ليكون لها شمعة..!
رجاء محمد الجاهوش
أغمَضت عَينيْها مُحاوِلةً الاسترخاء، فقد كانَ يَومها - بَل يوم العالَم بأسْره - مُختلفاً..!
أرهقتْها صورُ القتلى والجَرحى والدَّمار التي ما فتِئت تُشاهدها مُنذ الصَّباح، وآلمَها هَوانُ الدّمِ المُسلم، فبَكت، وصَدى بُكائها: "لَزَوَال الدُّنْيَا أَهوَنُ على اللهِ من قَتْلِ مُسلمٍ..!".
أغمَضت عينيها بهدوءٍ، وغَفَتْ، فكم هي بحاجَةٍ إلى ساعةِ نومٍ - فقط ساعَة - لتستيقظ بَعدها وتلزم مُصلاَّها.
في هَدْأَةِ الليل وسُكونِه انسلَّت مِن سَريرها، ومَشت بتؤدَةٍ تتفقد أهلَ بَيتها، وهي تدعو الله أن يَحفظهم بحفظِهِ، ويَكلأهم برعايتِهِ، ثمَّ توضَّأت وجَلست بين يَدَيِ الله تستغفره وتسبِّحه وتناجيه...
تتفكّر في كلِّ ما مرّ عليها في يومِها، تبحَثُ عن مَخرجٍ وسط كلّ هذه المَتاهات، يُعييها التفكير فتستقبل القِبلة وتكبّر ثم تشرع بالصّلاة:
تركع، تسجد، ويطول سجودُها..!
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [سورة الجمعة: 8].
أرعَبتها هذه الآية كما أرعَبتها صوَرُ المَوت المُبعثرة هنا وهناك، ردَّدتها كثيرًا كمن يريدُ حفظ شيء في ذاكرتِهِ فلا يَبرَحه، وترسيخ معنًى في نفسِهِ فلا يُفارقه!
تذكّرتْ تلك الليلة..!
ليلة أطفأتْ صَديقتها صَفاءُ - التي تشاركها الغرفةَ في السَّكن الجامِعي - الأنوارَ ولفّت نفسَها بلِحافها، متخيّلةً نفسَها داخل قبرِها وقد فارَقها الأهلُ والأصحاب!
كانت تريد لذلك القلب الثاوي بين الضلوع أن يرقَّ بذكر هَاذِمِ الَّلذَّاتِ، ولهذه الرُّوح الأسيرَة أن تحلّق في سَماواتِ العُبوديَّة الحقّة...
"كم من الوقتِ مرّ - يا صفاء - على ذلك الموقف؟!
سِنِينٌ وسِنينٌ، وها هُوَ يَحضر أمامي الليلة كأنَّه الأمس القريب!".
تحدّثها نفسها بخوض ذاتِ التَّجربَة إلاّ أنّها تخشى أن يَستيقظ أحدٌ مِن أهلِ البيتِ فيفزَع إذا رآها على تلكَ الحالة.
ابتسمَت لذلك الخاطر الذي زارها...
"سأفعلُ كما تفعل صَغيرتي وأختبئ في خِزانة مَلابسي...
سأضُمُّ بَعضي إلى بَعضي ليسَعني المَكان، مُستشعرةً حال مَن يَجلسون في الظلام، لا يَملكون سِوى شمْعَةٍ، وأولئك الذين يَرقدون تحتَ الرُّكام وهُم أحياءٌ، حيث لا ماء ولا نسْمَة هواء".
أطفأتْ أنوارَ الغرفة، وجَلبَت هاتفها النَّقال ليكونَ لها شَمْعَة، ثمَّ اندسَّت في خزانة مَلابِسها وأحكمت إغلاقها...
ظلامٌ دامِسٌ، مَكانٌ ضيّقٌ، والهواء النَّقي كادَ أن يَنفدَ!
رُحماكَ يا الله!
رُحماكَ يا الله!
رُحماكَ يا الله!
سَطعَ النور فجأةً، ويَدٌ قاسِيَةٌ اقتلعَتها مِن مَكانها ثمَّ هَوَتْ بها إلى الأرض، ودويُّ صوتِه أصَمَّ المَدى:
- ماذا تفعلين هُنا؟!..
معَ مَن تتحدّثين في هذه السَّاعَة المُتأخرة مِن اللّيل يا...؟!!