عرض مشاركة واحدة
  رقم المشاركة : [ 1  ]
قديم 2009-03-10, 1:38 PM
يمامة الوادي
عضو متميز بالمنتدى
الصورة الرمزية يمامة الوادي
رقم العضوية : 7644
تاريخ التسجيل : 19 - 6 - 2005
عدد المشاركات : 43,494

غير متواجد
 
افتراضي مقدمة سـورة تبارك ..
مقدمة سـورة تبارك ..
( حركـة حافلـة )
= = =
هذا الجزء كله من السور المكية .
كما كان الجزء الذي سبقه كله من السور المدنية .
ولكل منهما طابع مميز , وطعم خاص . .
وبعض مطالع السور في هذا الجزء من بواكير ما نزل من القرآن
كمطلع سورة "المدثر" ومطلع سورة "المزمل" .
كما أن فيه سورا يحتمل أن تكون قد نزلت بعد البعثة
بحوالي ثلاث سنوات كسورة "القلم" .
وبحوالي عشر سنوات كسورة "الجن"
التي يروى أنها نزلت في عودة رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الطائف , حيث أوذي من ثقيف . ثم صرف الله إليه نفرا من الجن
فاستمعوا إليه وهو يرتل القرآن , مما حكته سورة الجن في هذا الجزء .
وكانت هذه الرحلة بعد وفاة خديجة وأبي طالب قبيل الهجرة بعام أو عامين .
وإن كانت هناك رواية أخرى هي الأرجح
بأن السورة نزلت في أوائل البعثة .
والقرآن المكي يعالج - في الغالب - :
إنشاء العقيدة .. في الله وفي الوحي , وفي اليوم الآخر .
وإنشاء التصور المنبثق من هذه العقيدة لهذا الوجود وعلاقته بخالقه .
والتعريف بالخالق تعريفا يجعل الشعور به حيا في القلب ,
مؤثرا موجها موحيا بالمشاعر اللائقة بعبد يتجه إلى رب ,
وبالأدب الذي يلزمه العبد مع الرب , وبالقيم والموازين
التي يزن بها المسلم الأشياء والأحداث والأشخاص .
وقد رأينا نماذج من هذا في السور المكية السابقة ,
وسنرى نماذج منه في هذا الجزء .
.
والقرآن المدني يعالج - في الغالب - :
تطبيق تلك العقيدة وذاك التصور وهذه الموازين في الحياة الواقعية ;
وحمل النفوس على الاضطلاع بأمانة العقيدة والشريعة
في معترك الحياة ,
والنهوض بتكاليفها في عالم الضمير وعالم الظاهر سواء
. وقد رأينا نماذج من هذا في السور المدنية السابقة ومنها سور الجزء الماضي .
.
وهـــذه الســورة - سورة تبارك - :
تعالج إنشاء تصور جديد للوجود وعلاقاته بخالق الوجود .
تصور واسع شامل يتجاوز عالم الأرض الضيق وحيز الدنيا المحدود ,
إلى عوالم في السماوات , وإلى حياة في الآخرة .
وإلى خلائق أخرى غير الإنسان في عالم الأرض كالجن والطير ,
وفي العالم الآخر كجهنم وخزنتها .
وإلى عوالم في الغيب غير عالم الظاهر تعلق بها قلوب الناس ومشاعرهم ,
فلا تستغرق في الحياة الحاضرة الظاهرة , في هذه الأرض .
كما أنها تثير في حسهم التأمل فيما بين أيديهم
وفي واقع حياتهم وذواتهم مما يمرون به غافلين .
وهي تهز في النفوس جميع الصور والإنطباعات والرواسب الجامدة
الهامدة المتخلفة من تصور الجاهلية وركودها ;
وتفتح المنافذ هنا وهناك , وتنفض الغبار وتطلق الحواس والعقل والبصيرة
ترتاد آفاق الكون , وأغوار النفس , وطباق الجو , ومسارب الماء ,
وخفايا الغيوب , فترى هناك يد الله المبدعة ,
وتحس حركة الوجود المنبعثة من قدرة الله
. وتؤوب من الرحلة وقد شعرت أن الأمر أكبر ,
وأن المجال أوسع . وتحولت من الأرض - على سعتها - إلى السماء .
