عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 4  ]
قديم 2009-04-01, 5:13 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي
وقد قال أحمد في رواية المروذي رحمهما الله: لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ولا يُشدِّد عليهم.

وقال سفيان الثوري رحمه الله: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف وأنت ترى غيره فلا تنهه.

وروى الخطيب البغدادي عنه ـ أي عن سفيان الثوري رحمهما الله ـ قوله: "ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به".

إلاَّ أنَّ المحور الذي تدور عليه هذه القاعدة هي فروع الشريعة لا أصولها، قال القاضي أبو يعلى رحمه الله: "المصيب واحد من المجتهدين في أصول الديانات، وقد نص أحمد رحمه الله في مواضع على تكفير جماعة من المتأولين كالقائلين بخلق القرآن ونفي الرؤية وخلق الأفعال وهذا يمنع إصابتهم في اجتهادهم وهو قول الجماعة". وهذا مما يسوغ الإنكار على المخطئ من المجتهدين في أصول الدين؛ لأنَّه لا مجال فيها للاجتهاد كونها توقيفية، بينما لا يسوغ ذلك في فروع الدين الاجتهادية.

قال ابن بدران رحمه الله: "لا يُنقض حكم حاكم في مسائل اجتهادية عند الأئمة الأربعة ومن وافقهم، وهو معنى قول الفقهاء في الفروع: لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد".

كما أنَّ هذه القاعدة مقيدة بشرط أساسي هو معارضة الدليل، وقد أشار الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله إلى ذلك في قوله: "وأما مذهبنا فمذهب أحمد بن حنبل إمام أهل السنّة، ولا ننكر على أهل المذاهب الأربعة إذا لم يخالف نص الكتاب والسنّة وإجماع الأمة وقول جمهورها".

فمتى اختل هذا الشرط امتنع تعميم القاعدة، قال الحجاوي المقدسي رحمه الله: "فإن حَكَم باجتهاده فليس لأحد منهم الاعتراض عليه وإن خالف؛ إلاَّ يحكم بما يخالف نصاً أو إجماعاً" أ.هـ

قال السفاريني رحمه الله: "إنَّما يتمشى عدم الإنكار في مسائل الاختلاف حيث لم يُخالف نصاً صريحاً في كتاب وسنّة صحيحة صريحة وإجماع قديم، وأما متى خالفت ساغ الإنكار" أ.هـ

لإخلالها بشرطها المذكور: "لأن أحد الاجتهادين ليس بأولى بالصواب من الآخر، ونقض الأول بالثاني فتح لباب الفوضى، وعدم الاستقرار".

"فأما أحكام الفروع فالحق فيها واحد عند الله تعالى، وقد نصب الله على ذلك دليلاً غامضاً أو جلياً، وكلف المجتهد طلبته وإصابته بذلك الدليل، فإذا اجتهد وأصابه كان مصيباً عند الله تعالى وفي الحكم، وله أجران: أحدهما على إصابته، والآخر على اجتهاده، وإن أخطأ كان مخطئاً عند الله وفي الحكم، وله أجر على اجتهاده، والخطأ موضوع عنه" أ.هـ

فهو معذور مأجور على اجتهاده؛ لأنَّ اجتهاده في طلب الحق عبادة، وذلك لحديث عمرو ابن العاص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".

فهذا الحديث صريح في أنَّ المجتهد يحكم باجتهاده فيخطئ ويؤجر دون أجر المصيب، كما أنَّه يدحض قول المعتزلة: "كل مجتهد مصيب"، وهذا المذهب ـ الذي ـ أوله سفسطة وآخره زندقة؛ لأنَّه في الابتداء يجعل الشيء ونقيضه حقاً، وبالآخر يُخيِّر المجتهدين بين النقيضين عند تعارض الدليلين ويختار من المذاهب أطيبها.

وما أشنع ما قاله هؤلاء الجاعلون حكم الله عز وجل متعدداً بتعداد المجتهدين، تابعاً لما يصدر عنهم من الاجتهادات، فإنَّ هذه المقالة مع كونها مخالفة للأدب مع الله عز وجل ومع شريعته المطهرة، هي أيضاً صادرة عن محض الرأي الذي لم يشهد له دليل ولا عضدته شبهة تقبلها العقول، وهي أيضاً مخالفة لإجماع الأمة سلفها وخلفها، فإن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم في كل عصر من العصور ما زالوا يُخطئون من خالف في اجتهاده. والله أعلم.

صفات المحتسب[*]
أولاً: الإخلاص
قبيل أن يباشر المحتسب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا بد له أن يتزود، فالمسير طويل.. وخير ما يتزود به في رحلته.. الإخلاص.

والإخلاص في اللغة: من خلص الشيء بالفتح، وأخلص الشيء اختاره، وأخلص لله دينه: أمحضه وكل شيء يتصور أن يشوبه غيره، فإذا صفا عن شوبه وخلص سمي خالصاً أو يسمى الفعل المصفَّى إخلاصاً.

