خامسًا: نماذجُ وصورٌ للإرجاف:
أما عن نماذج وصور الإرجاف في حياتنا، فحدِّث ولا حرَجَ؛ فالإرجاف يضرب شتى مناحي الحياة، وسنذكر نموذجًا لكل منحى من مناحي الحياة.
أما عن الإرجاف في مجتمع الإنترنت، فكثير جدًّا، ومن أمثلته: نشر القصص الفاسدة والباطلة، وتهويلها وتضخيمها، سواء كانت صحيحة أم غير صحيحة، فيقوم البعض بتضخيمها وإعطائها أكبر من حجمها الحقيقي؛ ليظهر للناس أن هذا الوضعَ الفاسد هو الوضعُ القائم في المجتمع؛ وذلك ليزعزع الأمان في المجتمع، ويخذل المصلحين عن سلوك سبيل الإصلاح، ويعطي للناس صورة خاطئة عن المجتمع، وأنه مجتمع فاسد لا سبيل إلى إصلاحه؛ ليزيد الناس وهنًا على وهن، وإحباطًا على إحباط، ويثبطهم ويخذلهم، ويغلق أيَّ بارقة أمل من الإصلاح في وجوههم.
أما عن الإرجاف والطعن في العلماء والمصلحين في مجتمع الإنترنت، فوصل إلى نتيجة خطيرة، ومن أمثلتها أن بعض الشباب يأتي بخطأ يسير لعالم من العلماء، وينشره بعد تضخيمه وتهويله، ويبدِّع العالم ويفسِّقه بهذا الخطأ اليسير؛ ليخذل الناسَ ويصدَّهم عنه وعن دعوته.
وخطورة الطعن في العلماء والمصلحين كبيرة؛ لأنه يخذل ويصد الناسَ عن كثير من العلماء والعاملين، كثير من الشباب يقوم بهذا الدور دون أن يدري خطورة ما يقوم به، من صدٍّ عن سبيل الله، وتعويق للدعوة ودعاتها، فيبدِّع ويفسق دون أن يكون مؤهلاً.
فالجرح والتعديل علمٌ كبير، لا يتصدَّى له حُدَثاءُ الطلب وحدثاء السِّن؛ بل يتصدى له العلماء الكبار، الذين أمضَوا حياتهم في العلم والتعليم، ووصلوا لدرجة كبيرة من الخبرة والدراية بالمصالح والمفاسد التي تترتَّب على الجرح والتعديل.
فإياكم ثم إياكم من الجرح والتجريح في العلماء الربانيين، والدعاةِ الصادقين؛ فلحومُ العلماء مسمومة، وعادةُ الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، فاللهَ اللهَ في كف اللسان عن العلماء والصالحين، إياكم والتخذيلَ لهم، والصدَّ عن طريقهم؛ فهم مشاعل الهداية للناس، ومنارات الطريق لهداية الضالين، وانتشال الحائرين.
وللأسف كثير من المنتديات خصَّصت أقسامًا للطعن في العلماء، رافعين شعارَ الجرح والتعديل، والله يعلم كم أفسدوا وخذلوا كثيرًا من العلماء الربانيين، ولقد مررتُ بتجربة بنفسي عندما دخلت على بعض هذه المنتديات، فوجدت قائمة طويلة من العلماء - بل وبعض الفنانين والكتاب - يعدونهم بجملتهم مبتدعة، ومن بينهم قاسم أمين وغيره من الكتاب، ترى ما علاقة هذا الرجل بالعلماء؟! إنهم يجعلونهم معه في مركب واحد، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وعندما قمت بالذبِّ عن عرض أحد العلماء، ردُّوا ردًّا شديدًا، واتَّهموني بالتعصب والحزبية، والقطبية والحرورية، وغيرها من المسميات الباطلة، وقاموا بطردي من المنتدى، فهم لا يعطون لأحد فرصة للرد عليهم ومخالفة طريقهم، هدانا الله وإياهم، وبصَّرنا وبصرهم بالحق؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
أما عن الإرجاف في الصحف، فهو الطامة الكبرى، والبليَّة العظمى؛ فهو أشد تأثيرًا وانتشارًا من الإنترنت؛ فهو بوتقة الإعلام الأولى، ومن أمثلته في حياتنا نشر الأخبار الكاذبة، بل وتضخيمها وتهويلها؛ لنشر فكرة فاسدة للناس عن المجتمع وما يجري فيه، ولكلٍّ هدفٌ في نشر تلك الأراجيف، من صدٍّ عن سبيل الله، وإشاعة الفاحشة والفساد في المجتمع، ونشر الفتن، وعدم رغبة أن يعود الناس لدين رب العالمين، ورغبة استمرار الفساد في المجتمع، وتشويه صورة العلماء والمصلحين؛ كلُّ ذلك نصرةً ومعاونة لأهل الباطل في نصرة باطلهم وزخرفته أمام الناس.
