عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 2  ]
قديم 2009-07-18, 1:24 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
صفة النهي ومراتبه:
قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الصحيح: ((فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه))، فقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فبقلبه))، معناه: فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمُنكر، ولكنَّه هو الذي في وُسعه.

قال القاضي عياض - رحمه الله -: "هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغيِّر أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر مَن يفعله، وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه، أو بأمره إن أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل، وبذي العزة الظالم المخوف شرُّه؛ إذ ذلك أدعى لقبول قوله، كما يستحب أن يكون متولِّي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى، ويغلظ على المتمادي في غَيِّه، والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر إغلاظه أشد مما غيره؛ لكون جانبه محميًّا عن سطوة الظالم، فإنْ غلب على ظنه أنَّ تغييره بيده أشد منه من قتله بيده أو قتل غيره، كف يده، واقتصر على القول باللِّسان والوعظ والتخويف، فإنْ خافَ أن يسبب قوله مثل ذلك، غيَّر بقلبه، وكان في سَعَة، وهذا هو المراد بالحديث - إن شاء الله تعالى - وإن وجد مَن يَستعين به على ذلك استعان ما لم يُؤدِّ ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى مَن له الأمر إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه، هذا هو فقه المسألة وصواب العمل فيها عند العُلماء والمحققين، خلافًا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكُلِّ حال، وإن قتل ونيل منه كل أذًى"، هذا آخر كلام القاضي عياض - رحمه الله.

قال إمام الحرمين - رحمه الله -: "ويسوغ لآحاد الرعية أنْ يصد مُرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينتهِ الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح، فإن انتهى الأمر إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان؛ قال: وإذا جار وإلى الوقت وظهر ظلمه وغشمه، ولم ينزجر حين زجر عن سوء صنيعه بالقول، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه، ولو بشهر الأسلحة، ونصب الحروب"، هذا كلام إمام الحرمين، وهذا الذي ذكره من خلعه غريب، ومع هذا محمول على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه؛ قال وليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدَّور بالظنون، بل إن عثر على منكر غيره جهده، هذا كلام إمام الحرمين.

قال الماوردي: "ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات، فإنْ غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثارٍ ظهرت، فذلك ضربان:
أحدهما: أنْ يكونَ ذلك في انتهاك حُرمة يفوت استدراكها، مثل أن يخبره من يثقُ بصدقه أن رجلاً خلا برجلٍ ليقتله، أو بامرأة لِيَزْنِيَ بها، فيجوز في مثل هذه الحال أن يتجسس، ويُقدِم على الكشف والبحث؛ حذرًا من فوات ما لا يستدرك، وكذا لو عرف ذلك غيرُ المحتسب من المتطوعة، جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار.
الضرب الثاني: ما قصر عن هذه الرُّتبة، فلا يجوز التجسس عليه، ولا كشف الأستار عنه، فإن سمع أصواتَ الملاهي من دارٍ، أنكرها خارج الدار، ولم يهجم عليها بالدُّخول؛ لأن المنكر ظاهر، وليس عليه أنْ يكشفَ عن الباطن.

نماذج من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
من أعظم ما يهتم به الداعية هداية قَومه وبُلُوغ الجهد في النُّصح لهم، كما يتضح ذلك جليًّا لمن تدبر سورة نوح على سبيل المثال؛ قال تعالى على لسان نوح: {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح: 5]، {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 8-9]، وكذا قصص سائر المرسلين حتَّى خاتمهم وسيدهم محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكذا أتباعهم، كمؤمن آل فرعون الذي قال لقومه: {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا} [غافر: 29]، وكحبيب النجار الذي حمل هو دعوة قومه في الحياة، أبلغ في النصح لهم بعد الاستشهاد: {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 26-27].

هداية الناس والنُّصح لهم كانت قضية كل داعية على مرِّ تاريخ الإسلام، هؤلاء الذين اعتزوا بالإسلام، واعتز الإسلام بهم، ووقفوا حياتهم لحراسة الملة وخدمة الأمة، سواء كانوا علماء أو دعاة أو مُجددين، أو مجاهدين أو مربين أو عبادًا صالحين، ولو لم يتحلَّوا بذلك، لَمَا كان لهم موضع قدم في قوائم العُظماء، ولما تربعوا في قلوب أبناء مِلَّتهم، ولا تزيَّنت بذكرهم صَحائف التَّاريخ، ولا جعل الله لهم لسان صدق في الآخرين.

وأسوتهم في ذلك - بل في كل باب من أبواب الخير - هو الصادق المصدوق - صلَّى الله عليه وسلَّم.

والأمثلة على ذلك كثيرة، منها سؤال عبدالله بن شقيق عائشة - رضي الله عنها -: "أكان نبي الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يصلي جالسًا؟ قالت: "بعدما حطمه الناس"، ومنها حديث سؤال حذيفة للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن الشر؛ مَخافَةَ أن يدركه، فسياق الحديث يَشِي بحرص حذيفة على تعميم الانتفاع بالإرشاد النبوي في زمن الفتنة إلى جميع المسلمين من بعده، وكان الصَّادق المصدوق - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُنادي في موسم الحج: ((مَن يَحملني حتَّى أبلغ رسالة ربي؟))، ويقول: ((بلغوا عنِّي ولو آية))، ويدعو لمن بلغ عنه: ((نضَّر اللهُ امْرَأً سمع منَّا شيئًا، فبلغه كما سمعه، فرُبَّ مبلغ أوعى من سامع))، ورُوِي أنَّه كان يقول في دُعائه: ((واجعلنا هداة مَهتدين)).

