عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 9  ]
قديم 2009-04-01, 5:18 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
درجات إنكار المنكر

أولاً: الإنكار باليد
إنَّ القلب المتلألئ بنور الإيمان لا يُقنعه القليل من الأعمال، وإذا بدا له منكر ظاهر يستطيع تغييره، فإنَّه يدفعه بهمّة عالية لأقوى درجات الإنكار، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وأعلى درجات الإنكار التغيير باليد.

ولمّا كان الشرك بالله تعالى أعظم المنكرات قاطبة، أعلن الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله النكير عليه بكل ما أوتي من قوّة وعزيمة ونصرة لدين الله عز وجل وللعقيدة الصحيحة؛ فقال رحمه الله في معرض حديثه عن فوائد قصة مسجد الضرار ضمن اختصاره لكتاب زاد المعاد في هدي خير العباد للإمام ابن القيم رحمه الله:

"ومنها تحريق أمكنة المعصية كما حرَّق مسجد الضرار، وكل مكان مثله فالواجب على الإمام تعطيله، إما بهدم أو تحريق، وإما بتغيير صورته وإخراجه عمّا وضع له، وإذا كان هذا شأن مساجد الضرار، فمشاهد الشرك أحق وأوجب، وكذا بيوت الخمارين، وأرباب المنكرات، وقد حرق عمر رضي الله عنه قرية بكاملها يباع فيه الخمر، وحرَّق حانوت رُويشد وسمّاه فويسقاً، وحرَّق قصر سعد لمّا احتجب فيه عن الرعية، وهمَّ صلى الله عليه وسلم بتحريق بيوت تاركي الجمعة والجماعة، وإنَّما منعه من فيها، ممن لا تجب عليهم.

... وعلى هذا فيُهدم المسجد الذي بُني على قبرٍ كما يُنبش الميت إذا دفن في المسجد، فلا يجتمع في دين الإسلام مسجد وقبر، فهذا دين الإسلام الذين بعث الله به رسوله، وغربته بين الناس كما ترى" أ.هـ

وقال أيضاًَ رحمه الله:
"لا يجوز إبقاء مواضع الشرك والطواغيت بعد القدرة على هدمها وإبطالها يوماً واحداً، فإنَّها شعائر الشرك والكفر وهي أعظم المنكرات، فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة، وهذا حكم المشاهد التي بُنيت على القبور، التي اتخذت أوثاناً تعبد من دون الله، والأحجار التي تقصد للتبرك والنذر والتقبيل لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض مع القدرة على إزالته، وكثير منها بمنزلة اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، بل أعظم شركاً عندها وبها والله المستعان" أ.هـ

والشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله بكلامه السابق يقرر قاعدة أساسية في فقه إنكار المنكر وهي اشتراط القدرة على إزالة المنكر في أولى درجات الإنكار وهي الإنكار باليد، وذلك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم المتقدم: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". وفي رواية الترمذي: "فلينكره بيده..."، قال القاضي عياض رحمه الله: "الحديث أصل في كيفية التغيير فيجب على المغير أن يغير بكل وجه أمكنه زواله به، فالتغيير باليد أن يكسر آلات الباطل ويريق الخمر وينزع العصب أو يأمر بذلك" أ.هـ

وفي حديث أبي الهياج الأسدي رحمه الله قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن لا تدع تمثالاً إلاَّ طمسته ولا قبراً مشرفاً إلاّ سويته".

وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نُصُبٍ فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: "{جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً}، {جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد}".

فدلّ الحديثان الشريفان على مشروعية إنكار المنكر باليد مع القدرة عليه، والله أعلم.

ولقد ضرب الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أروع مثل في سرعة الاستجابة لشرع الله عز وجل وتغيير المنكر باليد حينما حرَّم الله تعالى الخمر، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبيَّ بن كعب من فضيخ زهوٍ وتمر فجاءهم آت فقال: إنَّ الخمر قد حُرِّمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهْرِقها فأهْرقتُها. هكذا الإيمان حينما تتشربه القلوب الصافية يجعل المبادرة إلى تغيير المنكر باليد فورية لا تحتمل التسويف والتأخير.

وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المِرْبد فخرجت معه، فكنت عن يمينه، وأقبل أبو بكر، فتأخرت له، فكان عن يمينه وكنت عن يساره، ثم أقبل عمر رضي الله عنه، فتنحيت له، فكان عن يساره، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد، فإذا بأزقاق على المربد فيها خمر، قال ابن عمر رضي الله عنه فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمُدية، قال: وما عرفت المدية إلاَّ يومئذ، فأمر بالزقاق فشُقَّت، ثم قال: "لُعنت الخمرُ وشاربُها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعُها، وحاملها، والمحمولة إليه، وعاصرُها، ومُعْتصِرُها، وآكل ثمنِها". فالتغيير باليد لا مندوحة عنه متى وُجدت القدرة عليه.