فالحق والباطل يتصارعان إلى يوم القيامة، ولا شك أن النصرة للحق وأهله؛ لموعود الله - عز وجل - في كتابه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21].
ومن أمثلة الإرجاف في الصحف: نشر الأخبار السيئة التي تكون صحيحة، وذلك مثل نشر الحوادث التي تحدث في المجتمع؛ مما يوحى للناس بفساد المجتمع، وأن لا أمل في الإصلاح، وتلك الأخبار الفاسدة يجب ألاَّ تُذكَر؛ فالقبيح والسيئ يجب أن يُستَر لا يُذكر؛ بل يُنشَر الخير وما يكون قدوة للناس، لا ما يعلِّمهم الفساد والإفساد، يُنشر ما يدعوهم إلى الإصلاح، لا ما يدعوهم إلى الإحباط، والكسل، والخمول.
ومن أمثلة الإرجاف في الصحف أيضًا: الحكم بفساد المجتمع، وأن لا أمل في إصلاحه وتقويمه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من قال: هلك الناس، فهو أهلكُهم))، والحكم بفساد المجتمع يؤدِّي إلى قتل العزائم والهمم التي تسير في طريق الإصلاح.
ومن أمثلة الإرجاف أيضًا: نشر سير وقصص أهل الباطل والعلمانيين وتلميعها، ومحاربة أهل الصلاح والإصلاح، وتشويه صورتهم، بافتراء الأكاذيب عليهم.
ومن أمثلة ذلك: ما قامت به مجلة روز اليوسف من كتابة مقال تتناول فيه الدعوة السلفية وشيوخها، وبالأخص فضيلة الشيخ أبي إسحاق الحويني، واتهمتْه باتهامات خطيرة، وافترتْ عليه الأكاذيب والخرافات، قالت: "إنه يقول: إن تعدد الزوجات فريضة".
وهذا كذبٌ له قرنان، لم يقل به الشيخ.
وقالت أيضًا: "دخل الحويني بدعوة ظلامية على مجتمع بسيط متسامح، متدين بالفطرة، ولكنه فقير يعاني ويلات الانفتاح، فوجد خلاصَه في دعوة تلخص متطلباته في: جلباب قصير للرجال، وعباءة ورداء للمرأة، كما أنها تعفيه من كل وسائل التكنولوجيا؛ لأنها حرام فأنقذته".
وتقول أيضًا: "إن الشيخ يقول في كثير من خطبه: إن النصر لن يتحقَّق بالمظاهرات، وحرقِ العلم الإسرائيلي أو صورة الرئيس الأمريكي؛ وإنما النصر يأتي بالالتزام بشعار المرحلة؛ أي: النقاب للمرأة، والجلباب القصير للرجل".
أليس هذا الكلام من الإرجاف؟! أليس هذا الكلام من التخذيل للشيخ والصد عن دعوته؟! أليس هذا الكلام افتراءً وبهتانًا على الشيخ ودعوته؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!
وتقول عن الشيخ وحيد عبدالسلام بالي، تقول: "الذي كوَّن ثروة طائلة من الدجل والشعوذة، والعلاج من مس الجن، حيث كان يعمل بتلك المهنة في السعودية ومصر".
كلام مستمر؛ لتشويه صورة الدعاة إلى الله، وصدِّ الناس عنهم، وعن رسالتهم، حفظ الله مشايخنا وعلماءنا من أعداء النجاح وأنصار الباطل.
وأشد من هذا الإرجاف: أن بعض الصحف تأتي بعناوينَ صحيحةٍ عن العلماء والدعاة، ومضامينَ كاذبةٍ؛ ليخدعوا الناس بذلك، فالنوع الأول من الإرجاف الذي تكون عناوينه ومضامينه كاذبة، سهلٌ أن يَكتشف سفهَه وكذبَه الناسُ، أما عندما تكون العناوينُ صحيحةً، والمضامينُ كاذبةً، هنا ينخدع كثيرٌ من الناس.
وسُنة الله جرتْ بالحكم بين العلماء والمصلحين، ومَن هاجمهم وافترى عليهم الافتراءاتِ والأكاذيبَ، مَن الذي سيذكره التاريخ ويثني عليه؟ كما حدث مع شيخ الإسلام ابن تيمية، وإمام أهل السنة أحمد بن حنبل، الذي قال: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز.
