المزيد من العطاء والجهاد:
لم تَرتَوِ أمُّ عمارةَ بما كان منها حتى الآن؛ بل أخذتْ تُقدِّم - رضي الله عنها - المثلَ الأعلى في التضحية والفِداء، فكثُرتْ صورُ عطائها المشرق، وبان ثباتُها في الملمَّات الصِّعاب، وفاقتْ قوَّتُها وشجاعتها قوَّةَ الرجال، ومن ذلك ما قامتْ به يومَ أُحد سَنةَ ثلاث من الهجرة، وكانتْ تشارك في سقاية الجُند، وتحمل بيدها الماء في قِربةٍ صغيرة، وتدور به على الجرحَى والعطشى.
لم تقتصرْ تلك المرأة العظيمة، على تقديم المساعدة إلى الجيش الإسلاميِّ فحسبُ؛ بل نراها تشارك أيضًا في القِتال، وها هي تُخبرنا عن ذلك فتقول: "خرجتُ أوَّلَ النهار إلى أُحد، وأنا أنظر ما يصنع النَّاسُ، ومعي سِقاءٌ فيه ماء، فانتهيتُ إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو في أصحابه، والدَّولة والرِّيح للمسلمين، فلمَّا انهزم المسلمون، انحزتُ إلى رسول الله، فجعلتُ أُباشِر القِتال، وأدافع عنه بالسَّيف، وأرمي بالقوْس حتَّى خلصتْ إليَّ الجراح"، تقول راوية الحديث - وهي جميلة بنت سعد بن الرَّبيع -: "فرأيتُ على كَتفِها جرحًا له غَورٌ أجوفُ"[11].
وقد شوهدتْ - رضي الله عنها - في ذلك اليوم المشهود، وهي تُقاتل أشدَّ القِتال، وكانتْ تحجز ثوبَها على وسطها، حتى جُرحتْ ثلاثةَ عشر جرحًا، وكان أعظمُ هذه الجراح ناشئًا من ضربةِ الفارس المشرك ابن قميئة، لَمَّا ضربها الشقيُّ وهي تدافع بجسدها عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وجلستْ تُداوي جُرحَها ذلك سَنة كاملة.
وتَمضي أمُّ عمارة في سبيل الجِهاد يومَ أُحد قُدمًا، وقد شعرتْ بدقَّة الموقف، ورسول الله مستهدفٌ فمضتْ تَقِيه وتفديه، وتُناجِز العدوَّ، فلا تعبأ بما يُصيب جسدَها من جراح، وما ينال صدرَها مِن سِهام، ويعجب حينها - صلَّى الله عليه وسلَّم - بصنيعها، فيقول: ((لَمَقام نسيبةَ بنت كعب خيرٌ من مقام فلان وفلان))، وعنها يقول أيضًا: ((ومَن يُطيق ما تُطيقين يا أمَّ عمارة))، ويقرُّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأمِّ عمارة فضلَها وبلاءَها في ذلك اليوم المشهود، فيقول: ((ما التفتُّ يمينًا ولا شِمالا ًإلاَّ رأيتُها تقاتل دوني))، وفي ذلك إقرارٌ بالاستبسال، ومقاتلة العدوِّ قتالاً مباشرًا، بالإضافة إلى خِفَّة الحركة بالذود عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى نهاية المعركة[12].
ويُصاب ابنُها عبدالله، فتجرح عضدُه اليُسرى، وغدتْ تنزف نزفًا غزيرًا، فراحتْ أمُّه تُمرِّضه وتضمِّده، حتى إذا اطمأنَّتْ عليه قالتْ له: "انهض بُنيَّ فضاربِ القوم"، ولم يملكْ حينَها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلاَّ أن يدعوَ لهذه الأُسرة المجاهدة مِن سويداء قلبه قائلاً: ((بارك الله عليكم مِن أهل بيت، ورَحِمكم الله أهلَ بيت، اللهمَّ اجعلهم رُفقائي في الجنَّة))، فبوركتْ حينَها أمُّ عمارة ببركة هذا الدُّعاء، وبورك لها مقامُها الطيِّب، وتفرُّ من مُقلَتيها دموعُ الفرح الباكي، وهي تقول: "ما أُبالي بعدَها ما أصابني من الدنيا"[13].
