الشرط الثالث: ألاَّ يكون الإنكار في مسائل الاجتهاد
من دلائل يسر الشريعة الإسلامية وسماحتها أنَّ الله عز وجل يثيب كل مجتهد على اجتهاده الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد، ومن ثمَّ فإنَّ الشريعة الإسلامية تصون للمجتهد حرمته، أصاب أم أخطأ، وتمنع الإنكار في مسائل الاجتهاد، وهذا هو الشرط الثالث والأخير من شروط الاحتساب عند الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله.
فما هو الاجتهاد؟
الاجتهاد لغة: الجُهْدُ: الطاقة، والجَهْدُ: المشقة.. والاجتهاد والتجاهد: بذل الوُسْعِ والمجهود. وهو بذلك الوُسْعِ في طلب المقصود أو تحصيل الشيء.
واصطلاحاً: بذل الجهد في تعريف الأحكام، واستفراغ الفقيه الوسع في درك الأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها التفصيلية.
ويقصد به استفراغ الفقيه الوسع ليحصل به ظن بقضية أو حكم فقهي. والمراد ببذل الجهد: بذل تمام المقدرة والطاقة واستقصاء الوسع بحيث يحس الباذل بالعجز عن بذل المزيد.
والمجتهد: هو من يمكنه تعرف الصواب بدليله، ومن لا يعرفه بدليله يكون مقلداً.
فالمجتهد هو الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي، فهو من حفظ وفهم أكثر الفقه وأصوله وأدلته في مسائله إذا كانت له أهلية تامة يمكّنه معرفة أحكام الشرع فيها بالدليلة.
ويشترط في المجتهد عدة شروط منها:
1ـ أن يكون عالماً بنصوص الكتاب والسنة، خاصة بما يتعلق منها بالأحكام.
2ـ أن يكون عارفاً بالناسخ والمنسوخ، بحيث لا يخفى عليه شيء من ذلك مخافة أن يقع في الحكم المنسوخ.
3ـ أن يكون عارفاً بما يتعلق بصحة الحديث وضعفه، كمعرفة الإسناد ورجاله وغير ذلك.
4ـ أن يكون عالماً بلسان العرب، بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه.
5ـ أن يكون عالماً بطرق الاجتهاد، أي أن يعرف الأدلة الشرعية وهي على نوعين.. منها ظاهر ومنها استنباط، وكيفية الاستدلال بها.
6ـ أن يكون عارفاً بمسائل الإجماع، حتى لا يفتي بخلاف ما وقع الإجماع عليه.
7ـ أن يكون عالماً بعلم أصول الفقه، فهو عمود فسطاط الاجتهاد وأساسه الذي يقوم عليه أركان بنائه.
ولقد ذكر الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله في رسالته إلى العلماء الأعلام في بلد الله الحرام القاعدة الأصولية المتعلقة بالاجتهاد حيث قال ـ رحمه الله ـ: "إن كانت مسألة اجتهاد فمعلومكم أنَّه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فمن عمل بمذهبه في محل ولايته لا ينكر عليه".
كما أشار إليها في المسألة الخامسة في مسائله رحمه الله، وقال رحمه الله موضحاً لهذه القاعدة الأصولية: "وأما المسألة الخامسة وهي قول من قال: لا إنكار في مسائل الإجتهاد.. فإن أراد القائل مسائل الخلاف كلها فهذا باطل يخالفه إجماع الأمة، فما زال الصحابة ومن بعدهم ينكرون على من خالف أو أخطأ كائناً من كان، ولو كان أعلم الناس وأتقاهم، وإذا كان الله قد بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق وأمرنا باتباعه وترك ما خالفه، فمن تمام ذلك أنَّ من خالفه من العلماء مخطئاً نُبِّه على خطئه وأُنْكِر عليه.
وإن أريد بمسائل الاجتهاد مسائل الخلاف التي لم يتبين فيها الصواب، فهذا كلام صحيح، لا يجوز للإنسان أن ينكر الشيء لكونه مخالفاً لمذهبه أو لعادة الناس، فكما لا يجوز للإنسان أن يأمر إلاَّ بعلم، لا يجوز أن ينكر إلاَّ بعلم، وهذا كله داخل في قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم}. وهذه القاعدة قد استفاضت بها كتب أهل العلم في الفقه وأصوله، قال السيوطي رحمه الله: "القاعدة الخامسة والثلاثون: لا ينكر المختلف فيه وإنَّما ينكر المجمع عليه".
قال الحجاوي المقدسي رحمه الله: "... فيحكم كل واحد باجتهاده وليس للآخر الاعتراض عليه ولا نقض حكمه". وهي نفسها القاعدة الأصولية المعروفة: "الاجتهاد لا ينقض بمثله"، والتي حللها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قائلاً: "مسائل الاجتهاد من عمل فيها بقول بعض العلماء لم ينكر عليه ولم يهجر، ومن عمل بأحد القولين لم ينكر عليه" أ.هـ
وقال رحمه الله في موضع آخر: "فهذه مسائل الاجتهاد التي تنازع فيها السلف والأئمة، فكل منهم أقر الآخر على اجتهاده، من كان فيها أصاب الحق فله أجران، ومن كان قد اجتهد فأخطأ فله أجر، وخطأه مغفور له، فمن ترجح عنده تقليد الشافعي لم ينكر على من ترجح عنده تقليد مالك، ومن ترجح عنده تقليد أحد لم ينكِر عليه من ترجح عنده تقليد الشافعي ونحو ذلك" أ.هـ
وقال القاضي أبو يعلى رحمه الله: "فإن كان الشيء مما اختلف الفقهاء وسوغوا الاجتهاد في حكمه فقال بعضهم إنَّه جائز، وقال بعضهم إنَّه غير جائز لم يقدم على إنكاره" أ.هـ