عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 10  ]
قديم 2009-04-01, 5:19 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
قال المرداوي:
وبِالأَسْهَلِ ابدأْ ثُمَّ زِدْ قَدْرَ حَاجـَةٍ *** فَإِنَّ لَمْ يَزُلْ بِالنَّافِذِ الأَمْرِ فاصـْدُد

لذلك عقَّب الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في ذيل كتابه الشديد اللهجة الذي أرسله إلى عبدالله بن سحيم موجهاً كلامه للشخص الذي أرسل معه تلك الرسالة بقوله:

"... وأنت لا تلمني على هذا الكلام، تراني استدعيته أولاً بالملاطفة وصبرت منه على أشياء عظيمة، والآن أشرفت منه على أمور ما ظننتها لا في عقله ولا في دينه، منها أنَّه كاتب إلى أهل الحسا يعاونهم على سب دين الله ورسوله".

ثالثاً: الإنكار بالقلب.
قال الإمام ابن حزم رحمه الله: "واتفقوا في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلوب". أ.هـ

فالحديث الشريف يدل على أنَّه إن لم يستطع الإنكار بلسانه لوجود مانع، كخوف فتنة أو خوف على نفس أو عضو أو مال محترم أو شهر سلاح، فبقلبه ينكره وجوباً، بأن يكرهه به ويعزم أنَّه لو قدر بقول أو فِعْلٍ فعل، وهذا واجب عينيٌ على كل أحد بخلاف الذي قبله، فأفاد الخبر وجوب تغيير المنكر بكل طريق ممكن فلا يكفي الوعظ لمن يمكنه إزالته بيده، ولا القلب لمن يمكنه باللسان، والإنكار بالقلب وهو الكراهية أضعف أعمال الإيمان المتعلقة بإنكار المنكر في ذاته، لا بالنظر إلى غير المستطيع؛ فإنَّه بالنظر إليه هو تمام الوسع والطاقة وليس عليه غيره فلا يكتفي به إلاَّ من لا يستطيع غيره.

وفي توضيح معنى قول صلى الله عليه وسلم: "ليس وراء ذلك مثقال حبة خردل من إيمان" يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "مراده أنَّه لم يبق بعد هذا الإنكار ما يدخل في الإيمان حتى يفعله المؤمن، بل الإنكار بالقلب آخر حدود الإيمان، ليس مراده أنَّ من لم ينكر ذلك، لم يكن معه من الإيمان حبة خردل، ولهذا قال: "ليس وراء ذلك"، فجعل المؤمنين ثلاث طبقات، وكل منهم فعل الإيمان الذي يجب عليه، لكن الأول لما كان أقدرهم، كان الذي يجب عليه أكمل مما يجب على الثاني، وكان ما يجب على الثاني أكمل مما يجب على الآخر، وعلم بذلك أنَّ الناس يتفاضلون في الإيمان الواجب عليهم بحسب استطاعتهم مع بلوغ الخطاب إليهم كلهم". أ.هـ.

وهنا نكتة حول معنى الحديث ينبغي التفطن لها:
كثير من الناس قد يظن أنَّ الحديث في آخره يعني السلبية، إذا ترك كل مسلم المجتمع دون أن يَعْنَى بالإصلاح لما فسد به، ولكن ذلك مردود بأنَّ السلبية تعني عدم الاهتمام أصلاً بما يجري في المجتمع المسلم، بينما الاستنكار أو الإنكار على ما يظهر من فساد هو أول درجات هذا الاهتمام، لكن هذا الاهتمام خاضع لمعيار القدرة ويتناسب معه تناسباً طردياً، فكلما زاد معيار القدرة زاد اهتمام المحتسب واشتد في إنكاره، والعكس بالعكس.

يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله عن درجات الإنكار: هو باليد مع القدرة، وباللسان عند عدم المَكَنَة، وبالقلب عند خوف الفتنة والعجز عن القيام بالفريضة، وهو أضعفها.

وسأل إسحاق بن إبراهيم بن هانئ الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله: متى يجب على الرجل الأمر والنهي؟ قال: ليس هذا زمان نهي، إذا غيرت بلسانك، فإن لم تستطع فبقلبك، فهو أضعف الإيمان.

قال ابن مسعود رضي الله عنه: إنها ستكون هنّات وهنّات بحسب امرئٍ إذا رأى أمراً لا يستطيع له تغييراً أن يعلم الله أنَّ قلبه له كاره.

وعن أبي الطفيل رحمه الله قال: قيل لحذيفة رضي الله عنه ما ميت الأحياء؟ قال: من لم يعرف المعروف بقلبه وينكر المنكر بقلبه.

وبكراهية القلب للمنكر تبرأ ذمة المحتسب إن لم يستطع الإنكار باليد أو اللسان، عن العُرْس بن عميرة الكندي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا عُمِلتِ الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها ـ وقال مرة: أنكرها ـ كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها".

قال الشيخ أبو الطيب آبادي رحمه الله في معنى قوله "كمن غاب عنها": "أي في عدم لحوق الإثم له، وهذا في من يعجز عن إزالتها بيده ولسانه، والأفضل أن يضيف إلى القلب اللسان فيقول: اللهم هذا منكر لا أرتضيه قاله العزيزي" أ.هـ

وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "فمن شهد الخطيئة فكرهها في قلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها، لأنَّ الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم، لا يسقط عن أحد في حال من الأحوال" أ.هـ

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما حقيقة الإنكار بالقلب؟ فإنَّ البعض يظن مخطئاً أنَّه ما دام كارهاً للمنكر فلا بأس عليه بمخالطة فاعله والجلوس معه حال مواقعته للمنكر، أو البقاء في مكان فيه منكر مبرراً ذلك الفعل بكراهية قلبه لذلك المنكر، وهذا الفعل مخالف لصريح الكتاب والسنة.

قال تعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا}.

قال الإمام القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية: "... فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأنَّ من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم والرضا بالكفر كفر".

وقال الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله: "لأنَّكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم، والراضي بالمعصية كالفاعل لها. والحاصل أنَّ من حضر مجلساً، يُعصى الله به فإنَّه يتعين عليه الإنكار عليهم، مع القدرة، أو القيام مع عدمها". أ.هـ

وحديث جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يُدخِل حليلَتَهُ الحمَّام، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يَدخُل الحمام بغير إزار، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليهم الخمر".

فدل على تحريم الجلوس في مكان المنكر بدون إنكار له، وأنَّ من علامات الإنكار بالقلب المتضمن لأقل درجات الإيمان مفارقة مكان المنكر. والله أعلم، وأخرج ابن جرير عن هشام بن عروة رضي الله عنه قال: أخذ عمر بن عبدالعزيز قوماً على شراب، فضربهم وفيهم صائم، فقالوا: إنَّ هذا صائم فتلا: {فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ}.

وهكذا تعتبر هذه المرحلة الإيمانية النهائية، وهي الكراهة أو الإنكار بالقلب الذي يقتضي مفارقة مكان المنكر، حتمية على كل مسلم ومسلمة، ولا رخصة لأحد في تركها البتة. فإن الجلوس في أماكن المنكرات على افتراض كراهية القلب لها مخالف لمفهوم الإنكار بالقلب الذي يعني اقتران البغض القلبي للمنكر، بالمفارقة الجسدية للمكان الذي يتواجد فيه ذلك المنكر.

-----------------------------------------[*] الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، من الحِسبة وهي الأمر بالمعروف إذا ظهر تركه والنهي عن المنكر إذا أُظهر فعله.

المصدر : لها أون لاين