ومن الظواهر إلى الحقائق . ومن الجمود إلى الحركة
. مع حركة القدر , وحركة الحياة , وحركة الأحياء .
الموت والحياة أمران مألوفان مكروران .
ولكن السورة تبعث حركة التأمل فيما وراء الموت والحياة
من قدر الله وبلائه , ومن حكمة الله وتدبيره:
(الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا , وهو العزيز الغفور).
والسماء خلق ثابت أمام الأعين الجاهلة لا تتجاوزه إلى اليد التي أبدعته ,
ولا تلتفت لما فيه من كمال . ولكن السورة تبعث حركة التأمل والإستغراق
في هذا الجمال والكمال وما وراءها من حركة وأهداف:
( الذي خلق سبع سماوات طباقا . ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت
فارجع البصر هل ترى من فطور ?
ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير . .
ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين . ).
والحياة الدنيا تبدو في الجاهلية غاية الوجود , ونهاية المطاف .
ولكن السورة تكشف الستار عن عالم آخر هو حاضر للشياطين وللكافرين .
وهو خلق آخر حافل بالحركة والتوفز والانتظار:
( وأعتدنا لهم عذاب السعير . وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم
وبئس المصير . إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور .
تكاد تميز من الغيظ . كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها:
ألم يأتكم نذير ? قالوا:بلى ! قد جاءنا نذير فكذبنا
وقلنا:ما نزل الله من شيء ; إن أنتم إلا في ضلال كبير
وقالوا:لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير .
فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير ! .)
.
والنفوس في الجاهلية لا تكاد تتجاوز هذا الظاهر الذي تعيش فيه ,
ولا تلقي بالا إلى الغيب وما يحتويه . وهي مستغرقة في الحياة الدنيا
محبوسة في قفص الأرض الثابتة المستقرة
. فالسورة تشد قلوبهم وأنظارهم إلى الغيب وإلى السماء
وإلى القدرة التي لم ترها عين , ولكنها قادرة تفعل ما تشاء
حيث تشاء وحين تشاء ; وتهز في حسهم هذه الأرض الثابتة
التي يطمئنون إليها ويستغرقون فيها :
(إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير .
وأسروا قولكم أو أجهروا به , إنه عليم بذات الصدور .
ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ?
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها
وكلوا من رزقه وإليه النشور .
أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور ?
أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا ? فستعلمون كيف نذير). .
.
والطير . إنه خلق يرونه كثيرا ولا يتدبرون معجزته إلا قليلا .
ولكن السورة تمسك بأبصارهم لتنظر وبقلوبهم لتتدبر ,
وترى قدرة الله الذي صور وقدر:
(أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ?
ما يمسكهن إلا الرحمن , إنه بكل شيء بصير).
وهم آمنون في دارهم , مطمئنون إلى مكانهم ,
طمأنينة الغافل عن قدرة الله وقدره .
ولكن السورة تهزهم من هذا السبات النفسي ,
بعد أن هزت الأرض من تحتهم وأثارت الجو من حولهم ,
تهزهم على قهر الله وجبروته الذي لا يحسبون حسابه:
(أم من هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن ?
إن الكافرون إلا في غرور).
.
والرزق الذي تناله أيديهم , إنه في حسهم قريب الأسباب ,
وهي بينهم تنافس وغلاب .
ولكن السورة تمد أبصارهم بعيدا هنالك في السماء ,
ووراء الأسباب المعلومة لهم كما يظنون:
(أم من هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه ? بل لجوا في عتو ونفور). .
وهم سادرون في غيهم يحسبون أنهم مهتدون وهم ضالون .
