من أسرار القرآن
الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية
(134) لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم
*( التين:4)*
بقلم الدكتور: زغـلول النجـار
هذه الآية الكريمة جاءت في منتصف سورة التين, وهي سورة مكية, ومن قصار السور في القرآن الكريم, إذ يبلغ عدد آياتها ثماني آيات فقط بعد البسملة, وقد سميت بهذا الاسم لورود القسم في مطلعها بتلك الثمرة المباركة المعروفة باسم التين, والتي وصفها المصطفي( صلي الله عليه وسلم) بقوله الشريف: لو قلت إن فاكهة نزلت من الجنة قلت التين, لأن فاكهة الجنة بلا عجم, كلوا منه فإنه يقطع البواسير وينفع النقرس,( وعجم جمع عجمة, وهي النواة).
وهذه الآية الكريمة هي الوحيدة في كل القرآن الكريم التي جاءت فيها الإشارة إلي التين, وأتبع القسم بهذه الثمرة المباركة بثلاث صيغ أخري من القسم بالزيتون, وطور سينين, وبالبلد الأمين( وهو مكة المكرمة) علي أن الله( تعالي) قد خلق الإنسان في أحسن تقويم, والله( تعالي) غني عن القسم لعباده.
ويدور المحور الرئيسي للسورة الكريمة حول قضايا خمس يمكن ايجازها فيما يلي:
(1) أن الله( سبحانه وتعالي) هو خالق الإنسان وخالق كل شئ, وأن الله الخالق البارئ المصور هو القائل:
(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم*)
(التين:4)
بمعني أن الله( تعالي) قد كرم الإنسان بخلقه في أجمل تركيب, وأعدل هيئة: في تفاصيل جسده, واستقامة عوده, وارتفاع هامته, وتناسق أبعاده ورجاحة عقله, وحرية إرادته, وطلاقة لسانه, وقوة بيانه, وقدراته النفسية والروحية الهائلة, وملكاته العديدة وفطرته السليمة, وغير ذلك من الصفات التي خصه الخالق العظيم بها, وفضله بذلك علي كثير ممن خلق تفضيلا.
(2) أن هذا التكريم الالهي للإنسان يقتضي ترفعه عن الدنايا, والتزامه بالمحافظة علي سلامة الفطرة التي فطره الله( تعالي) عليها, والارتقاء بنفسه إلي مناطات التكريم التي كرمه الله( سبحانه وتعالي) بها, وأولها فهم رسالته في هذه الحياة, وحقيقة عبوديته لله. فيعبده( تعالي) بما أمر, وبحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض بعمارتها وإقامة عدل الله فيها. فإذا انحرف عن هذه الرسالة, أو تمرد عليها رده الله( تعالي) إلي أسفل سافلين, وعاقبه في الآخرة بنار الجحيم وبالذل المهين, وتصبح المخلوقات غير المكلفة من دونه أرفع منه قدرا عند الله( سبحانه وتعالي), لاستقامتها علي الفطرة, وقيامها بالسجود والتسبيح وبغير ذلك من أوجه العبادة التسخيرية لله( تعالي), وأداء وظيفتها في هذه الحياة علي الوجه الذي سخرها له الله بعلمه وحكمته وقدرته.
(3) وتستثني الآيات من هذا الارتكاس إلي أسفل سافلين, والبقاء عند مناطات التكريم الذي كرم الله( تعالي) به بني آدم من وصفتهم بالايمان والعمل الصالح, الذين يحافظون علي فطرتهم السليمة, ويجودونها بالمواظبة علي عبادة الله( تعالي) بما أمر, وبحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض وبإقامة عدل الله فيها فيرتقون في معراج الله الذي لاتحده حدود حتي يلقوا الله( سبحانه وتعالي) وهو راض عنهم فيجزل لهم المثوبة, ويضاعف لهم الأجر, ولذلك أردفت الآية الكريمة بقول الحق( تبارك وتعالي):.. فلهم أجر غير ممنون*.
