الـدرس الرابــع 12 - 18
تعقيبات على قصة أصحاب الأخدود , من صفات الله وهلاك الكفار ثم تتوالى التعقيبات . .
(إن بطش ربك لشديد). .
وإظهار حقيقة البطش وشدته في هذا الموضع هو الذي يناسب ما مر في الحادث من مظهر البطش الصغير الهزيل ، الذي يحسبه أصحابه ويحسبه الناس في الأرض كبيرا شديدا . فالبطش الشديد هو بطش الجبار . الذي له ملك السماوات والأرض . لا بطش الضعاف المهازيل الذين يتسلطون على رقعة من الأرض محدودة , في رقعة من الزمان محدودة . . .
ويظهر التعبير العلاقة بين المخاطب - وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، والقائل وهو الله عز وجل . وهو يقول له:
( إنّ بطــشَ ربـك . .)
ربك الذي تنتسب إلى ربوبيته , وسندك الذي تركن إلى معونته . . ولهذه النسبة قيمتها في هذا المجال الذي يبطش فيه الفجار بالمؤمنين !
(إنه هو يبدئ ويعيد ). .
والبدء والإعادة وإن اتجه معناهما الكلي إلى النشأة الأولى والنشأة الآخرة . .
إلا أنهما حدثان دائبان في كل لحظة من ليل أو نهار . ففي كل لحظة بدء وإنشاء , وفي كل لحظة إعادة لما بلي ومات . والكون كله في تجدد مستمر . . وفي بلى مستمر . . وفي ظل هذه الحركة الدائبة الشاملة من البدء والإعادة يبدو حادث الأخدود ونتائجه الظاهرة مسألة عابرة في واقع الأمر وحقيقة التقدير .
فهو بدء لإعادة . أو إعادة لبدء . في هذه الحركة الدائبة الدائرة . .
(وهو الغفور الودود). .
والمغفرة تتصل بقوله من قبل: (ثم لم يتوبوا). . فهي من الرحمة والفضل الفائض بلا حدود ولا قيود .
وهي الباب المفتوح الذي لا يغلق في وجه عائد تائب . ولو عظم الذنب وكبرت المعصية . .
أما الود . . فيتصل بموقف المؤمنين , الذين اختاروا ربهم على كل شيء . وهو الإيناس اللطيف الحلو الكريم .
حين يرفع الله عباده الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبة , يتحرج القلم من وصفها لولا أن فضل الله يجود بها . . مرتبة الصداقة . . الصداقة بين الرب والعبد . . ودرجة الود من الله لأودائه وأحبائه المقربين . . فماذا تكون الحياة التي ضحوا بها وهي ذاهبة ? وماذا يكون العذاب الذي احتملوه وهو موقوت ? ماذا يكون هذا إلى جانب قطرة من هذا الود الحلو ? وإلى جانب لمحة من هذا الإيناس الحبيب ?
إن عبيدا من رقيق هذه الأرض . عبيد الواحد من البشر , ليلقون بأنفسهم إلى التهلكة لكلمة تشجيع تصدر من فمه , أو لمحة رضاء تبدو في وجهه . . وهو عبد وهم عبيد . . فكيف بعباد الله . الذين يؤنسهم الله بوده الكريم الجليل , الله( ذو العرش المجيد ) العالي المهيمن الماجد الكريم ?
ألا هانت الحياة . وهان الألم . وهان العذاب . وهان كل غال عزيز , في سبيل لمحة رضى يجود بها المولى الودود ذو العرش المجيد . .
(فعال لما يريد). .
هذه صفته الكثيرة التحقق , الدائبة العمل . . فعال لما يريد . . فهو مطلق الإرادة , يختار ما يشاء ; ويفعل ما يريده ويختاره , دائما أبدا , فتلك صفته سبحانه .
يريد مرة أن ينتصر المؤمنون به في هذه الأرض لحكمة يريدها . ويريد مرة أن ينتصر الإيمان على الفتنة وتذهب الأجسام الفانية لحكمة يريدها . . يريد مرة أن يأخذ الجبارين في الأرض . ويريد مرة أن يمهلهم لليوم الموعود . . لحكمة تتحقق هنا وتتحقق هناك , في قدره المرسوم . .
فهذا طرف من فعله لما يريد . يناسب الحادث ويناسب ما سيأتي من حديث فرعون وثمود .
وتبقى حقيقة الإرادة الطليقة والقدرة المطلقة وراء الأحداث ووراء الحياة والكون تفعل فعلها في الوجود . فعال لما يريد . . وهاك نموذجا من فعله لما يريد :
( هل أتاك حديث الجنود:فرعون وثمود ?).
وهي إشارة إلى قصتين طويلتين , ارتكانا إلى المعلوم من أمرهما للمخاطبين , بعدما ورد ذكرهما كثيرا في القرآن الكريم .
ويسميهم الجنود . إشارة إلى قوتهم واستعدادهم . . هل أتاك حديثهم ? وكيف فعل ربك بهم ما يريد ?
وهما حديثان مختلفان في طبيعتهما وفي نتائجهما . .
فأما حديث فرعون , فقد أهلكه الله وجنده ونجى بني إسرائيل , ومكن لهم في الأرض فترة , ليحقق بهم قدرا من قدره , وإرادة من إرادته . وأما حديث ثمود فقد أهلكهم الله عن بكرة أبيهم وأنجى صالحا والقلة معه حيث لم يكن لهم بعد ذلك ملك ولا تمكين . إنما هي مجرد النجاة من القوم الفاسقين .
وهما نموذجان لفعل الإرادة , وتوجه المشيئة . وصورتان من صور الدعوة إلى الله واحتمالاتها المتوقعة , إلى جانب الاحتمال الثالث الذي وقع في حادث الأخدود . . وكلها يعرضها القرآن للقلة المؤمنة في مكة , ولكل جيل من أجيال المؤمنين . .
.
الــدرس الخـامـس :19 - 22
هزيمة الكفار وحفظ القرآن :
وفي الختام يجيء إيقاعان قويان جازمان . في كل منهما تقرير , وكلمة فصل وحكم أخير:
( بل الذين كفروا في تكذيب , والله من ورائهم محيط ). .
فشأن الكفار وحقيقة حالهم أنهم في تكذيب يمسون به ويصبحون .
( والله من ورائهم محيط ). .
وهم غافلون عما يحيط بهم من قهر الله وعلمه . فهم أضعف من الفيران المحصورة في الطوفان العميم !
(بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ). .
والمجيد الرفيع الكريم العريق . . وهل أمجد وأرفع وأعرق من قول الله العظيم ?
وهو في لوح محفوظ . لا ندرك نحن طبيعته , لأنه من أمر الغيب الذي تفرد الله بعلمه . إنما ننتفع نحن بالظل الذي يلقيه التعبير , والإيحاء الذي يتركه في القلوب . وهو أن هذا القرآن مصون ثابت , قوله هو المرجع الأخير , في كل ما يتناوله من الأمور . يذهب كل قول , وقوله هو المرعي المحفوظ . .
ولقد قال القرآن قوله في حادث الأخدود , وفي الحقيقة التي وراءه . . وهو القول الأخير .
===
هذا ما جاء في تفسير ( في ظلال القرآن ) ..
غير أن هناك تعليقاً آخر حول نفس السورة يضاف إلى هذا ،
ذكره المؤلف رحمه الله في كتاب المعالم .. وهو كلام قيم ورائع ..
تجده تحت عنوان ( هذا هو الطريق ) في نفس هذه المجموعة ، وبالله التوفيق
ابو عبد الرحمن