وقال الإمام ابن القيم رحمه الله موضحاً لهذه القاعدة: "إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر؛ ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض على الله ورسوله فإنَّه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر..، ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر، فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزم على تغيير البيت وردِّه إلى قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه، كما وجد سواء، فإنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.
الثانية: أن يقل وإن لم يزل بجملته.
الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.
الرابعة: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة" أ.هـ
ومن فقه إنكار المنكر أنَّه ينبغي للآمر بالمعروف أن يأمر في السر إن كان مستطيعاً ليكون أبلغ في الموعظة والنصيحة. قال الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ:
تعمدنـي بنصحك في انفرادي *** وجنبني النصيحة في الجماعــة
فإنَّ النصح بين الناس نـــوع *** من التوبيخ لا أرضى استماعــه
وإن خالفتني وعصيت أمري *** فلا تجزع إذا لم تلق طاعـــــــة
وذلك مع كافة أصناف المحتسب عليهم ويزداد الأمر وجوباً مع ولاة الأمر.
ولقد استوعب الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله هذه القواعد جيداً؛ لذلك نجده في الرسالة نفسها التي قرر فيها هذه القاعدة الأصولية التي ذكرناها في بداية المطلب يبين فقه إنكار المنكر على ولي الأمر فيقول: "إذا صدر المنكر من أمير أو غيره أن يُنصح برفق خفية ما يشترف أحد، فإن وافق وإلاَّ استلحق عليه رجلاً يقبل منه بخفية، فإن لم يفعل فيمكن الإنكار ظاهراً، إلاَّ إن كان على أمير ونصحه ولا وافق فاستلحق عليه ولا وافق فيرفع الأمر يمناً خفية". أ.هـ
وذلك سداً لذريعة الشر والفتنة، فإن إنكار المحتسب على ولي الأمر لا يؤتي أكله وثماره الطيبة إلا إذا كان بطريقة خفية سرية رفيقة لمن هو قادر عليه، فإن لم ير له قبولاً فيكتفي برفعه للعلماء لتولي هذه المهمة بطريقتهم الخاصة، وبذلك تكون قد برئت ذمة المحتسب ولا يحق له استخدام الإنكار العلني في حالة عدم الاستجابة بأي حال من الأحوال.
وحول هذا المعنى قال سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز حفظه الله: "ليس من منهج السلف التشهير بعيوب الولاة وذكر ذلك على المنابر؛ لأنَّ ذلك يفضي إلى الفوضى وعدم السمع والطاعة في المعروف، ويفضي إلى الخوض الذي يضر ولا ينفع، ولكن الطريقة المتبعة عند السلف النصيحة فيما بينهم وبين السلطان والكتابة إليه أو الاتصال بالعلماء الذين يتصلون به حتى يوجّه إلى الخير، وإنكار المنكر يكون من دون ذكر الفاعل فينكر الزنا وينكر الخمر وينكر الربا دون ذكر من فعله، ويكفي إنكار المعاصي والتحذير منها من غير أن يذكر فلاناً يفعلها لا حاكم ولا غير حاكم.... ولمّا فتحوا ـ أي الخوارج ـ الشر في زمن عثمان رضي الله عنه، وأنكروا على عثمان جهرة، تمت الفتنة والقتال والفساد الذي لا يزال الناس في آثاره إلى اليوم، حتى حصلت الفتنة بين علي ومعاوية، وقُتل عثمان بأسباب ذلك، وقُتل جمع كثير من الصحابة وغيرهم بأسباب الإنكار العلني، وذكر العيوب علناً حتى أبغض الناس وليَّ أمرهم وقتلوه، نسأل الله العافية" أ.هـ