حاولتْ أمُّ عمارة بعدَ أُحد المشاركةَ في غزوة حمراء الأسد، وشدَّتْ عليها ثيابَ الجِهاد رغمَ ما نزل بها من شدَّة البلاء يومَ أُحد، إلاَّ أنَّ إلحاح نزيف جرحِها الطريِّ الذي لم يبرأْ بعد، منعها من الخروج وصدَّها عن متابعة المسير، فرجعتْ وعينُها تَفيض من الدَّمع حزنًا من عدم تمكُّنِها من تلبية نداء الجِهاد، وانكبَّ عليها أهلُها وذووها يمرِّضونها ويضمِّدون عليها جراحها النازفة[14].
وتمرُّ الأيَّام، فإذا بالسيِّدة أمِّ عمارة تشهد مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - غزوةَ بني قريظةَ في السَّنة الرابعة للهجرة، وممَّا يدلُّ على دورها الفاعل في تلك الغزوة ما خُصِّص لها من قِسمة الغنائم.
وفي سنة ستٍّ للهجرة، تخرج أمُّ عمارة - رضي الله عنها - ثانية مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد يَمَّموا وجوهَهم صوبَ خيبر، وكان في الجيش عشرون امرأةً كانت أمُّ عمارة على رأسهنَّ، تداوي الجرحى، وتناول السِّهام، وتَسقي السَّويق، وضربتْ بذلك مثلاً آخرَ في جاهزيَّة المجتمع المسلم إذا نزلتْ به النوازلُ وقْتَ الحرْب والنفير[15].
وها هي غزوة حنينٍ تقدم في السَّنة الثامنة بعد الفتح، وها هي أمُّ عمارةَ تضرب أروعَ الأمثلة الأخرى في دِفاعها عن المبدأ والعقيدة، وتشتركُ بصورة مباشرة في أحداث قلْب المعركة، ونتركها وهي تروي لنا طرفًا عن دَورِها في ذلك اليوم المشهود، فتقول: "لَمَّا كان يومُ حنين، والناس منهزمون في كلِّ وجه، وأنا وأربعُ نسوة في يدي سَيف صارم، وأمُّ سُليم قد حزمتْ وسطَها، وهي يومئذٍ حامل، وأمُّ سليط، وأمُّ الحارث، فجعلتُ أسلُّ السيف، وأصيح بالأنصار: أيَّة عادة هذه؟! ما لكم وللفِرار؟! وأنظر إلى رجل مشركٍ من هوازن على جمل، معه لِواء، يريد أن يوضع جمله في أثر المسلمين، فأعترض له فأضربُ عُرقوبَ الجمل، فوقع على عَجُزِه، وأشُدُّ عليه، فلم أزلْ أضربُه حتى أثبتُّه، وأخذتُ سيفًا له، ورسول الله قائمٌ مصلِّت السيفَ بيده، قد طرح غِمدَه، ينادي: يا أصحابَ سورة البقرة"[16].
وفي سَنة اثنتي عشرةَ للهجرة، يُعلن الصِّدِّيق - رضي الله عنه - عن نيِّته في حرب المرتدين، ويتجدَّد حَنينُ أمِّ عمارة للجِهاد، فتذكر ما كان من سابق عهدها مع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وتتوق نفسُها إلى ذلك، ويصحُّ عزمُها على المشاركة، وها هي تستلم سيفَها المصلت، تُهاجِم به أعداءَ الله، فجُرحتْ في ذلك اليوم أَحدَ عشرَ جرحًا، وقُطعتْ يدُها لَمَّا حاولتِ النيلَ من مُسيلمة، فكانتْ بذلك معركةُ اليمامة صفحةً جديدة، أضيفتْ إلى صفحاتِ السيِّدة العظيمة، وكانت تلك آخِرَ ما شهدتْه أمُّ عمارة من المعارك، بعد أن شربتْ هنيئًا من كأس الجِهاد، وتشرفتْ بخِدمة الدعوة بالنفس والمال والولد[17].