أما في الاصطلاح فهو: تجريد قصد القُرب إلى الله تعالى عن جميع الشوائب وتصفية العمل عن شوائب الكدر وعن ملاحظة المخلوقين. فالإخلاص من عمل القلب الذي يراد به وجه الله تعالى لا غيره بأن يأتي بالعمل خالصاً له تعالى لا يشرك به سواه، فإذا افترضنا أن العمل الصالح كالجسد، فإن الإخلاص هو روح ذلك الجسد، ولا قيمة للجسد في الحياة إذا فاضت روحه! وهكذا فإن الأعمال التي يستعظمها الناس لا وزن لها عند الله عز وجل إذا فقدت هذه الروح.

قال تعالى: {قل إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليَّ أنَّما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}، ففي الآية الكريمة دلالة على اشتراط الإخلاص في العمل الصالح والله أعلم.

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: "وهو ـ أي العمل الصالح ـ الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له، وهذان ركنا العمل المُتقبل، لا بد أن يكون خالصاً لله صواباً على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم". أ.هـ

فإذا اختل واحد من هذين الشرطين لم يكن العمل صالحاً ولا مقبولاً، وإنَّما يكون جاعلاً له شريكاً بعبادته إذا رأى بعمله الذي ظاهره أنَّه لله وهو مريد به غيره.

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنما الأعمال بالنيات وإنَّما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه"، فقد دل الحديث الشريف على أنَّ عمل المرائي باطل لا ثواب فيه ويأثم به وكذا من يُسمِّع بأعماله. والفرق بين الرياء والسمعة أن الرياء هو العمل لرؤية الناس، والسمعة العمل لأجل سماعهم، فالرياء يتعلق بحاسة البصر، والسمعة بحاسة السمع.

وأخرج ابن أبي الدنيا عن عمر بن عبدالعزيز ـ رحمهما الله ـ قال: يا معشر المستترين اعلموا أنَّ عند الله مسألة فاضحة، قال تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون}. وعن عبدالله الجزري رحمه الله قال: كانت العلماء إذا التقوا تواصوا بهذه الكلمات، وإذا غابوا كتب بعضهم إلى بعض أنَّه: من أصلح سريرته أصلح الله علانيته، ومن أصلح ما بينه وبين الله كفاه الله ما بينه وبين الناس ومن اهتم بأمر آخرته كفاه الله أمر دنياه.

قيل لبعض الحكماء: من المُخْلص؟ قال: المخلص الذي يكتم حسناته كما يكتم سيئاته، وقيل لبعضهم: ما غاية الإخلاص؟ قال: ألاَّ تُحب مَحْمَدَةَ الناس.

ويتأكد وجوب الإخلاص في حال كون العمل بارزاً ظاهراً يراه الناس ويشاهدونه، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لذلك يجب على المحتسب أن يقصد بقوله وفعله وجه الله تعالى وطلب مرضاته، خالص النية لا يشوبه في طويته رياء ولا سمعة، ويجتنب في رياسته منافسة الخلق، ومفاخرة أبناء الجنس، وعليه أن يتجرد من حظوظ النفس الأمّارة بالسوء من طلب الشهرة وطلب المنزلة في قلوب العامّة أو الطمع في تحصيل وظيفة دنيوية، أو شيء من حطام الدنيا الفانية، أو أن يظهر فضله في دينه أو علمه أو عمله أو عقله على من يأمره وينهاه، ونحو ذلك مما يزينه الشيطان ويكيد به الإنسان ليبطل عمله ويفسد سعيه لينشر الله تعالى عليه رداء القبول وعَلَم التوفيق، ويقذف له في القلوب مهابةً وجلالاً ومبادرةً إلى قبول قوله بالسمع والطاعة.

وأبرز ما يدل على إخلاص المحتسب أن يكون زوال المنكر بإنكار غيره أحب إليه من زواله على يده؛ فإنَّ الآمر بالمعروف إذا لم يفطن لهذا الجانب فإنَّه على خطر عظيم؛ لأنَّ الشيطان حريص على أن يفسد عليه عمله.

وقد بيّن الإمام محمد بن عبدالوهاب ـ رحمه الله ـ الأسلوب الأمثل في الاحتساب على من يُخشى عليه الإخلال بالإخلاص فقال في إحدى رسالاته رحمه الله: "فإذا خاف أحد منكم من بعض إخوانه قصداً سيئاً فلينصحه برفق وإخلاص لدين الله وترك الرياء والقصد الفاسد ولا يفل عزمه عن الجهاد ولا يتكلم فيه الظن السيئ وينسبه إلا ما لا يليق".

ولا يخفى أن اتهام الإنسان المقبل بحماس على الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في نيته قد يصيب همته بشيء من التراخي والفتور، وربما أدى به الحال إلى الإحباط وهذا جُلُّ ما يتمناه الشيطان أعاذنا الله منه.

كما أنَّ النوايا أسرار خفية لا يعلمها إلاَّ الله عز وجل، والشيخ الإمام محمد ابن عبدالوهاب بكلامه السابق يضع ضابطاً جوهرياً في قضية الحكم على الآخرين، وهو عدم الحكم على النوايا والسرائر بأي حال من الأحوال؛ لأنَّ علمها عند الله عز وجل.