قال المروذي: سألت أبا عبدالله ـ أحمد بن حنبل رحمهما الله ـ قلت: أمرُّ في السوق فأرى الطبول تباع، أكسرها؟ قال: ما أراك تقوى، إن قويت يا أبا بكر ـ أي فافعل ـ قلت: أُدعى أغسل الميت فأسمع صوت الطبل، قال: إن قدرت على كسره وإلاَّ فاخرج.

وقال أيضاً رحمه الله: قلت لأبي عبدالله: لو رأيت مسكراً مكشوفاً في قِنّينة أو قربة ترى أن تُكسر أو تُصبّ؟ قال: تَكسره.

وقال أبو داود رحمه الله: سمعت أحمد يُسأل عن قوم يلعبون بالشطرنج فنهاهم فلم ينتهوا، فأخذ الشطرنج فرمى به. قال: قد أحسن. قيل: فليس عليه شيء؟ قال: لا. قيل له: وكذلك إن كسر عوداً أو طنبوراً؟ قال: نعم.

وقال عبدالله بن الإمام أحمد بن حنبل رحمهما الله قال: أبي سُئل عن رجل رأى مثل الطنبور والعود، أو الطبل وما أشبه هذا، ما يصنع به؟ قال: إذا كان مغطى فلا، وإذا كان مكشوفاً فاكسره.

وبناءً على ذلك فإنَّه يجوز للناهي عن المنكر أن يُتلف الأشياء العينية المحرمة مثل الأصنام المعبودة من دون الله بشتى أنواعها وأيّاً كانت مادتها من خشب أو ذهب أو نحاس، فله تكسيرها وإتلافها، وكذلك آلات اللهو بشتى أنواعها من عود وآلات موسيقية ونحو ذلك، أو الأشرطة التي سجل فيها أغاني خليعة وموسيقى ماجنة ونحو ذلك، أو الصور الخليعة المحرمة، فله طمسها أو تمزيقها وإتلافها. كل ذلك يجوز له تغييره باليد وإتلافه لكن عليه أن ينظر إلى قواعد الشرع قبل الإقدام على ذلك ومراعاة المصلحة لئلا يخلف ذلك منكراً أكبر منه.

كما ينضم إلى شرط الاستطاعة شرط آخر وهو ألاّ يكون الإنكار بالسلاح، روى الخلال عن صالح ـ بن أحمد بن حنبل رحمهم الله ـ أنَّ أباه قال: التغيير باليد ليس بالسيف والسلاح.

وقال القاضي عياض رحمه الله: "ولا ينكر بسيف إلاَّ مع سلطان" أ.هـ

وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: "الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه إشهار سلاح أو سيف يجوز للآحاد، بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة، فإن احتاج إلى أعوان يشهرون السلاح فلا بد من إذن السلطان على الصحيح". أ.هـ.

لأنَّ شهر السلاح بين الناس قد يكون مخرجاً إلى الفتنة وآيلاً إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله المستعان.

ثانياً: الإنكار باللسان.
اللسان أداة نقل الكلام الذي يدور في عقل الإنسان، وهو من أعظم نعم الله تعالى عليه، ومن تمام شكر هذه النعمة استخدامه في طاعة الله، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولإيصال الكلام للمستعين طريقتان: إما مشافهة باللسان، وإما مكاتبة بالقرطاس والقلم، وكلتا هاتين الوسيلتين تنضويان تحت الدرجة الثانية من درجات الاحتساب. التي أصّلها حديث أبي سعيد رضي الله عنه: "فإن لم يستطع فبلسانه...".

ففي الحديث دلالة على أنَّ من لم يستطع تغيير المنكر بيده لضعفه وعدم قدرته، أو خشيته أن يترتب على تغييره باليد مفسدة أشد فليغيره بلسانه، بالأمر والنهي ويكون بلين ورفق ما لم تَدْعُ الحاجة إلى الشدة ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب.

قال القاضي عياض: "... فإن خالف في التغيير باليد مفسدة أشد غيّر بالقول، فيعظ ويخوف ويندب إلى الخير، ويستحب أن يرفق بالجاهل وذي العزة الظالم المُتَّقى شره؛ فإنَّه أدعى للقبول، ولهذا استُحِب في المُغيِّر: أن يكون من أهل الصلاح، فإنَّ القول منه أنفع، ويغلظ على غيرهما"، بشرط ألاَّ يغلب ظن أنَّ المنهي يزيد عناداً ويبدأ في الإنكار بالأسهل فإن زال وإلاَّ أغلظ، فإن زال وإلاَّ رفعه إلى الإمام.