991م، الجزء الثالث، ص65.
[22] البخاري، صحيح البخاري، تحقيق: مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير، بيروت، 1407هـ - 1987، الجزء الخامس، باب من وصل وصله الله، ص 2232.
[23] مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبدالباقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د.ت، الجزء الرابع، باب بر الوالدين وأنَّهما أحق به، كتاب البر والصلة ص 1974.
[24] المرجع السابق، باب صلة الرَّحم وتحريم قطيعتها، الجزء الرابع، ص 1983.
[25] محمد السيد يوسف، منهج القرآن الكريم في إصلاح المجتمع، مرجع سابق، ص364، 365.
[26] عماد زهير حافظ، القصص القرآني، دار القلم، دمشق، 1410هـ - 1990م، ص 165.
[27] سهام مهدي جبار، الطفل في الشريعة الإسلامية ومنهج التربية النبوية، المكتبة العصرية، بيروت، 1417هـ - 1997م، ص 219.
[28] المرجع السابق، ص 318.