من صور الإهمال العاطفي:
1 - البرود:
يتعلَّم الأطفال كيفَ يتفاعلون مع العالَم مِن حولهم مِن خلال تفاعُلاتهم المبكِّرة مع والديهم، فإذا كان سلوك الوالدين مع أطفالهم مفعمًا بالدِّفء والمحبَّة، فإنَّ هؤلاء الأطفال يَكبَرون وهم يروْن العالَم مكانًا آمنًا مليئًا بفُرص التعلُّم والاستكشاف، أمَّا إذا كان سلوك الوالدين يتسم بالبرود، فإنَّهم سيَحرِمون أطفالَهم من العناصر الضروريَّة لتحقيق نموِّهم العاطفي والاجتماعي.
والأطفال الذين يتعرَّضون للبرود بشكلٍ دائم يَكبَرون ليروا العالَم مكانًا باردًا مثيرًا للسأم، والأغلب أنَّ معظم علاقاتهم المستقبليَّة لن تكون ناجحة، كما أنَّهم لن يشعروا أبدًا بالثقة المُحفِّزة للاستكشاف والتعلم.
مثال على ذلك: عندما يرسم الطفل لوحةً يشعر بالفَخْر بها، ويأتي لوالديه بكلِّ حماس لينظروا فيما يراه هو إنجازًا؛ ولكنَّه يُقابل بعدم اكتراث، أو الصُّراخ في وجهه بأنَّه يُضيِّع وقته في أمور غير ذات فائدة، عمومًا فإنَّ الطفل يشعر بالبرود من والديه إذا ما كانا غير مباليين في التعبير عن مشاعرهم لإنجازات الطِّفل ونجاحاته.
مثال آخر على البرود: هو عدمُ حضور الوالدَين مدرسةَ الطفل عندما يُدعيان إليها، خاصَّة إذا كانت هناك فعاليات يُشارك فيها الطِّفل ويتغيَّب والداه لسبب لا يراه مقنعًا، خاصَّة إذا تكرَّر ذلك، فما يرسخ في عقل الطِّفل وذاكرته هو أنَّ والديه "لا يهتمَّان".
2 - التضارب:
عندما يَعلم الطفل ما هي ردة الفِعْل التي يتوقَّعها لكلِّ فعل، صحيحًا كانَ أم خطئًا، فإنَّ مهاراتِ الطفل الحياتيَّة سوف تتطوَّر، ويتعلَّم الطفل التفكيرَ بطريقة منطقيَّة؛ ولكن عندما لا يستطيع الطفلُ أن يتوقَّع نتائِجَ أفعالِه وردودِ الفعل عليها فعمليةُ التعليم - وخاصَّة في المهارات الحياتيَّة - تتأثَّر سلبًا، فضلاً عن أنَّها سوف تترك الطفلَ يعيش ضغطًا معنويًّا؛ لأنَّه لا يعلم ولا يتوقع ما هي عاقبة الأمور، خاصَّة إذا ما أراد أن يبدأ تجرِبةً جديدة.
مثال بسيط على التضارب: هو عندما يتصرَّف الوالدان بطرق مختلفة في أمور متشابهة، مثلاً يذهب الطفل إلى مكانٍ ما من غير استئذان، فيقوم والداه بمعاقبته بشدَّة، بينما قد يذهب مرَّة أخرى إلى المكان ذاتِه من غير استئذان، ويتغاضى الوالدان عن ذلك تمامًا من دون إعطاء أيِّ سبب يمكن للطِّفل فَهْمه واستيعابه.
مثال آخر على ذلك: هو عندما يَكسر الطفلُ شيئًا عزيزًا على الأمِّ في البيت، تحاول أن تُفهمَ الطفل أنَّه ارتكبَ خطأ فادحًا، وأنَّ هذا الشيء عزيزٌ عليها، وقد يكونُ سعره مرتفعًا، وكم هي يائسة الآن بعد فقدانِه، فتستخدم العقابَ الجسديَّ والنفسيَّ، وتصف الطفل بأوصاف جارحة؛ ولكن عندما تأتي صديقة العائلة مع أطفالها في زيارة إلى منزل الطِّفل، ويقومُ أحدُ أطفال الضيوف بكسر الشيء ذاته، وعندما تغضب الصديقةُ على طِفلها، تحاول الأمُّ تهدئةَ الوضع وإقناعَ صديقتها أنَّه لم يحصل شيء، وأنَّه من السهل شراءُ قطعة أخرى مماثلة، وبالتالي فإنَّ الطفل لا يستحقُّ العقاب، موقف كهذا يتركُ الطفلَ في حيرة عميقة، وثقة بالنفس هابطة، عندما يرى التضارُب والتناقض في تصرُّف أمِّه، وإذا كان بصورة مستمرَّة، فإنَّه يُخلِّف آثارًا سلبيَّةً على صحة الطفل النفسيَّة وعلى قدرته التعليميَّة.