كَمْ سَيِّدٍ مُتَفَضِّلٍ قَدْ سَبَّهُ مَنْ لاَ يُسَاوِي غَرْزَةً فِي نَعْلِهِ
فَالبَحْرُ يَعْلُو فَوْقَهُ جِيَفُ الفَلاَ وَالدُّرُّ مَدْفُونٌ بِأَسْفَلِ قَعْرِهِ
وَإِذَا اسْتَغَابَ أَخُو الجَهَالَةِ عَالِمًا كَانَ الدِّلِيلَ عَلَى غَزَارَةِ جَهْلِهِ
أما الإرجاف في الكتب، فكثير من الكُتاب يقوم ببثِّ الشبهات الفاسدة، والشبهات غير الصحيحة، التي تشكِّك الناس في دينها، وتفقدها ثقتها بالعلماء والصالحين، وكثير من الكُتاب يُكثِر الكلامَ عن الفتن؛ ليوحي للناس بأن الأمر قد انتهى، وأن زمن الإصلاح قد ولَّى، ويجب أن نعلم أن الكِتاب وسيلة كبيرة من وسائل المعرفة، وله أهمية كبرى، يُنشَر فيه ما ينفع الناسَ، ولكن عندما تنشر الأراجيف في الكتب، تبقى مضرتها كبيرة.
ألا فليتَّقِ اللهَ كلُّ صاحب قلم، وليعلم أنه موقوف بين يدي الله، وبين يديه مسؤول، وليحذر سقطات القلم، كما قال القائل:
وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إِلاَّ سَيَفْنَى وَيَبْقَى الدَّهْرَ مَا كَتَبَتْ يَدَاهُ
فَلاَ تَكْتُبْ بِكَفِّكَ غَيْرَ شَيْءٍ يَسُرُّكَ فِي القِيَامَةِ أَنْ تَرَاهُ
أما بالنسبة للإرجاف من الأعداء، فالحرب النفسية أهمُّ وأسبق من الحرب العسكرية، والحرب النفسية تؤدِّي إلى هزيمة الأمَّة نفسيًّا ومعنويًّا؛ مما يؤدي إلى خذلان الجيوش، ألا ترى قوله - تعالى -: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، فبثُّ الرهبةِ أساس في الحروب العسكرية؛ لأنه عندما تُهزم نفسُ الإنسان، تكون هزيمته عسكريًّا من أسهل ما يمكن.
ودليل ذلك حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ونُصرتُ بالرعب مسيرةَ شهر))؛ لذلك يقوم الأعداء ببثِّ الشائعات والأراجيف؛ لهزيمة الأمة نفسيًّا، ومن ثَم هزيمة الجيوش عسكريًّا كما كان يفعل ذلك التتار، ومِن بعدهم اليهود، حتى أشاعوا مقولة: "الجيش الذي لا يُهزم".
ذلك ليهزموا الأمة نفسيًّا، ليسهل عليهم هزيمتها عسكريًّا، ولكن بفضل الله هزمناهم في حرب رمضان، ولكنهم اليوم يبثُّون الشائعات والأكاذيب والأراجيف؛ ليبثوا في الأمة قوَّتهم، وأنهم صُنَّاع القرار في العالم؛ وذلك لهزيمة الأمة معنويًّا؛ حتى لا تهبَّ لنصرة الدِّينِ والأرضِ والعِرضِ، واستعادة العزة والمجد والكرامة، نسأل الله أن يحيي الأمة بفضله؛ لكي تستعيد عزَّتها وكرامتها المسلوبة، مِن أحفاد القردة والخنازير ومَن يعاونهم.
وأشدُّ إرجاف يؤثِّر في الأمَّة هو إرجاف المنافقين والمثبِّطين وأعداء الدين، المنسوبين للإسلام والمسلمين، والمهزومين بدرجة جعلتْهم أبواقًا لنصرة أعداء الأمة، فيقومون بتخذيل الأمة وتثبيطها عن مواجهة عدوِّها، ويثيرون الرعب في الأمة، وذلك بالمبالغة في وصف قوة الأعداء، وكثرة عددهم وعُدتهم، وقوة بأسهم وقدرتهم القتالية، وأنهم صناع القرار في العالم، ويبثُّون في الأمة الفرقة والشقاق، والوقيعة والدس، ويبثون في الأمة اليأس من تحقيق النصر.
فحربُ هؤلاء في الأمة أشدُّ من حرب الأعداء أنفسهم، وسورة الأحزاب تحكي خطورةَ الإرجاف والمرجفين على الأمَّة، إن لم تأخذ حذرها، والتمسك بإيمانها ونبيِّها؛ قال - تعالى -: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 60].