فالسورة ترسم لهم حقيقة حالهم وحال المهتدين حقا ,
في صورة متحركة موحية:
(أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى ? أم من يمشي سويا على صراط مستقيم ?).
.
وهم لا ينتفعون بما رزقهم الله في ذوات أنفسهم من استعدادات ومدارك ;
ولا يتجاوزون ما تراه حواسهم إلى التدبر فيما وراء هذا الواقع القريب .
فالسورة تذكرهم بنعمة الله فيما وهبهم , وتوجههم إلى استخدام هذه الهبة
في تنور المستقبل المغيب وراء الحاضر الظاهر ,
وتدبر الغاية من هذه البداية:
( هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة , قليلا ما تشكرون .
قل:هو الذي ذرأكم في الأرض وإليه تحشرون) . .
وهم يكذبون بالبعث والحشر , ويسألون عن موعده .
فالسورة تصوره لهم واقعا مفاجئا قريبا يسوؤهم أن يكون:
(ويقولون:متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ?
قل إنما العلم عند الله , وإنما أنا نذير مبين .
فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا ,
وقيل:هذا الذي كنتم به تدعون !). .
.
وهم يتربصون بالنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه أن يهلكوا
فيستريحوا من هذا الصوت الذي يقض عليهم مضجعهم بالتذكير
والتحذير والإيقاظ من راحة الجمود !
فالسورة تذكرهم بأن هلاك الحفنة المؤمنة أو بقاءها لا يؤثر
فيما ينتظرهم هم من عذاب الله على الكفر والتكذيب
, فأولى لهم أن يتدبروا أمرهم وحالهم قبل ذلك اليوم العصيب:
(قل:أرأيتم إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا
فمن يجير الكافرين من عذاب أليم ?
قل:هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين).
.
وتنذرهم السورة في ختامها بتوقع ذهاب الماء الذي به يعيشون ,
والذي يجريه هو الله الذي به يكفرون !
(قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين ). .
إنها حركة . حركة في الحواس , وفي الحس ,
وفي التفكير , وفي الشعور .
ومفتاح السورة كلها , ومحورها الذي تشد إليه تلك الحركة فيها ,
هو مطلعها الجامع الموحي :
.
الدرس الأول :
الله المـــالك القـــادر
( تبارك الذي بيده الملك , وهو على كل شيء قدير). .
وعن حقيقة الملك وحقيقة القدرة تتفرع سائر الصور
التي عرضتها السورة , وسائر الحركات المغيبة والظاهرة
التي نبهت القلوب إليها . .
فمن الملك ومن القدرة كان خلق الموت والحياة , وكان الابتلاء بهما .
وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح وجعلها رجوما للشياطين .
وكان إعداد جهنم بوصفها وهيئتها وخزنتها .
وكان العلم بالسر والجهر . وكان جعل الأرض ذلولا للبشر .
وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذبين الأولين .
وكان إمساك الطير في السماء . وكان القهر والاستعلاء .
وكان الرزق كما يشاء . وكان الإنشاء وهبة السمع والأبصار والأفئدة
. وكان الذرء في الأرض والحشر . وكان الاختصاص بعلم الآخرة .
وكان عذاب الكافرين
. وكان الماء الذي به الحياة وكان الذهاب به عندما يريد . .
فكل حقائق السورة وموضوعاتها , وكل صورها وإيحاءاتها
مستمدة من إيحاء ذلك المطلع ومدلوله الشامل الكبير:
( تبارك الذي بيده الملك , وهو على كل شيء قدير )!!
وحقائق السورة وإيحاءاتها تتوالى في السياق , وتتدفق بلا توقف ,
مفسرة مدلول المطلع المجمل الشامل ,
مما يصعب معه تقسيمها إلى مقاطع !
ويستحسن معه استعراضها في سياقها بالتفصيل :
.
ثم شرع رحمه الله في تفسير الآيات
ابو عبد الرحمن