إلى الرفيق الأعلى:
وتمرُّ السِّنون وأمُّ عمارة في خِدرها عابدةً ساجدةً زاهدة، تتذكَّر وتحنُّ إلى ما خلا من أعوام ماضيات، حافلات بالجِهاد والتضحيات، وظلَّتِ السيِّدة المؤمنة تعبد ربَّها حتى أتاها اليقين، حين صَعدتِ النفس المطمئِنَّة إلى بارئها، وكان ذلك نحوَ سنة 13 من الهجرة، وعُدَّتْ جراحُها أثناءَ تغسيلها جرحًا جرحًا، فإذا بها ثلاثةَ عشرَ جرحًا.
ورقد الجثمانُ الطاهر في البقيع، إلى جوارِ مَن سبقه من الصِّدِّيقين والشُّهداء والصالحين، وارتفع مَقامُ أمِّ عمارة في الأرض إلى مقامٍ أعلى وأسمى في دار الخُلود، بعد حياة قَضتْها وهي تُجاهد في سبيل الله جنبًا إلى جنب مع أُسرتها المؤمنة الصابرة [18].
ختامًا:
فرضي الله عنكِ أيُّتها السيِّدة الفاضلة، كما قدَّمتِ للدعوة المباركة مِن عصارة الوقت والجهد والبذل، وأَرضاكِ وأنتِ تُعطين نِساءَ كلِّ زمان ومكان دُروسًا عظيمة، فيما ينبغي أن تكونَ عليه المرأة المسلمة، وما أحوجَ جيلَنا المعاصر إلى الاقتباس من هدي هؤلاء النُّجوم الزاهرات، من نِساء الصحابة، وهنَّ يُعطينَ المَثلَ العظيم، والبرهانَ الساطع لِمَن عَرَف واجبَه خيرَ المعرفة، فبذل وضحَّى بالكثير في سبيل الدَّعوة، حين صَدَق ما عاهد اللهَ عليه، عسى أن نُعيدَ للأمَّة ما كانتْ عليه مِن مَجْدٍ غابر تليد، وعسى أن تكون سِيرةٌ كتلك نبراسًا يُضيء لنا درب الحياة.
المصادر:
- أسد الغابة في معرفة الصحابة، لابن الأثير، دار إحياء التراث، بيروت.
- الإصابة، لابن حجر، الطبعة الأولى، مطبعة السعادة.
- الاستيعاب في معرفة الأصحاب، لابن عبد البر، مطبعة السعادة.
- سير أعلام النبلاء، للذهبي، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية.
- السيرة الحلبية، لعلي بن برهان الحلبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
- صفة الصفوة، لابن الجوزي، الطبعة الثانية، حيدر أباد.
- الطبقات الكبرى، لابن سعد، بيروت.
- المغازي، للواقدي، عالم الكتب، بيروت.
ــــــــــــــــــــ
[1] الطبقات الكبرى (8/412)، الإصابة (4/479).
[2] صفة الصفوة (2/34).
[3] الطبقات الكبرى (3/518).
[4] المرجع السابق.
[5] الاستيعاب (1/555).
[6] سير أعلام النبلاء (2/378).
[7] الإصابة (1/306).
[8] أُسد الغابة (3/46).
[9] الطبقات الكبرى (8/412).
[10] المغازي (2/731).
[11] السيرة الحلبية (2/230).
[12] الطبقات (8/415).
[13] المغازي (1/273).
[14] الطبقات الكبرى (8/413).
[15] المغازي (2/634).
[16] المغازي (3/902).
[17] السيرة الحلبية (2/230).
[18] المغازي (1/270).