وفي الحديث: قيل لأسامة: لو أتيت فلاناً فكلمته. قال: إنَّكم لترون أني لا أكلمه إلاّ أُسمعكم؟! إنّي أكلمه في السر دون أن أفتح باباً لا أكون أول من فتحه... الحديث. يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: أرادوا من أسامة رضي الله عنه أن يكلم عثمان رضي الله عنه، وكان من خاصته وممن يخف عليه في شأن الوليد بن عقبة؛ لأنَّه كان ظهر عليه ريح نبيذ وشَهُر أمره، وكان أخا عثمان رضي الله عنه لأمه، وكان يستعمله... وجزم الكرماني بأنَّ المراد أن يكلّمه فيما أنكره الناس على عثمان رضي الله عنه من تولية أقاربه وغير ذلك مما اشتهر.. فقال أسامة: قد كلمته سراً دون ما أن أفتح باباً ـ أي باب الإنكار على الأئمة علانية خشية أن تفترق الكلمة.. وقال عياض: مراد أسامة أنَّه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك، بل يتلطف به وينصحه سراً فذلك أجدر بالقبول.. ثم عرّفهم أنّه لا يداهن أحداً ولو كان أميراً بل ينصح له في السر جهده، وذكر لهم قصة الرجل يُطرح في النار لكونه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله ليتبرأ مما ظنوا به من سكوته عن عثمان في أخيه.. فأشار أسامة إلى المداراة المحمودة والمداهنة المذمومة، وضابط المداراة أن لا يكون فيها قدح في الدين، والمداهنة المذمومة أن يكون فيها تزيين القبيح وتصويب الباطل. كأن يشكر ظالماً على ظلمه أو مبتدعاً على بدعته أو مبطلاً على إبطاله، فهذه مداهنة محرمة، بينما المداراة المشروعة كشكر الظلمة والفسقة الذين يُتقى شرهم والتبسم في وجوههم.
والدليل من السنة على وجوب سرية الإنكار على ولاة الأمر حديث شريح بن عبيد الحضرمي وغيره قال: جلد عياض بن غنم رضي الله عنه صاحب دار حين فتحت، فأغلظ له هشام بن حكيم رضي الله عنه القول حتى غضب عياض، ثم مكث ليالي، فأتاه هشام بن حكيم فاعتذر إليه ثم قال هشام لعياض ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إنَّ من أشد الناس عذاباً أشدهم عذاباً في الدنيا للناس"، فقال عياض بن غنم: يا هشام بن حكيم قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت، أو لم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أراد أن ينصح السلطان بأمر فلا يبد له علانية، ولكن ليأخذ بيده فيخلو به؛ فإن قبل منه فذاك وإلاَّ كان قد أدى الذي عليه له"، وإنَّك يا هشام لأنت الجريء إذ تجترئ على سلطان الله، فلا خشيتَ أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى.
وهذا الحديث أصل في إخفاء نصيحة السلطان، وأنَّ المحتسب إذا قام بالإنكار عليه على هذه الوجه فقد برئت ذمته، فولاة الأمر لهم منزلة القيادة في الأمة فينبغي احترامهم، ومن احترامهم أن يكون أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر بالتعريف والوعظ اللين، فأما تخشين القول نحو يا ظالم، يا من لا يخاف الله، فليس من منهج السلف الصالح.
ومما وعظ به ابن الجوزي الخليفة المستضيء بأمر الله قوله: "يا أمير المؤمنين كن لله سبحانه مع حاجتك إليه كما كان لك مع غناه عنك، إنَّه لم يجعل أحداً فوقك فلا ترضى أن يكون أحد أشكر له منك" فتصدق أمير المؤمنين بصدقات وأطلق مسجونين.
وهكذا يثمر الإنكار السري والوعظ اللطيف مع الولاة ثماراً طيبة بإذن الله، حيث يلين قلب من وفقه الله للحق فيرعوي الظالم عن ظلمه، ويقبل المدبر منهم إلى الله إقبالاً؛ لأن النفس البشرية جبلت على عدم الاستجابة لمن يقرعها على ملأ من الناس، فما بالك بالأمير والسلطان الذي آتاه الله الرفعة والجاه بين الناس؟ لذلك شدد أهل السنة والجماعة في عدم الإنكار العلني على الولاة، واستخدام أسلوب المصادمة أو العنف مع الظلمة منهم، درءً لمفسدة أعظم من ظلمهم هي الخروج والفتنة الناجمة عنه، قال الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ: "ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس، فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنّة والطريق" أ.هـ
ولقد فسر ابن الأثير النصيحة لأئمة المسلمين بقوله: "أن يطيعهم في الحق ولا يرى الخروج عليهم بالسيف وإن جاروا". لأنَّ الشر الحادث من الخروج الناتج عن الإنكار العلني على الولاة أعظم خطورة من الشر الناتج عن ظلمهم ومنكراتهم.
