عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 6  ]
قديم 2009-04-01, 5:15 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
والعلم بحسب أهميته على درجات:
أولاً: أهم ما على المحتسب تعلمه التوحيد الذي يتعلمه والعمل به، وبتعليمه تتحقق الغاية من خلق الإنسان المتضمن لها قوله تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلاَّ ليعبدون}، فهو أول ما دعت إليه الرسل قاطبة وأمرت به أقوامها قال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمَّة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}.

وهو أهم ما بدأ به مجدد التوحيد الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب حيث ذكر ـ رحمه الله ـ أنَّ قوله تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئِن أشركتَ ليحبطنَّ عملك ولتكونن من الخاسرين}، شدة الحاجة إلى تعلم التوحيد، فإذا كان الأنبياء يحتاجون إلى ذلك ويحرصون عليه فكيف بغيرهم؟ ففيها رد على الجهال الذين يعتقدون أنَّهم عرفوه فلا يحتاجون إلى تعلمه.

ثانياً: كذلك يجب على المحتسب أن يهتم بطلب العلم الشرعي في الفروع من العبادات والمعاملات، "فإن الفقه في الدين من الأمور الضرورية للمحتسب في عمله"، وذلك ليستطيع أن يميز بين المعروف والمنكر، حتى يأمر بالأول وينهى عن الثاني، فلا يتأتي عليه الاحتساب حتى يكون لديه "علم بالمنكرات الظاهرة" وبأدلتها الشرعية، فلا يحكم على أمر بأنَّه منكر إلاَّ إذا قام عليه دليل من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم أو إجماع المسلمين، فكما أنَّ من يعالج المريض يحتاج إلى فهم بالمرض والدواء ـ أي يكون طبيباً جيداً ـ فكذلك المحتسب يحتاج إلى علم وفهم بأمراض المجتمع وانحرافاته فلا بد من العلم بالأمور الآتية:

1ـ أصل الداء والمرض، 2ـ طبيعته وأعراضه، 3ـ الدواء الناجح لعلاجه، وبذلك يستطيع أن يحدد الداء والداء ليصل إلى الغاية المرجوة بأقصر طريق بإذن الله.

ثالثا: من لوازم الاحتساب أيضاً أن يتعلم المحتسب كيفية الاحتساب، وهذا ما أشار إليه شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب في حديثه عن الرفق في الأمر الآنف الذكر، كما يتعلم مواقع الحسبة وحدودها ومجالاتها وموانعها؛ ليقتصر على حد الشرع فيها، فإنَّ إلمامه بالمحيط والظروف والأوضاع الفكرية والاجتماعية التي تحيط بمجال عمله، يُمَكِّنه من ممارسة عملية التغيير، وانتهاج الأسلوب والطريقة المناسبة، وأهم ما على المحتسب معرفته قبيل احتسابه حال المُحْتَسَبِ عليه، المأمور والمنهي.

ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ على المحتسب التثبت في الرواية فلا يروي حديثاُ إلاَّ وقد ثبت لديه صحة نسبته للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى لا يتخبط في احتسابه من حيث لا يشعر، فيأمر بخلاف السنة أو ينهى عن بعضها والعياذ بالله.

وبالجملة فإنه لا بد للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يطلب العلم ويلحق بركاب العلماء حتى يجد النور ساطعاً في كل فج يسلكه، وحتى يعضد أمره ونهيه بالأدلة الشرعية مما يجعل الحجة معه، ومن ثم يكون لأمره ونهيه تأثير في المجتمع، بإذن الله.

وتمام العلم العمل به، فلا قيمة للعلم بلا عمل ولا قيمة للعمل بدون علم، قال الإمام الحسن البصري ـ رحمه الله ـ: "إذا كنت آمراً بالمعروف فكن من آخذ الناس به وإلاَّ هلكتَ، وإذا كنت ممن ينهى عن المنكر فكن من أنكر الناس له وإلاَّ هلكتَ".

وقد أجمل الإمام ابن الجوزي ـ رحمه الله ـ هذا المعنى بعبارة بليغة قال فيها: "من لم يعمل بعلمه لم يدر ما معه حامل المسك إذا كان مزكوماً فلا حظ له فيما حمل"، فلا بد أن يكون فعل المحتسب مطابقاً لأمره حتى إذا وافته المنيّة وهو في حال إصلاح نفسه، كان خيراً له من أن يموت وهو ساع لإصلاح غيره دون نفسه فيحاسب على ترك واجبات وفرائض، والوعيد في هذا الباب معلوم بالكتاب والسنة قال تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}، فدلت الآية الكريمة على زجر من يأمر الناس بالخير وينسى نفسه من ذلك والله أعلم.