وهذا الغزالي - رحمه الله - يقول في "الإحياء" (2/342): "اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان، فليس خاليًا في هذا الزَّمان عن مُنكر، من حيثُ التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف، فأكثر النَّاس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد، فكيف في القُرى والبوادي؟ ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية، وسائر أصناف الخلق.

وواجب أنْ يكونَ في كل مسجد ومحلة من البلد فقيه يُعلم النَّاس دينهم، وكذا في كل قرية، وواجب على كل فقيه، فرغ من فرض عينه، وتفرغ لفرض الكفاية - أن يخرج إلى ما يجاور بلده من أهل السواد، ومن العرب والأكراد وغيرهم، ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم".

وهذا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - "مجموع الفتاوى (16/327)" يفسر قوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1-2]، فواجب على الأمة أن يبلغوا ما أنزل إليه، وينذروا كما أنذر، وقال الله - تعالى -: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، والجن لما سمعوا القرآن، {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29].

وهذا تلميذه ابن القيم - رحمه الله - يقول في "التفسير القيم"، ص431: "وتبليغ سنته - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الأمة أفضل من تبليغ السهام إلى نحور العدو؛ لأنَّ تبليغ السهام يفعله كثير من الناس، وأمَّا تبليغ السنن، فلا يقوم به إلا ورثة الأنبياء، وخلفاؤهم في أممهم، جعلنا الله - تعالى - منهم بمنِّه وكرمه".

وقال الوزير ابن هبيرة في قوله - تعالى -: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20]: "وقوله - عزَّ وجلَّ -: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20]، تأملت ذكر أقصى المدينة، فإذا الرجلان جاءا من بُعدٍ في الأمر بالمعروف، ولم يتقاعدا لبُعد الطريق".

عن شجاع بن الوليد قال: "كنت أخرج مع سفيان الثوري، فما يكاد لسانه يفتر عن الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، ذاهبًا وراجعًا".

وأمَّا الإمام الجليل الخرقي صاحب المختصر، فقد قال الإمام ابن قدامة - رحمه الله -: "وسمعت أن سبب موته أنَّه أنكرَ مُنكرًا بدمشق، فضُرب، فكان موته بذلك".

قال الأستاذ محمد أحمد الراشد في كتابه "المنطلق"، ص198: "إن الداعية العالي الهمة لا ينكر المنكر فحسب، بل ينكر على أهل المنكر منكرهم؛ أي: إنَّه لا يعرف التعميم، ولا التورية، إنَّه يمد أصبعه يشير إلى الطاغوت بالاتِّهام، ويرفع صوتَه يُعلن فضيحة الكُفر الذي أمامه باسمه ورقمه وعنوانه، ثم لا يلبثُ الأصبع الواحد حتَّى ينفتح معه بقية الخمس، فتكون يد التغيير من بعد أصبع الاتِّهام".

يذكر الشيخ محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم في كتابه الماتع في "علو الهمة"، ص285-287، نقلاً من "العائدون إلى الله" ص73-76، قصصًا واقعية تبرز قيمة عنصر المبادأة والمبادرة والحركة إلى مواقع يندر من يتأهَّل لاقتحامها؛ بحثًا عن هذه الضَّالة المنشودة "المدعو".

منها مَنِ التزم، وتاب على يد شيخٍ دَعاهم في مرقص، وكان قبل لقاء هذا الشيخ من أفسقِ الفُسَّاق؛ حيثُ استأجر الشيخ المرقص من صاحبه زمن الحفلة، ودعا الحضور للتوبة، وخرجوا جميعًا من المرقص تائبين، وكانت توبتهم على يده، حتَّى صاحبَ المرقص تاب وندم على ما كان منه.

نختم بذكر ما قاله الدكتور عبدالودود شلبي في كتابه "في مَحكمة التاريخ" عسى أن يستحي المقصرون منَّا في خدمة دينهم وأُمَّتهم الإسلاميَّة عندما يرون حركة غيرهم في خدمة باطلهم، ويرون - أي: المقصرون - أنفسهم أحرى وأَجْدَر بمعالي الأمور: "أذكر أنني ترددت كثيرًا جدًّا على مركز من مراكز إعداد المبشرين في مدريد، وفي فناء المبنى الواسع وضعوا لوحة كبيرة كتبوا عليها:
"أيها المبشر الشاب، نحن لا نَعِدُك بوظيفة أو عمل أو سكن أو فراش وثير، إننا ننذرك بأنَّك لن تجد في عملك التبشيري إلا التعب والمرض، كل ما نقدمه إليك هو العلم والخبز وفراش خشن في كوخ فقير، أجرك كله ستجده عند الله، إذا أدركك الموت وأنت في طريق المسيح، كنت من السُّعداء".

تأمل هذه الكلمة:
"أجرك كله ستجده عند الله، إذا أدركك الموت"، نحن أَوْلَى بهذه الكلمة منهم.

نسأل الله - تعالى - أن يجعلنا هداة مهتدين.

المراجع:
1 - صحيح مسلم بشرح النووي، المجلد الأول، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2 - رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لفضيلة الشيخ د. ياسر برهامى، "وهو من أبرز الدعاة بالإسكندرية - مصر، وحاصل على ليسانس الشريعة الإسلامية - جامعة الأزهر".
3 - كتاب علو الهمة، لفضيلة الشيخ د. محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم، "وهو من أبرز الدعاة بالإسكندرية - مصر وحاصل على ليسانس الشريعة الإسلامية - جامعة الأزهر، دراسات عليا في الطب النفسي".