كما حذر أهل السنة والجماعة من الوقيعة في أعراض الأئمة، والتنقص لهم، أو الدعاء عليهم؛ لأنَّ هذه الأمور من أسباب وجود الضغائن والأحقاد بين الولاة والرعية، ومن أسباب نشوء الفتن والنزاع في صفوف الأمة.
قال الإمام الطحاوي رحمه الله: "ولا نرى الخروج على أئمتنا ولاة أمورنا وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يداً من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا بمعصية، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة" أ.هـ
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "لو أنَّ لي دعوة مستجابة ما صيرتها إلاَّ في الإمام، قيل له: وكيف ذلك يا أبا علي؟ قال: متى ما صيرتها في نفسي لم تحزني، ومتى صيرتها في الإمام فصلاح الإمام صلاح العباد والبلاد".
وروى ابن كثير أنَّ رجلاً من المبتدعة يقال له "ابن البلخي" وشى إلى الخليفة ـ المتوكل ـ شيئاً فقال: إنَّ رجلاً من العلويين قد آوى إلى منزل أحمد بن حنبل وهو يبايع له الناس في الباطن، فأمر الخليفة نائب بغداد أن يكْبِس منزل أحمد من الليل، فلم يشعروا إلاَّ والمشاعل قد أحاطت بالدار من كل جانب حتى من فوق الأسطحة، فوجدوا الإمام جالساً في داره مع عياله، فسألوه عمّا ذكر عنه فقال: ليس عندي من هذا علم، وليس من هذا شيء ولا هذا من نيتي، وإني لأرى طاعة أمير المؤمنين في السر والعلانية، وفي عسري ويسري، ومنشطي ومكرهي، وأثرة عليّ، وإني لأدعو الله له بالتسديد والتوفيق، في الليل والنهار" أ.هـ
هكذا يعامل السلف حكامهم على هدي من الكتاب والسنة. ولقد استفاضت الأدلة في وجوب السمع والطاعة لولاة الأمر وإن جاروا، والصبر عليهم، ولا يتسع المقام لحصرها، ولكن نذكر منها شاهداً من السنة: عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنَّه يُستعمل عليكم أمراء فتعرفون منهم وتنكرون، فمن كره فقد بريء، ومن أنكر فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا. ما صلوا" قال قتادة: يعني من أنكر بقلبه وكره بقلبه.
ولقد قرر هذا المنهج الشيخ الإمام محمد بن عبدالوهاب رحمه الله حيث قال: "مذهب أهل السنة والجماعة أنَّ الأمراء الظلمة مشاركون فيما يُحتاج إليهم فيه من طاعة الله، فيُصلي خلفهم، ويُجاهد معهم، ويُستعان بهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن حكم منهم بعدل نفذ حكمه، وإن أمكن تولية برٍّ لم يجز تولية فاجر، فيجتهدون في الطاعة بحسب الإمكان كما قال تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم}، ويعلمون أنَّ الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بصلاح العباد، فإذا اجتمع صلاح وفساد رجَّحوا الراجح منهما، وقلَّ من خرج على دين سلطان إلاَّ كان ما تولد عن فعله من الشر أعظم من الخير، فلا أقاموا ديناً ولا أبقوا دنيا، وإن كان فيهم خَلْق من أهل العلم والدين، وهذا مما يبين، أنَّ ما أمر به ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الصبر على جور الأئمة هو الأصلح، فالشارع أمر كلاً بما هو أصلح له وللمسلمين، فأمر الولاة بالعدل والنصح لرعيتهم، وأمر بالصبر على استيثارهم ومنازعتهم الأمر والفتن في كل زمان بحسب رجاله، والفتنة تمنع معرفة الحق وقصده والقدرة عليه، ففيها من الشبهات ما يلبس الحق بالباطل، حتى لا يتميز لكثير من الناس، ومن الشهوات ما يمنع قصد الحق، ومن قوة الشر ما يضعف القدرة على الخير، ولهذا يقال: "فتنة عميا صما" أ.هـ عياذاً بالله.