ولكن هذا لا يعني أن يتقاعس المحتسب عن احتسابه إذا رأى في نفسه قصوراً فذلك من كيد الشيطان له ليصرفه عن طريق الخير الذي يسلكه، قال ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية السابقة: "فكل من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح قولي العلماء من السلف والخلف. وذهب بعضهم إلى أنَّ مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها، وهذا ضعيف، وأضعف منه تمسكهم بهذه الآية، فإنَّه لا حجة لهم فيها. والصحيح أنَّ العالم يأمر بالمعروف، وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه، ولكنَّه ـ والحالة هذه ـ مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية، لعلمه بها ومخالفته على بصيرة، فإنَّه ليس من يعلم كمن لا يعلم، ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك" أ.هــ

عن أبي وائل قال: قيل لأسامة لو أتيت فلاناً فكلمته، قال: إنَّكم لترون أنّي لا أكلّمه إلاَّ أُسْمِعُكُم، إنّي أكلمه في السر دون أن أفتح باباً لا أكون أول من فتحه، ولا أقول لرجل أن كان عليًّ أميراً إنَّه خير الناس بعد شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما سمعته يقول؟ قال سمعته يقول: "يُجاء بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار فتندلق أقتابه في النار فيدور كما يدور الحمار بِرَحاه فيجتمع أهل النار عليه فيقولون أي فلان ما شأنك، أليس كنت تأمرنا بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ قال: كنت آمركم بالمعروف ولا آتية وأنهاكم عن المنكر وآتية"، ففي الحديث دلالة على هول العقوبة التي تنتظر الآمر بالمعروف الناهي عن المنكر إذا لم يعمل بعلمه والله أعلم.

وقد نقل الحافظ ابن حجر العسقلاني ـ رحمه الله ـ قول أحد أهل العلم ولم يسمه: "يجب الأمر بالمعروف لمن قدر عليه ولم يخفْ على نفسه منه ضرراً ولو كان الآمر متلبساً بالمعصية؛ لأنَّه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف ولا سيما إن كان مطاعاً، وأما إثمه الخاص به فقد يغفره الله وقد يؤاخذه به، وأما من قال: لا يأمر بالمعروف إلاَّ من ليست فيه وصمة فإن أراد أنَّه الأولى فجيد وإلاَّ فيستلزم سد باب الأمر إذا لم يكن هناك غيره" أ.هـ

وقال الفقيه السبكي ـ رحمه الله ـ: "لا يشترط في القيام به ـ أي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ أن يكون الآمر ممتثلاً في نفسه؛ لأنَّه تعلق به حقان، حق الكف في نفسه، وحق نهي غيره، ولا يُسْقِطُ حقٌ حقا، وهذا لا ينافي أنَّ الكمال أن يكون الآمر عاملاً بما يأمر به مجتنباً ما نهى عنه ليكون أدعى في القبول" أ.هـ

إذن على المحتسب أن يبادر للعلم والعمل معاً بهمَّةٍ عالية قبل شروعه في الاحتساب، فإن وجد في نفسه خللاً فلا يثنيه ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنَّه من كيد الشيطان ليصدّه عن هذا الخير العظيم، إنَّما عليه المبادرة إلى إصلاح نفسه بالتوبة والاستغفار وفعل الطاعات والسير قدماً في طريق الإصلاح الوعر بعزم الجبال، نحو إصلاح نفسه وإصلاح الآخرين على حد سواء.

روى الخطيب البغدادي ـ رحمه الله ـ عن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يُعلِّم الناس الخير وينسى نفسه مثل الفتيلة تضيء للناس وتحرق نفسها".

وقد ورد في تقسيم الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر ثمانية أصناف هي:

أولهم: أرباب القلوب والعزائم أخذاً بقوله تعالى: {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبيِّننَّه للناس} وهم المقصودون بقوله تعالى: {كنتم خير أمَّة أخرجت للناس} وهم الصابرون أخذاً بقوله تعالى: {وكأين من نبي قاتل معه ربيُّون كثير فما وَهَنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضَعُفُوا وما استكانوا} .

وثانيهم: قوم من أهل العلم والعمل متلبسون بكريم الخلق، تاركون لما كره الله، لا تأخذهم في الله لومة لائم، لكن فيهم حدة وصلابة في التعبير، ففاتهم الرفق الواجب في الأمر والنهي، فكانوا دون من قبلهم.

ثالثهم: علماء بما يأمرون، وينهون، لكنَّهم غافلون عن الآفات المفسدة للأمر والنهي، فيغلب عليهم سوء الظن بالمسلمين.

ورابعهم: قوم صلحاء أخيار، ولكنَّهم لا يعرفون قواعد الأمر والنهي، ومنهم من يكون رفيقاً صبوراً على الأذى سراً وجهراً، ومنهم من يأمر وينهى بمقتضى الغيرة، ولكنَّهم لا يصبرون.