(4) أن وسيلة الإنسان لمعرفة ذاته, وخالقه, ورسالته في هذه الحياة, ومصيره من بعدها هو الدين الذي علمه الله( جل جلاله) لكل من أبينا آدم وأمنا حواء( عليهما السلام) لحظة خلقهما, ثم أنزله علي فترة من الرسل, وأكمله وأتمه وحفظه في رسالته الخاتمة التي أنزلها علي خاتم أنبيائه ورسله( صلي الله وسلم وبارك عليه وعليهم أجمعين) ولذلك تعهد بحفظها في نفس لغة وحيها( اللغة العربية) علي مدي الأربعة عشر قرنا الماضية وإلي أن يرث الله( سبحانه وتعالي) الأرض ومن عليها. والدين هو بيان من الله( جل شأنه) للإنسان في القضايا التي لايستطيع الإنسان أن يضع لنفسه فيها أية ضوابط صحيحة, وذلك من مثل قضايا العقيدة( وكلها غيب مطلق), والعبادة[ وكلها أوامر مطلقة من الله سبحانه وتعالي أو من رسوله( صلي الله عليه وسلم)], والأخلاق والمعاملات( وكلاهما من ضوابط السلوك, والتاريخ يؤكد لنا عجز الانسان دوما عن أن يضع لنفسه بنفسه ضوابط للسلوك) ومن هنا كانت ضرورة الدين, وضرورة أن يكون الدين ربانيا خالصا لا يداخله أدني قدر من المداخلات البشرية, لأن الإنسان لايستطيع أن يحيا حياة سوية علي هذه الأرض بغير دين, وأن الدين لايمكن أن يكون صناعة بشرية, وانطلاقا من ذلك يتضح لنا بجلاء أن الدين الوحيد الذي تعهد ربنا( تبارك وتعالي) بحفظه هو الدين الخاتم الذي بعث به النبي الخاتم( صلي الله عليه وسلم) والذي قال فيه( عز من قائل):
إن الدين عن الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب*
(آل عمران:19)
وقال( جل شأنه):
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون*
(الحجر:9).
ولذلك يأتي الخطاب في الآية السابعة من سورة التين بقول الحق( تبارك وتعالي):
فما يكذبك بعد الدين*؟
والخطاب هنا موجه للانسان الكافر, المكذب بالدين, ولذلك جاء بصيغة التوبيخ والتقريع, والاستفهام الإنكاري, بمعني: أي شئ يضطرك إلي أن تكون كاذبا بسبب تكذيبك بالدين, والدين حق, وكل مكذب للحق فهو كاذب.
(5) تقرير أن الله( سبحانه وتعالي) هو أحكم الحاكمين, وتورد الآية الثامنة في ختام سورة التين هذه الحقيقة في صيغة الاستفهام التقريري المنفي للتأكيد علي صحة ما جاء بعد النص فيقول الحق( تبارك وتعالي):
أليس الله بأحكم الحاكمين*؟
أي: أليس الله بأعدل العادلين, وأليست حكمته في قضائه بين عباده تدل علي أنه أبلغ القضاء وأحكمه, وأحقه وأعدله؟ ولذلك يروي عن أبي هريرة( رضي الله عنه) أن رسول الله( صلي الله عليه وسلم) قال:.. فإذا قرأ أحدكم( والتين والزيتون) فأتي آخرها:( أليس الله بأحكم الحاكمين*) فليقل: بلي وأنا علي ذلك من الشاهدين.
وقد يشير هذا الاستفهام التقريري في ختام سورة التين أيضا إلي إتقان الصنعة وحسن التدبير في خلق الانسان في أحسن هيئة, وأعدل قامة, مزودا بالعقل والإرادة الحرة, وبالقدرة علي السمع والبصر والنطق والتعبير عن الذات, وعلي كسب المعارف والمهارات, وبغير ذلك من الملكات التي خصه بها الله( تعالي).