3 - الرفض:
عندما يرفض أحدُ الأبوين الطفلَ، فإنَّه يشوِّه صورته الذاتية، ويُشعره بعدم قيمته، والأطفال الذين يشعرون برفْض ذويهم منذُ البداية يعتمدون على تنمية أنماط سُلوكيَّة مضطربة لطمأنةِ النفس، والطفل الذي يتعرَّض للرفض في صِغره، فإنَّه يمتلك فرصةً ضئيلة في أن يصبح طبيعيًّا عندما يَكبَر.
يجب أن ينتقد الوالدان أفعالَ الطفل، وليس شخصيتَه، يجب أن يوضِّح الوالدان للطفل بأنَّهم لا يرفضونه هو، بل يرفضون أفعالَه، ويحدِّدون الفعل المرفوض، هناك فرق كبيرٌ إذا ما قيل للطِّفل: إنَّ والدك يعتقد أنَّه كان بإمكانك أن تكون أفضل في المدرسة، وأن تكون درجاتُك أفضلَ، أو أن يقال له: إنَّ والدك يعتقد أنَّك إنسانٌ فاشل وكسول، لا تستطيع أن تكون أفضلَ ممَّا أنت عليه .
4 - المضايقة والتهديد:
وذلك يشتمل على تهديدِ الطفل بعقوبات شديدة، أو غير مفهومة، تُثير الفزعَ في نفس الطفل، وخاصَّة إذا ما تُرك الطفلُ ينتظر العِقاب، ولا يعلم متى، وماذا سوف يحلُّ به؟
قد تصل المضايقة إلى التهديد، بتحقير الطِّفل أمامَ أصدقائه، كالتهديد بكسر يدِه أو رِجله، أو طرده من المنزل، أو حتى قتْل حيوان في البيت أو إنسان يحبُّه الطفل، إذا لم يتمكَّن الطفل من إنجاز ما يُطلب منه.
إن آثارَ المضايقة والتهديد تُشبه آثار التحقير، وإن كانت تتضمَّن عنصرَ ضغط إضافي، والتهديد يُفزع الطفل، ممَّا يؤدِّي إلى تشويه نفسيته، وتعطيل قُدرتِه على التعامُل مع المواقف العَصِيبة أو الضغوط، فالخوف المستمرُّ، وانتظار الأسوأ يُهدِّد إحساس الطفل بالأمان والطمأنينة، ممَّا يُولِّد لديه مشاكلَ نفسيَّة، كأن يصبحَ دائمَ التوتُّر، قليلَ التركيز، قدرته ضعيفة على إيجاد علاقات اجتماعيَّة سليمة من دون مشاكل، الأمر لا يقتصر على الجانب النفسيِّ فقط، إذ قد تظهرُ عليه أعراضٌ جسديَّة أيضًا؛ منها: الضعف المستمر، وعدم القدرة على مقاومة الأمراض.
هذه هي الآثارُ السيِّئة المترتِّبة على الطفل من جرَّاء الإهمال بأنواعه المختلفة؛ لذا فليحذرِ الأبوان من مغبَّة إهمالهما أطفالَهما، وليسعيا إلى الاهتمام بهم، وتوفير البيئة والاحتياجات الملائمة، لتنشئتهم نشأةً سليمة؛ جسديًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا.
وختامًا:
الأطفال نعمةٌ من الله - عزَّ وجلَّ - وهم مصدرُ السعادة والطُّمأنينة، ومَن لا يجدُ هذه السعادةَ في بيته، فلن يجدَها في مكانٍ آخرَ:
وَأَطْيَبُ سَاعِ الْحَيَاةِ لَدَيَّا عَشِيَّةَ أَخْلُو إِلَى وَلَدَيَّا[2]
مَتَى أَلِجُ الْبَابَ يَهْتِفُ بِاسْمِي الْ فَطِيمُ وَيَحْبُو الرَّضِيعُ لَدَيَّا
فَأُجْلِسُ هَذَا إِلَى جَانِبِي وَأُجْلِسُ ذَاكَ عَلَى رُكْبَتَيَّا
وَأَغْزُو الشِّتَاءَ بِمَوْقِدِ فَحْمٍ وَأَبْسُطُ مِنْ فَوْقِهِ رَاحَتَيَّا
هُنَالِكَ أَنْسَى مَتَاعِبَ يَوْمِ يَ حَتَّى كَأنِّيَ لَمْ أَلْقَ شَيَّا
وَكُلُّ شَرابٍ أَرَاهُ لَذِيذًا وَكُلُّ طَعَامٍ أَرَاهُ شَهِيَّا
وَمَا حَاجَتِي لِغِذَاءٍ وَمَاءٍ بِحَسْبِيَ طِفْلاَيَ زَادًا وَرِيَّا
وَأيَّةُ نَجْوَى كَنَجْوَايَ طِفْلِي يَقُولُ: أَبِي فَأَقُولُ: بُنَيَّا؟!
ـــــــــــــــــــــ
[1] نقلاً عن جريدة " الجمهورية" المصرية، ملحق"محبوبتي"، (ص: 1)، بتاريخ (5/3/2009).
[2] للشاعر : محمود غنيم.