وخامسهم: العامّة الذين رزقوا حظاً من القبول بين الناس يخبطون في الأمر والنهي على غير علم فيفسدون أكثر مما يصلحون.

وسادسهم: وهم في الجهل كسابقيهم إلاَّ أنَّهم غافلون عن كل ما يأمرون وينهون، مقارفون للمعاصي.

وسابعهم: دون الذين قبلهم وأخس؛ لأنَّهم نصبوا أنفسهم للأمر والنهي رياء وسمعة، واكتساباً للمحامد والرفعة، وتزينوا بزي الصالحين، وأخذوا سمتهم وسيلة لنيل مآربهم.

وثامنهم: ليس لهم نية ثابتة صحيحة، فهم يأمرون الضعفاء، ويضعفون عن الأقوياء مع قدرتهم، ويحابي بعضهم الأصحاب وذوي الهيئات لغرض شيطاني مذموم.

فمن وفقه الله لبلوغ المرتبة الأولى من تلك الأصناف فجاهد نفسه وزكَّاها حتى أشربت بالإخلاص والعلم والعمل كان هو المحتسب الأمثل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.

ثالثاً: الحكمة
قال الله عز وجل في محكم التنزيل: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}.

الحكمة في اللغة بكسر الحاء وإهمال الكاف وضم الميم: العدل. والحكيم: المتقن للأمور. والحكيم: العالم.

أما في الاصطلاح فقد ذكر العلماء لها عدة معان منها:

· عن ابن عباس رضي الله عنهما: يعني المعرفة بالقرآن، ناسخه، ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.

· قال السدي: الحكمة النبوة.

· قال أبو مالك: الحكمة السنة.

· قال أبو العالية: الحكمة خشية الله.

· قال إبراهيم النخعي: الحكمة الفهم.

· قال زيد بن أسلم: الحكمة العقل.

· قال مالك: وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة: هو الفقه في دين الله، وأمر يدخله الله في القلوب من رحمته وفضله.

· قال الراغب الأصفهاني: الحكمة: إصابة الحق بالعلم والعقل.

· قال إسماعيل الهروي: هي وضع الشيء في موضعه.

· أما ابن القيم فعرف الحكمة بأنها: فعل ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي في الوقت الذي ينبغي.

والذي أراه أنَّ الأرجح من هذه الأقوال هو تعريف الإمام ابن القيم والله تعالى أعلم بالصواب.

هذا فيما يتعلق بمفهوم الحكمة على الإطلاق، أما باعتبار خصوصيتها للمحتسب فهي: معيار ضابط للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باعتبار حال المأمور والمنهي، والأسلوب المناسب له في الوقت المناسب.

فليس كل الناس يصلح لهم أسلوب واحد في الاحتساب، وليست جميع المنكرات يصلح لها الاحتساب نفسه في الوقت نفسه، هذا التفاوت يقتضي استخدام المعيار الضابط لذلك كله وهو الحكمة في جميع الأحوال، بحيث يستخدم المحتسب الأسلوب المناسب للاحتساب مع من يناسبه من الناس في الوقت المناسب.

"فليس من الحكمة استخدام أسلوب واحد في الأمر والنهي مع الكبير والصغير والرجل والمرأة والمثقف والجاهل والأمير والحقير والغضوب والهادئ بل لا بد من تنويع أسلوب المخاطبة بما يناسب السن والثقافة والطبيعة النفسية والمركز الاجتماعي لكل فرد"؛ لأن الحكمة تعني الإصابة في الأقوال والأفعال ووضع كل شيء في موضعه، إذن هي لين في وقت اللين فحسب، وشدة في وقت الشدة فحسب، فهي تعني العلم والوعي وتقدير الموقف ثم التفاعل مع الحدث تفاعلاً مثمراً.

وهذا ما أشار إليه الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في رسالته التي أرسله إلى إخوانه من أهل سدير حيث قال رحمه الله: "إن بعض أهل الدين ينكر منكراً وهو مصيب لكن يخطئ في تغليظ الأمر إلى شيء يوجب الفرقة بين الإخوان".

هذا التغليظ ناتج عن عدم انضباط معيار الحكمة في الاحتساب عند بعض الناس، ولقد وضع ابن القيم رحمه الله للحكمة ثلاثة أركان وأضداد فقال: "للحكمة ثلاثة أركان هي: العلم والحلم والأناة وآفاتها وأضدادها: الجهل والطيش والعجلة، فلا حكمة لجاهل ولا طائش ولا عجول".

ومن حكمة المحتسب أن يجعل لاحتسابه أولويات أساسية يقدم بعضها على بعض حسب الأهمية، وسلَّم الأولويات هذه يتطلب البدء بأمور العقيدة وتقديم الكليات على الجزئيات.