وتبدأ السورة الكريمة بقسم من الله تعالي بكل من التين والزيتون, وربنا( تبارك وتعالي) غني عن القسم لعباده, ولكن إذا جاءت الآية القرآنية الكريمة بصيغة القسم كان هذا من قبيل التنبيه الي أهمية الأمر المقسم عليه, فما هي الأهمية لهاتين الثمرتين المباركتين( التين والزيتون), وما هي أهمية منابتهما الأصلية؟
روي عن ابن عباس( رضي الله عنهما) قوله:( هو تينكم الذي تأكلون, وزيتونكم الذي تعصرون منه الزيت), ولكن نظرا للعطف علي هذا القسم بقسم آخر بمكانين مباركين هما طور سينين( سيناء), والبلد الأمين( وهو مكة المكرمة) لجأ بعض المفسرين إلي استنتاج الدلالة بالتين والزيتون علي منابتهما الأصلية من الأرض, فطور سينين هو الجبل الذي نودي موسي( عليه السلام) من جانبه, وهو جبل في شبه جزيرة سيناء أو سينا ومعناها:( المباركة الحسنة), والجبل معروف اليوم باسم طور سيناء( أو جبل موسي او جبل المناجاة). والبلد الأمين هو مكة المكرمة, وحرمها الآمن, وبه الكعبة المشرفة( أول بيت وضع للناس), وعلاقة هذين المكانين المباركين بوحي السماء لاينكرها إلا جاحد.
وعطف القسم بهذين المكانين المباركين علي القسم بكل من التين والزيتون حدا بأعداد من المفسرين إلي الاستنتاج بأن القسم بهاتين الثمرتين قد يتضمن من أحد جوانبه الاشارة الي كرامة منابتهما الأصلية من الأرض, وذلك من مثل كل من بيت المقدس( وبجواره طور زيتا) وبه المسجد الأقصي المبارك الذي ندعو الله تعالي أن يطهره من دنس الصهاينة المجرمين, وأن يعيننا علي تحريره, وتحرير كامل أرض فلسطين من احتلالهم الجائر البغيض, وتحرير كامل أراضي المسلمين المحتلة والمغصوبة من مثل أراضي العراق وأفغانستان, وكشمير والشيشان من ربقة المحتلين الغاصبين, أعداء الله, والانسانية والدين, اللهم آمين آمين آمين يارب العالمين.
ومن أشهر منابت كل من التين والزيتون( بأنواعهما المتميزة) كل من بلاد الشام, وجنوب شرقي تركيا, والأولي بها طور تينا بجوار دمشق, وهي أرض المحشر, والثانية بها مرسي سفينة نوح( عليه السلام) وبقايا مسجده علي جبل الجودي.
وعلي الجانب الآخر فإن كلا من طور سيناء, وبيت المقدس, ومكة المكرمة قد بعث الله( سبحانه وتعالي) فيه نبيا من أنبيائه ورسولا من أولي العزم, فبيت المقدس بعث الله( تعالي) فيه عبده ورسوله عيسي ابن مريم( عليهما السلام), وعلي الجانب الأيمن من طور سينين ناجي الله( سبحانه وتعالي) عبده ورسوله موسي بن عمران( عليه السلام) ومكة المكرمة بعث فيها خاتم الأنبياء والمرسلين( صلي الله عليه وسلم), وزارها معظم أنبياء الله ورسله, ومدفون بها عدد كبير منهم( عليهم السلام).
وبعد هذا القسم المركب الذي استغرق الآيات الثلاث الأولي من سورة التين يأتي جواب القسم بقول الحق( تبارك وتعالي):
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم* ثم رددناه أسفل سافلين* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون*
(التين:4 ـ6)
ثم ختمت السورة الكريمة بهذا الاستفهام الاستنكاري, التوبيخي, التقريعي لكل كافر, ومشرك, وضال عن الحق يقول له فيه ربنا( تبارك وتعالي):
فما يكذبك بعد بالدين. أليس الله بأحكم الحاكمين*( التين:7:8)