ســــورة البـــروج ..
( دروس وعــبر )
***************
هذه السورة القصيرة تعرض , حقائق العقيدة , وقواعد التصور الإيماني . .
أمورا عظيمة وتشع حولها أضواء قوية بعيدة المدى , وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبر عنها نصوصها حتى لتكاد كل آية - وأحيانا كل كلمة في الآية - أن تفتح كوة على عالم مترامي الأطراف من الحقيقة . .
.
والموضوع المباشر الذي تتحدث عنه السورة هو حادث أصحاب الأخدود . . والموضوع هو أن فئة من المؤمنين السابقين على الإسلام - قيل إنهم من النصارى الموحدين - ابتلوا بأعداء لهم طغاة قساة شريرين , وأرادوهم على ترك عقيدتهم والارتداد عن دينهم , فأبوا وتمنعوا بعقيدتهم . فشق الطغاة لهم شقا في الأرض , وأوقدوا فيه النار , وكبوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقا , على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرع الفئة المؤمنةبهذه الطريقة البشعة , ولكي يتلهى الطغاة بمشهد الحريق . حريق الآدميين المؤمنين:
(وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد). .
.
تبدأ السورة بقسم:
(والسماء ذات البروج , واليوم الموعود , وشاهد ومشهود , قتل أصحاب الأخدود . .)
فتربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة , واليوم الموعود وأحداثه الضخام , والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه . . تربط بين هذا كله وبين الحادث ونقمة السماء على أصحابه البغاة .
ثم تعرض المشهد المفجع في لمحات خاطفة , تودع المشاعر بشاعة الحادث بدون تفصيل ولا تطويل . . مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدتها , وانتصرت على النار وعلى الحياة ذاتها , وارتفعت إلى الأوج الذي يشرف الإنسان في أجياله جميعا . والتلميح إلى بشاعة الفعلة , وما يكمن فيها من بغي وشر وتسفل , إلى جانب ذلك الارتفاع والبراءة والتطهر من جانب المؤمنين:
(النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود). .
.
بعد ذلك تجيء التعقيبات المتوالية القصيرة متضمنة تلك الأمور العظيمة في شأن الدعوة والعقيدة والتصور الإيماني الأصيل:
إشارة إلى ملك الله في السماوات والأرض وشهادته وحضوره تعالى لكل ما يقع في السماوات والأرض:
الله(الذي له ملك السماوات والأرض . والله على كل شيء شهيد). .
وإشارة إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق الذي ينتظر الطغاة الفجرة السفلة ; وإلى نعيم الجنة . . ذلك الفوز الكبير . . الذي ينتظر المؤمنين الذين اختاروا عقيدتهم على الحياة , وارتفعوا على فتنة النار والحريق:
(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - ثم لم يتوبوا - فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق .
إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ذلك الفوز الكبير). .
.
وتلويح ببطش الله الشديد , الذي يبدئ ويعيد:
(إن بطش ربك لشديد . إنه هو يبدئ ويعيد). .
وهي حقيقة تتصل اتصالا مباشرا بالحياة التي أزهقت في الحادث , وتلقي وراء الحادث إشعاعات بعيدة . .
وبعد ذلك بعض صفات الله تعالى . وكل صفة منها تعني أمرا . .
(وهو الغفور الودود)
الغفور للتائبين من الإثم مهما عظم وبشع .
الودود لعباده الذين يختارونه على كل شيء . والود هنا هو البلسم المريح لمثل تلك القروح !
(ذو العرش المجيد . فعال لما يريد). .
وهي صفات تصور الهيمنة المطلقة , والقدرة المطلقة , والإرادة المطلقة . . وكلها ذات اتصال بالحادث . . كما أنها تطلق وراءه إشعاعات بعيدة الآماد .
.
ثم إشارة سريعة إلى سوابق من أخذه للطغاة , وهم مدججون بالسلاح . .
(هل أتاك حديث الجنود . فرعون وثمود ?)
وهما مصرعان متنوعان في طبيعتهما وآثارهما . ووراءهما - مع حادث الأخدود - إشعاعات كثيرة .
وفي الختام يقرر شأن الذين كفروا وإحاطة الله بهم وهم لا يشعرون:
(بل الذين كفروا في تكذيب . والله من ورائهم محيط). .
ويقرر حقيقة القرآن , وثبات أصله وحياطته:
(بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ). .
مما يوحي بأن ما يقرره هو القول الفصل والمرجع الأخير , في كل الأمور .
هذه لمحات مجملة عن إشعاعات السورة ومجالها الواسع البعيد . تمهد لاستعراض هذه الإشعاعات بالتفصيل:
..